طوبيا وعمل الرحمة وإصابته بالعمى
(1) تمسك طوبيا بأعياد الرب وأعمال الرحـمة (ع 1-9):
1 وكان بعد ذلك فى يوم عيد الرب أن صنعت مأدبة عظيمة فى بيت طوبيا. 2 فقال لابنه هلم فادع بعضًا من سبطنا من المتقين لله ليأكلوا معنا. 3 فانطلق ثم عاد فأخبره أن واحدًا من بنى إسرائيل مذبوح ملقى فى السوق. فلما سمع طوبيا نهض من موضعه مسرعًا وترك العشاء وبلغ الجثة وهو صائم. 4 فرفعها وحملها إلى بيته سراً ليدفنها بالتحفظ بعد مغيب الشمس. 5 وبعد أن خبأ الجثة أكل الطعام باكيًا مرتعدًا. 6 فذكر الكلام الذى تكلم به الرب على لسان عاموس النبى أيام أعيادكم تتحول إلى عويل ونحيب. 7 ولما غربت الشمس ذهب ودفنها. 8 وكان جميع ذوى قرابته يلومونه قائلين لأجل هذا أُمر بقتلك وما كدت تنجو من قضاء الموت حتى عدت تدفن الموتى. 9 وأما طوبيا فإذ كان خوفه من الله أعظم من خوفه من الملك كان لا يزال يخطف جثث القتلى ويخبأها فى بيته فيدفنها عند انتصاف الليل.
ع1: يتضح من سلوك طوبيا، أنه كان متمسكًا بالناموس وبأعياد الرب، رغم وجوده فى السبى بين الأمم بعيدًا عن أورشليم. وكان يستغل هذه المناسبات، لعمل ولائم محبة، تربط شعب الله فى الغربة بعضهم بالبعض، وتشجعهم وسط الضيقات، بالإضافة إلى أنها فرصة لدعوة الفقراء والمحتاجين.
وكان هذا العيد هو عيد العنصرة (كما يذكر النص المطول لهذا السفر) وهو عيد الأسابيع والذى تدعو الشريعة فيه إلى الاهتمام بالفقراء والغرباء والمحتاجين (تث16: 11، 12)، فكان طوبيا مهتمًا بالأكثر بهذا العيد وعمل وليمة كبيرة، دعى فيها إخوته اليهود، خاصة الفقراء.
ع2: فكان يطلب من ابنه، أن يدعو متقى الله من سبطه؛ ليشاركوه فى هذه الوليمة. لذا تهتم الكنيسة فى العهد الجديد بإقامة الأعياد المقدسة، التى يجتمع فيها المؤمنون حول مائدة الرب، أى مذبحه المقدس ويتناولون من جسده ودمه الأقدسين، فهذا يشجعهم أثناء غربتهم فى هذا العالم، كما أنها فرصة للاهتمام بالفقراء والمحتاجين؛ ليفرحوا مع كل المؤمنين.
ع3: ويظهر أيضًا اقتداء طوبيا الابن بأبيه فى عمل الرحمة، فبينما هو يدعو اليهود الاتقياء المهتمين بأعياد الرب؛ لحضور الوليمة، لاحظ فى ساحة السوق أحد اليهود مذبوحًا وملقى على الأرض، ممن تمتد إليهم يد الحاكم المضطهد، فأسرع يخبر والده طوبيا بما رآه، فترك الأب الوليمة ولم يأكل؛ ليعمل الرحمة أولاً.
ع4: فأسرع طوبيا وحمل الجثة بهدوء وأخفاها فى بيته، حتى يأتى الليل، فيستطيع أن يدفنها بعيدًا عن أعين جنود الحاكم، الذين يريدون التنكيل باليهود، وهنا تظهر محبة طوبيا لعمل الرحمة، قبل راحته وأفراحه وطعامه الضرورى.
ويذكر النص المطول تمسك طوبيا بالشريعة، فاغتسل بعد انقضاء اليوم وبهذا تطهر واستطاع أن يأكل من الوليمة، فهو مدقق فى تطبيق الشريعة فى أصعب الظروف، إذ تقضى الشريعة أن على من يتنجس بلمس ميت أن يظل نجسًا حتى المساء ثم يغتسل، فيصير طاهرًا، فيستطيع أن يأكل ويلمس كل شئ (لا22: 6).
ع5: وتظهر هنا أيضًا مخافة الله فى قلب طوبيا، إذ شعر بأن سماح الله بقتل أبناء شعبه؛ هو لكثرة خطاياهم وبعدهم عن الله، فكان قلبه خاشعًا، خائفًا الله، ممتزجًا بمشاعر الحب والتأثر على موت الأحباء ومشاركًا أحزان أسرة الشهيد عليه. فطوبيا يحمل قلبًا مملوءً بالحب لله وللآخرين.
ع6: إلى جانب ذلك، كان طوبيا واعيًا ودارسًا للأسفار المقدسة، متأثرًا بها، فتذكر أقوال الأنبياء ومنهم عاموس (عا8: 10)، الذى نبه وأنذر بقضاء الرب، أن تتحول الأعياد إلى نوح وبكاء؛ ليرجع الناس بالتوبة لله وعاموس النبى كان يسبق طوبيا بحوالى مائة وخمسين عامًا.
ع7: وفى ستار الليل وظلمته، استطاع طوبيا أن يدفن جثة الشهيد، بعيدًا عن أعين جنود الحاكم.
ع8: واندهش المجتمعون فى وليمة بيته، بل وكل أقربائه من استمراره فى عمل الرحمة ودفن الموتى؛ لأنه بهذا السبب أمر الملك سنحاريب قبلاً بقتله، وهرب طوبيا ونجاه الله، كما ذكرنا، ووبخوه وحذروه من دفن الموتى ومساعدة المحتاجين؛ لأنه بهذا يعرض نفسه للموت الأكيد.
ع9: وهنا يظهر إيمان طوبيا ومخافته لله، فلم يهتز ويخاف من كلامهم، بل استمر فى عمل الرحمة. وقد حفظه الله، فلم تمتد يد الملك إليه.
إذا كان إيمان الإنسان بالله قويًا ، سيخاف الله ويهتم بتنفيذ وصاياه، دون الاهتمام بكلام المحيطين به، بل وأيضًا يتخلى عن فكره الشخصى، إذ يثق فى قوة الوصية. ولأجل محبته لله، يكون مستعدًا أن يضحى بحياته وحينئذ تتجلى نعمة الله التى تحفظه، بل وتباركه وتميزه عن كل من حوله، كما حدث مع دانيال النبى، الذى القى فى جب الأسود؛ لتمسكه بالصلاة لله، فأرسل الله ملاكه وسد أفواه الأسود وأنقذه ورفعه الملك إلى مكانة أعظم وقتل المشتكين عليه.
إحذر أن يكون خوفك على من حولك سببًا فى تثبيط همتهم وإثنائهم عن عبادة الله وخدمته.
(2) إصابة طوبيا بالعمى وثباته فى الإيمان (ع10-18):
10 واتفق فى بعض الأيام وقد تعب من دفن الموتى أنه وافى بيته فرمى بنفسه إلى جانب الحائط ونام. 11 فوقع ذرق من عش خطاف فى عينيه وهو سخن فعمى. 12 وإنما أذن الرب أن تعرض له هذه التجربة لتكون لمن بعده قدوة صبره كأيوب الصديق. 13 فإنه إذ كان لم ينفك عن تقوى الله منذ صغره وحافظًا لوصاياه لم يكن يتذمر على الله لما ناله من بلوى العمى. 14 ولكنه ثبت فى خوف الله شاكرًا له طول أيام حياته. 15 وكما كان القديس أيوب يعيره الملوك كان أنسباء هذا وذووه يسخرون من عيشته قائلين. 16 أين رجاؤك الذى لأجله كنت تبذل الصدقات وتدفن الموتى.
17 فيزجرهم طوبيا قائلاً لا تتكلموا كذا. 18 فإنما نحن بنو القديسين وإنما ننتظر تلك الحياة التى يهبها الله للذين لا يصرفون إيمانهم عنه أبدًا.
ع10: وافى : وصل إلى.
استمر طوبيا فى اهتمامه بدفن جثث الشهداء، رغم ما تحتاجه من مجهود كبير. وفى أحد الأيام، بعد عناء دفن الكثيرين، وكان عمره حينذاك ستة وخمسين عامًا، عاد إلى بيته وكان متعبًا جدًا ومن شدة تعبه، نام فور وصوله إلى البيت، مستندًا على حائط خارج بيته.
ع11: ذرق : فضلات (براز) الطائر.
خطاف : طائر السنونو وهو نوع من الطيور والقواطع عريض المنقار دقيق الجناح طويله منتفش الذيل.
وكان جلوسه تحت عش طائر، فسقط من العش فضلات (براز) هذا الطائر وكانت ساخنة، فوقعت على عينيه ولعله أفاق من نومه على هذه المواد الساخنة والتى تحوى أحماضًا، أو موادًا شديدة الضرر بالعين؛ فأفقدته بصره وصار أعمى لا يرى شيئًا.
ويلاحظ أن فضلات هذا الطائر عبارة عن سائل لزج، إذا وقع على العين انتشر عليه وامتص بسرعة. ودرجة حرارته حوالى إثنين وأربعين درجة مئوية ويحوى على يورك أسيد (Uric acid)، الذى يهيج جفون العين وكذلك يحتوى على النشادر (الأمونيا)، التى تسبب تلف خلايا العين وتوقف العمليات الحيوية بها. وبهذه الفضلات أيضاً بعض الأملاح، التى تتلف شبكية العين. وحيث أنه لم تكن هناك وسائل سريعة لإسعاف العين، فقد فقدت القدرة على الإبصار. *
ع12: يعلن الوحى الإلهى قصد الله من هذه التجربة الصعبة، أن يتزكى طوبيا وتظهر فضيلة الصبر فيه ويكون قدوة للآخرين ومثالاً فى الصبر كأيوب.
وهناك تشابه بين سفرى أيوب وطوبيا يظهر فيه ما يلى :
- كان الإثنان مثالاً للصبر.
- الإصحاح الأول فى كل منهما يتحدث عن شخصيته.
- تظهر علاقة الملائكة بالبشر فى السفرين.
- يظهر حسد الشيطان ومقاومته لأولاد الله الأتقياء فى السفرين، ثم انتصارهم عليه بقوة الله.
- اهتمام الله بكل صلوات وكلمات البشر الطيبة والردية تظهر واضحة فى السفرين.
- تذمر الزوجة والأصدقاء ولومهم لأيوب وطوبيا.
- إعلان الله صوته بوضوح فى نهاية السفر، سواء بنفسه فى حالة أيوب، أو عن طريق رئيس ملائكته فى حالة طوبيا.
- إختتام كلا السفرين ببركات الله لمن يتقيه، أى أيوب وطوبيا.
ع13: لم ينفك : لم يزل.
وقد حدث ذلك فعلاً؛ إذ استمر طوبيا فى تقواه وحفظ وصايا الله، راضيًا بهذه التجربة.
ع14: وقد ظل طوبيا بعد التجربة أيضًا، شاكرًا الله، مدققًا فى سلوكه بمخافة الله.
ع15: ذووه : أقاربه.
وتظهر فضائل طوبيا فى احتماله التعيير وثباته فى الإيمان، مثل القديس أيوب، الذى أحتمل تعييرات من أصدقائه الأغنياء، الذين هم ملوك فى أراضيهم.
ع16: فكان أقارب طوبيا وأصدقاؤه يعيرونه بمرضه ويحاولون دفعه لليأس من الله، الذى تركه يصاب بهذه التجربة ويشككونه فى جدوى وفائدة كل أعمال الرحمة التى عملها.
ع17: أما هو فوبخهم، حتى لا يتكلموا بمثل هذا الكلام.
ع18: وأعلن لهم بأنهم شعب الله المقدسين فيه وبنو القديسين، يحيون لرجاء الحياة الأبدية؛ لذلك يعملون كل الفضائل وأعمال الرحمة ولا يهتمون بالأرضيات، مهما أتتهم التجارب، بل يظلوا ثابتين فى إيمانهم.
يذكر النص المطول أن أخيكار إبن أخى طوبيا، الذى كان قد ساعده على الرجوع إلى وظيفته بعد موت سنحاريب (ص1: 25)، إهتم به بعد فقد نظره، فكان يعوله لمدة سنتين ويهتم بشئونه، ثم عاد إلى بلده التى كان يقيم فيها وهى ألمايس (عيلام) وبهذا أصبح طوبيا محتاجًا جدًا لقوته اليومى.
ثق أن كل تجربة تمر بك، مهما كانت صعبة، فهى بسماح من الله، لمنفعتك. وإن كان إبليس، أو الناس الأشرار يقصدون بك شرًا، فالله سيحول الشر إلى خير. المهم أن تتقبل التجربة برضى وشكر من يد الله وتلتجئ لله بالتوبة والصلاة وتواظب على الممارسات الروحية. وثق أيضًا أن التجربة ضرورية لخلاصك؛ لتتزكى أمام الله وتجد مكانًا عظيمًا فى السموات.
(3) تعييرات زوجته (ع19-22):
19 وكانت حنة امرأته تذهب كل يوم إلى الحاكة وتأتى من تعب يديها بما يتأتى لها تحصيله من الميرة. 20 وأتفق أنها أخذت جديًا وحملته إلى البيت. 21 فلما سمع بعلها صوت ثغاء الجدى قال انظروا لعله يكون مسروقًا فردوه على أربابه إذ لا يحل لنا أن نأكل ولا نلمس شيئًا مسروقًا.
22 فأجابته امرأته وهى مغضبة قد وضح بطلان رجائك وصدقاتك الآن قد عرفت. وبهذا الكلام ومثله كانت تعيره.
ع19: الحاكة : الخياطة.
ميرة : أطعمة.
إذ عجز طوبيا البار عن العمل وفارقه إبن أخيه أخيكار، لفقده بصره، اضطرت زوجته حنة أن تعمل خارج بيتها. وهذا لم يكن معتادًا فى ذلك الزمان، فإذ كانت تعرف الخياطة ذهبت إلى مشغل يقوم بتفصيل الملابس وعملت عندهم وما كانت تتقاضاه أجرًا، كانت تشترى به أطعمة.
ع20: واستطاعت حنة أن تجمع بعض النقود واشترت جديًا وأتت به إلى المنزل.
ع21: بعلها : زوجها.
ثغاء : صوت الجدى.
أربابه : أصحابه.
فحين سمع طوبيا الأعمى صوت الجدى تعجب، فمن أين لزوجته بثمن الجدى ! وهذا يظهر مدى الفقر الذى وصلت إليه أسرة طوبيا، إذ كانوا يقتاتون بالطعام الضرورى القليل. فظن طوبيا وخاف أن تكون امرأته، أو ابنه، تحت ضغط الفقر والاحتياج، قد سرقوا هذا الجدى؛ فطلب إعادته إلى أصحابه، وهنا يظهر مدى تقوى وأمانة وتمسك طوبيا بوصايا الله وسط الضيقة، فهو حقًا طوبيا المطوب من الله لقداسته.
ع22: أما حنة زوجته والتى معنى اسمها حنان، فهى تمثل الحنان البشرى المحدود، فقد عملت لأجل إعاله أسرتها ولكن بضيق. وأمام ظن زوجها أن يكون الجدى مسروقًا، غضبت بشدة وأعلنت تذمرها الدفين فى قلبها وعيرت زوجها الأعمى، معلنة بطلان رجائه وصدقاته؛ إذ تركه الله يسقط فى هذه التجربة الصعبة. مع هذا فقد احتمل القديس طوبيا كلامها، ثابتًا فى إيمانه.
ويظهر هنا الفرق بين قبول التجربة من الله وبين احتمالها؛ لأنه لا فرار منها. ففى الحالة الأولى، يشعر الإنسان بمعونة الله تقويه فى التجربة ويشعر بسلام داخلى وينال بركات وفيرة. وهذا ما فعله طوبيا. أما فى الحالة الثانية، فالإنسان يحتمل؛ لأنه لا يوجد بديل آخر ويعتمد لا على الله، بل على ذاته، فيسقط فى الضيق والاكتئاب والتذمر وأحيانًا اليأس ويسئ للآخرين. وهذا ما فعلته حنة امرأة طوبيا.
تمسك بالله فى الضيقة والسعة وتمتع بعشرته كل حين؛ فلا تشعر بالضيق طوال حياتك.