وصية طوبيا لابنه
(1) إكرام والدته (ع1-5):
1 وإذ خال طوبيا أن قد استجيبت صلاته وتهيأ له أن يموت استدعى إليه طوبيا ابنه. 2 وقال له اسمع يا بنى كلمات فىَّ واجعلها فى قلبك مثل الأساس. 3 إذا قبض الله نفسى فادفن جسدى وأكرم والدتك جميع أيام حياتها. 4 واذكر ما المشقات التى عانتها لأجلك فى جوفها وما كان أشدها. 5 ومتى أستوفت هى أيضًا زمان حياتها فادفنها إلى جانبى.
ع1: خال : ظن.
بعدما صلى طوبيا اطمأن قلبه، وشعر أن الله سيستجيب له ويخلصه من ضيقته، وهذا يظهر إيمانه القوى ولكنه تخيل، أو ظن أن إنقاذه من الضيقة سيكون بإنهاء حياته (الله استجاب فعلاً ولكنه وضع حلاً آخراً لضيقته، بشفائه من مرضه، كما سيظهر فيما بعد).
يا لسعادة الإنسان الذى يؤمن باستجابة الله لصلاته؛ إذ يستريح قلبه ويطمئن أنه قد ألقى مشكلته، بل وحياته كلها فى اليد الأمينة التى ترعاه وتحبه أكثر من نفسه.. ألا وهى يد الله الحانية. وعلى قدر ما يوجه قلبه بالصلاة نحو الله فى كل احتياجاته، يشعر بسلام يفوق كل عقل ويتمتع بفرح دائم.
ع2: ولذا استدعى طوبيا ابنه ليوصيه وصيته الأخيرة وهى نصائح غالية جدًا، يحتاجها كل إنسان، إذ تمثل خلاصة فكر القديس طوبيا الذى طلب من ابنه أن يجعلها أساسًا لحياته.
ع3: كان إيمان طوبيا الأب أن الله هو الذى سوف يأخذ روحه عند الموت، وهذا إيمان كل أولاد الله، فأوصى ابنه حينئذ بدفن جسده.
ع4: ثم أوصاه بإكرام والدته، مذكرًا اياه بما احتملته من أجله فى الحبل والولادة وفى كل رعايتها له، وهذا ما ينبغى أن يتذكره كل إنسان، فيتذكر كل ما احتمله والداه لأجله؛ فيسرع لإكرامهما، منفذًا وصية الله ويظل هكذا طوال حياتهما وبعد هذا يدفنهما بإكرام.
ع5: وأوصى الوالد أن يدفن جسد امرأته بجوار جسده، وهذا يظهر محبته لها، حتى بعد الموت، متناسيًا غضبها وتعييرها له وكل أخطائها، فالمحبة تنسى الإساءة وتسامح.
ليتك يا أخى تسامح الآخرين على أخطائهم سريعًا؛ ليصفو قلبك وتصبح المحبة هى المسيطرة على مشاعرك نحوهم وبالتالى تهتم بهم وتكرمهم وتتمتع أثناء كل هذا بسلام وفرح لا ينقطعان.
(2) الصدقة وبركاتها (ع6-12):
6 وأنت فليكن الله فى قلبك جميع أيام حياتك واحذر أن ترضى بالخطيئة وتتعدى وصايا الرب إلهنا. 7 تصدق من مالك ولا تحول وجهك عن فقير وحينئذ فوجه الرب لا يحول عنك. 8 كن رحيمًا على قدر طاقتك. 9 إن كان لك كثير فابذل كثيرًا وإن كان لك قليل فاجتهد أن تبذل القليل عن نفس طيبة. 10 فإنك تدخر لك ثوابًا جميلاً إلى يوم الضرورة. 11 لأن الصدقة تنجى من كل خطيئة ومن الموت ولا تدع النفس تصير إلى الظلمة. 12 إن الصدقة هى رجاء عظيم عند الله العلى لجميع صانعيها.
ع6: ثم بدأ يوصيه بأمور محددة أولها الصدقة، فإذا أحب الله وشبع برعايته، فلن يقبل الخطية؛ لأنها كسر لوصية الله الذى يحبه من كل قلبه، وهكذا يستطيع أن يتخلى عن أنانيته وقلقه على ذاته؛ فيحب الآخرين ويهتم بهم ويعطيهم أقصى ما يستطيع من ماله وجهده.
ع7، 8: ثم أعلن له بوضوح أن يكون رحيمًا ولا يهمل الفقير، لئلا يهمله الله ولا يسمع طلبته.
ع9: وطالبه أن يعطى قدر ما عنده، فإن كان غنيًا يعطى كثيرًا، وإن كان فقيرًا يعطى القليل ولكن برضى، غير متعلق بالمال، أو قلق على احتياجاته.
ع10-12: ثم يعده ببركات الصدقة، إذ أن لها أجراً عظيماً عند الله، فمن أجل الصدقة يرحمه الله ويبعده عن الخطية؛ فلا يسقط فيها ويسامحه إذا سقط ويوجه قلبه للتوبة وينقذه من الموت والهلاك الأبدى، فالصدقة تعطى رجاءً ثابتًا فى الأبدية السعيدة.
ويلاحظ هنا أنه عندما فقد طوبيا الشيخ بصره ازدهرت وقويت داخله بصيرته، فاستطاع – بإرشاد الروح القدس – أن يعطى كل هذه الوصايا لابنه، فإن كان الابن مبصرًا بعينيه الخارجيتين ولكنه محتاج لإرشاد أبيه الفاقد البصر. ويتكلم طوبيا الأب بثقة عن أهمية الصدقة، التى تنجى من الظلمة، أى العذاب الأبدى وهذا معناه أنه غير منزعج من ظلمة عينيه الخارجيتين، بل قلبه متعلق بالنور السماوى فى الملكوت الأبدى ولذا يوصى ابنه أن يهتم بالصدقة، التى توصله إلى الملكوت ولا ينشغل مثل باقى البشر بالمقتنيات المادية.
ما أعظم أن تعطى رغم أن ما عندك قليل، بل تشعر بفقرك واحتياجك المادى، فالعطاء هو خروج من الأنانية وثقة كاملة فى رعاية الله، الذى يبارك المعطى ببركات لا تحصى. أنظر إلى المرأة التى أعطت الفلسين وكم مدحها المسيح ربنا أكثر من كل من أعطوا من الأغنياء، فالعطاء من الأعواز هو فخر كل العطايا.
(3) وصايا للتعامل مع الآخرين (ع13-20):
13 إحذر لنفسك يا بنى من كل زنى ولا تتجاوز امرأتك مستبيحًا معرفة الاثم أبدًا. 14 ولا تدع الكبر يستولى على أفكارك أو أقوالك لأن الكبر مبدأ كل هلاك. 15 وكل من خدمك بشئ فأوفه أجرته لساعته وأجرة أجيرك لا تبقى عندك ابدًا. 16 كل ما تكره أن يفعله غيرك بك فإياك أن تفعله أنت بغيرك. 17 كُل خبزك مع الجياع والمساكين واكس العراة من ثيابك. 18 ضع خبزك وخمرك على مدفن البار ولا تأكل ولا تشرب منهما مع الخطاة. 19 إلتمس مشورة الحكيم دائمًا. 20 وبارك الله فى كل حين واسترشده لتقويم سبلك وأقرار كل مشوراتك فيه.
ع13: ثم حذره من خطيتين عظيمتين، الأولى خطية الزنى، فيكتفى بعلاقته بامرأته، فليس له عذر أن ينظر، أو يفكر، أو يشتهى امرأة أخرى؛ لأن فى هذا طمعاً واستباحة للخطية. وحذره من أن يجرى وراء أية معرفة جديدة للخطية بكل صورها الفاسدة.
ع14: والخطية الثانية التى حذره منها، هى خطية الكبرياء، سواء كانت بالأقوال، أو حتى فى الفكر فقط؛ لأن الكبرياء وراء كل الخطايا، وهو الدافع الرئيسى لخطية الزنى، فالمتكبر يتخلى عن تدقيقه؛ فيسقط فى الزنى، فى حين أن الله يحرس المتضعين من الزنى وكافة الخطايا.
ع15: ثم يكمل الأب بمجموعة من الوصايا، أولها أن يوفى الأجير أجره فى الحال، وهذا تطبيق لوصية الأمانة والرحمة، فإن لم يكن الأجير محتاجًا لما عمل، لذا فتأخير الأجرة هو استغلال لمال الغير دون وجه حق ويعد سرقةً وطمعاً.
ع16: ثم وضع له مبدأً فى كل معاملاته مع الآخرين، أن ما يكره أن يفعله الناس معه، فلا يفعله هو مع أحد. وقد تم اقتباس هذه الآية وآيات أخرى كثيرة فى العهد الجديد.
ع17: ثم يؤكد على الصدقة مرة أخرى ولكن من مفهوم آخر؛ فالصدقة ليست فقط أن يكسو العريان، بل وأيضًا أن يأكل مع الفقراء مما يتصدق به عليهم، فى شركة محبة، سواء فى زيارة لهم، أو فى مناسبات العزاء. فيبدو أنه كان شائعًا قديمًا – كما الآن أيضًا – تقديم صدقات عن أرواح المنتقلين، تعطى للفقراء والمحتاجين، فأوصاه أن يأكل مع الفقراء ولكن لا يختلط ولا يأكل مع الأشرار من هذه الأطعمة.
ع18: وقد تكلم بروح النبوة عن ذبيحة العهد الجديد، أى الخبز والخمر، الموضوعين على المذبح، الذى يرمز لقبر المسيح البار؛ فيتحولا لجسد الرب ودمه الأقدسين، فيأكل منهما كل الجياع والعطاش إلى البر ولا يأكل منهما الخطاة غير التائبين.
وقد كانت شريعة العهد القديم تمنع الاقتراب، أو لمس القبور فطوبيا هنا يتكلم بروح النبوة عن بركة أجساد القديسين فى العهد الجديد. أما المعنى المباشر لهذه الآية فى العهد القديم، فهو توزيع الصدقات (الخبز والخمر) على اسم البار الذى مات، ليأكل منها المحتاجون.
ع19، 20: ثم يطالبه بالتلمذة الروحية على أيدى الحكماء؛ ليسمع مشورة الله من أفواههم، ثم يدعوه للاتضاع وطلب مشورة الله فى كل أموره، فيبارك ويشكر الله الذى يرشده ويرعاه.
(4) إسترداد الدين من غابيلوس (ع21-23):
21 ثم اعلم يا بنى أنى قد اعطيت وأنت صغير عشرة قناطير من الفضة لغابيلوس فى راجيس مدينة الماديين ومعى بها صك. 22 وحيث ذلك فانظر كيف تتوصل إليه فتقبض منه الزنة المذكورة من الفضة وترد عليه صكه. 23 ولا تخف يا ولدى فإنا نعيش عيشة الفقراء ولكن سيكون لنا خير كثير إذا أتقينا الله وابتعدنا عن كل خطيئة وفعلنا خيرًا.
ع21، 22: وفى النهاية أوصى ابنه وصية مادية، فبالرغم أن الاب كان متجردًا ناسكًا؛ يقبل الفقر برضى ولكنه – بحنان الأبوة – أشفق على ابنه، فأراد أن يوفر له بعض الراحة المادية؛ فأوصـاه باسترداد الفضة، التى كان قد أقرضها لغابيلوس ولديه منـه صك بذلك (طو1: 17).
وكانت الصكوك تُكتب قديمًا على قطعة من الجلد، أو من الطين، ثم تُحرق؛ ليثبت الطين ويصير جافًا وقويًا. وكانت طريقة كتابة الصكوك بنوعين :
- يكتب صكين متشابهين يأخذ كل من الدائن والمدين نسخة منه.
- يكتب صك واحد ويقسم إلى نصفين يأخذ كلاً من الدائن والمدين جزءً من الصك وهذا ما حدث فى سفر طوبيا بحسب النص المطول فى الأصحاح الخامس.
وقد ورد ذكر الصكوك فى العهد القديم مع أرميا (أر32: 9-14) وفى العهد الجديد فى مثل وكيل الظلم (لو16).
ع23: ثم طمأن ابنه بأن أولاد الله وإن كانوا يعيشون فى فقر ولكن ينتظرهم خيرًا فى الأبدية، بشرط تجنبهم الخطية واهتمامهم بفعل الخير.