الصوم وصلاة التسبيح
فى عيد الأبواق فى اليوم الأول من الشهر السابع امتزج الحزن بالفرح (ص8)، عندما بكى الشعب لسماعه سفر الشريعة، فناداهم نحميا وعزرا؛ ليفرحوا فى هذا اليوم العظيم. وبعد الاحتفال بعيد المظال من الخامس عشر إلى اليوم الثانى والعشرين من الشهر السابع رجعوا إلى بيوتهم، ثم عادوا فى اليوم الرابع والعشرين؛ ليجتمعوا ويقدموا توبة بحزن، ثم فرح بتسبيح الله.
الأصحاح التاسع من هذا السفر نجد فيه صلاة تشمل التوبة والتسبيح، كما نجد نفس المعنى فى الأصحاح التاسع فى كل من سفرى عزرا ودانيال.
(1) الصوم والتوبة (ع1-3):
1- و في اليوم الرابع و العشرين من هذا الشهر اجتمع بنوا إسرائيل بالصوم و عليهم مسوح وتراب. 2- و انفصل نسل إسرائيل من جميع بني الغرباء و وقفوا و اعترفوا بخطاياهم و ذنوب آبائهم. 3- و أقاموا في مكانهم و قرأوا في سفر شريعة الرب إلههم ربع النهار و في الربع الآخر كانوا يحمدون و يسجدون للرب إلههم.
ع1: اجتمع بنو إسرائيل من أنفسهم محبة لله وكان ذلك فى اليوم الرابع والعشرين من الشهر السابع وغير مذكور المكان الذى اجتمعوا فيه ولكنه غالباً كان أمام بيت الله حيث يوجد الكهنة واللاويين وأسفار الكتاب المقدس.
قدسوا صوماً فى هذا اليوم وهو صوم اختيارى، لم تنص عليه شريعة موسى. تقربوا بهذا الصوم إلى الله. وسنلاحظ فى باقى هذا الأصحاح أنهم شكروا الله وسبحوه، وهكذا يمتزج الفرح بالحزن، كما حدث فى عيد الأبواق؛ لأن الحزن المقدس بالتوبة يعطى سلاماً، كما يصاحب الفرح أيضاً السلام الداخلى. وحتى اليوم يمتزج الحزن بالفرح فى سر الاعتراف، فالتوبة يصاحبها فرح روحي بالله. والأصوام أيضاً ترتبط بالصلوات دائماً.
اقترن هذا الصوم بالتذلل أمام الله حيث لبسوا المسوح وهى ملابس خشنة ووضعوا التراب على رؤوسهم، متذكرين خطاياهم، أى تذللوا أمام الله. والتذلل فى الصوم يجعله مقبولاً أمام الله، كما قال أشعياء النبى (أش58: 5).
ونرى فى هذا الصوم الاختيارى الذى لم تذكره الشريعة سنداً لما فعله الرسل والآباء عندما حددوا أصواماً تصومها الكنيسة حتى اليوم رغم أن المسيح لم يذكر إلا فكرة الصوم وصام بنفسه عنا. فالله يعطينا فكرة الصوم وينتظر أن نتجاوب معه. وهذا ما فعلته الكنيسة، فحددت على مدار السنة أصوامها المختلفة.
ع2: الشرط الثانى الذى ذكره أشعياء للصوم المقبول حققه الشعب هنا وهو قطع قيود الشر، فانفصلوا عن النساء الأجنبيات، كما نصت الشريعة، أى ابتعدوا عن كل ما يربطهم بالعبادات الوثنية؛ ليحيوا فى نقاوة أمام الله.
يخبرنا سفر عزرا (عز9) أن عزرا تضايق جداً، عندما سمع أن الشعب قد ارتبط بأجنبيات ولعلهم قد انفصلوا عنهم وقتذاك ولكنهم عادوا بعد ذلك، فارتبطوا بهم وهنا عندما صاموا، انفصلوا ثانية عن هؤلاء الأجنبيات.
الشرط الثالث للصوم المقبول تمموه باعترافهم بخطاياهم، وبهذا نالوا مراحم الله، كما ذكر داود فـى (مز32: 5) عندما اعترف بخطيته وكذلك أيوب، عندما أعترف أمام الكل (أى31: 34).
نلاحظ هنا نوعين من الاعتراف؛ اعتراف جماعى للشعب أمام الله بالإضافة إلى وجود اعتراف شخصى أمام الكاهن، عندما يضع الشخص يده على الذبيحة، ثم يذبحها الكاهن عنه.
ع3: الشرط الرابع للصوم المقبول هو قراءة كلام الله، وقرأوا فى سفر شريعة الرب، إذ جلسوا فى هدوء يستمعون لكلام الله لمدة ربع النهار وهو حوالى ثلاث ساعات لأن النهار حوالى 12 ساعة من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً. ولعلهم كانوا يقرأون جزءاً، ثم يفسره الكهنة واللاويون للشعب، وقد يكون هناك فرصة للإجابة على أسئلة الشعب. واحتمال أنهم كانوا يقرأون للكل، ثم يقسمونهم إلى جماعات، ثم يجلس أحد اللاويين، أو الكهنة ليفسر لهم حسب لغتهم ويجيب على أسئلتهم كما ذكرنا فى (ص8: 8). يبدو أن تذلل الشعب وانفصاله عن الزوجات الأجنبيات واعترافه بالخطية ساعده على الإقبال على كلمة الله والاستماع إليها باهتمام.
كذلك استماع الشعب لسفر الشريعة فى عيد الهتاف، ثم فى أيام عيد المظال حرك أشواقه؛ لطلب الاستماع إلى كلام الله.
الشرط الخامس للصوم المقبول هو الصلاة؛ إذ أن الجموع المحتشدة بعد قراءتهم فى الشريعة قضوا ربع النهار الثانى، أى حوالى ثلاثة ساعات فى تمجيد الله والسجود له، أى صلوات شكر وتسبيح لله مقترنة بالاتضاع من خلال ميطانيات.
أن الاستماع لكلام الله والتأمل فيه يحرك القلب إلى الصلاة، سواء بالشكر والتسبيح، أو بالاتضاع والتوبة.
إن صلوات الشكر والتمجيد كانت لإحساسهم برحمة الله الذى قبلهم عندما اعترفوا بخطاياهم وتذللوا أمامه، فالتوبة تزداد بقراءة كلام الله، فتحرك القلب للشكر والسجود.
إن كان قد ذكر أنهم قضوا ربع النهار فى القراءة والربع الثانى فى الصلاة، لعلهم كرروا هذا أى قرأوا فى الربع الثالث وصلوا فى الربع الرابع، أى استمروا طوال النهار، أى طوال اثنتى عشرة ساعة فى القراءة والصلاة. إن هذا التنويع فى الفقرات الروحية قد ساعدهم على عدم الملل وبالتالى التمتع بالوجود مع الله مدة طويلة وهذا ما يحتاجه أولاد الله حتى اليوم، سواء الذين يعبدون الله فى العالم، أو فى البرية وأيضاً المتوحدون.
الله يفرح بصومك واقترابك إليه، فاقرن صومك دائماً بالاتضاع والتوبة والقراءة والصلاة، فتتذوق حلاوة عشرة الله وتفرح بالصوم. إن إلهك قد صام عنك ويجب أن يجلس معك، فلا تتوانى عن الإسراع إليه.
(2) شكر الله الذى أنقذ شعبه من مصر وعاله فى البرية (ع4-15):
4- و وقف على درج اللاويين يشوع و باني و قدميئيل و شبنيا و بني و شربيا و باني و كناني وصرخوا بصوت عظيم إلى الرب إلههم. 5- و قال اللاويون يشوع و قدميئيل و باني و حشبنيا وشربيا و هوديا و شبنيا و فتحيا قوموا باركوا الرب إلهكم من الأزل إلى الأبد و ليتبارك اسم جلالك المتعالي على كل بركة و تسبيح.6- أنت هو الرب وحدك أنت صنعت السماوات و سماء السماوات و كل جندها و الأرض و كل ما عليها و البحار و كل ما فيها و أنت تحييها كلها و جند السماء لك يسجد. 7- أنت هو الرب الإله الذي اخترت إبرام و أخرجته من أور الكلدانيين و جعلت اسمه إبراهيم. 8- و وجدت قلبه أمينا أمامك و قطعت معه العهد أن تعطيه ارض الكنعانيين و الحثيين والأموريين و الفرزيين و اليبوسيين و الجرجاشيين و تعطيها لنسله و قد أنجزت وعدك لأنك صادق.
9- و رأيت ذل آبائنا في مصر و سمعت صراخهم عند بحر سوف. 10- و أظهرت آيات و عجائب على فرعون و على جميع عبيده و على كل شعب أرضه لأنك علمت أنهم بغوا عليهم و عملت لنفسك اسما كهذا اليوم. 11- و فلقت اليم أمامهم و عبروا في وسط البحر على اليابسة و طرحت مطارديهم في الأعماق كحجر في مياه قوية. 12- و هديتهم بعمود سحاب نهارا و بعمود نار ليلا لتضيء لهم في الطريق التي يسيرون فيها. 13- و نزلت على جبل سيناء و كلمتهم من السماء وأعطيتهم أحكاما مستقيمة و شرائع صادقة فرائض و وصايا صالحة. 14- و عرفتهم سبتك المقدس و أمرتهم بوصايا و فرائض و شرائع عن يد موسى عبدك. 15- و أعطيتهم خبزا من السماء لجوعهم و أخرجت لهم ماء من الصخرة لعطشهم و قلت لهم أن يدخلوا و يرثوا الأرض التي رفعت يدك أن تعطيهم إياها.
ع4: وقف ثمانية من اللاويين على درج، أى منصة مرتفعة، لها سلالم، ليكونوا فى مستوى أعلى من الشعب؛ ليسهل رؤيتهم والاستماع إليهم، عند الصلاة وقراءة الأسفار المقدسة، ولعل هذا الدرج هو نفسه الذى أعدوه واستخدموه فى عيد الهتاف ووقف عليه عزرا وثلاثة عشر من الكهنة (ص8: 4)، أو لعله منبر آخر موجود فى الهيكل.
عندما وقف هؤلاء اللاويون الذين قد يكون بينهم كهنة، صلوا بصوت عالٍ من أعماقهم؛ حتى أن الكتاب المقدس عبر عن ذلك بقوله صرخوا.
صلى هؤلاء الثمانية على المنبر إما كلهم بصوت واحد، أو صلى واحدٌ واحدٌ بالتناوب. واحتمال أن يكونوا قد قسموا الشعب المجتمع إلى ثمانية أقسام كل واحد من اللاويين قاد مجموعة من الشعب فى الصلاة.
رقم ثمانية يرمز للأبدية، فهؤلاء اللاويين بصلواتهم يرفعون قلوب الشعب إلى الحياة مع الله وملكوت السموات.
ع5: إذ شعر اللاويون بحرارة الصلاة، رغبوا أن يشركوا الشعب معهم، فنادوهم أن يقوموا ليصلوا معهم، ويباركوا الله. فهذه الصلاة شكر وتسبيح.
طلب اللاويون من الشعب أن يسبحوا الله الأزلى الأبدى؛ لأنه فوق جميع الآلهة وكل الخلائق.
ع6: أعلن اللاويون وتقول الترجمة السبعينية أن المتكلم كان هو عزرا القائد الروحى للشعب، ونادوا فى تمجيدهم لله بأنه هو الإله الواحد خالق جميع الكائنات فى السماء وعلى الأرض، فهو المستحق التمجيد من الكل، ليس لأنه محتاج، ولكن هذا هو الشعور الطبيعى لجميع خلائقه أن يمجدوه.
أعلنوا فى هذه الصلاة، ليس فقط أنه الإله الواحد وخالق الكل، بل هو أيضاً الذى يحيى جميع الخلائق، فهو سر بقائها، لذا فتمجيده واجب؛ لأنه سر حياة جميع خلائقه.
ع7، 8: أور الكلدانيين : مدينة تقع فى الجنوب ما بين النهرين فى العراق.
بدأت الصلاة هنا بشكر الله على أعماله مع شعبه، بعد أن مجدوا الله المبارك من كل خليقته، فباركوا الله فى هاتين الآيتين على اختباره لإبرآم أب شعب الله وهذا الاختيار هو نعمة إلهية مجانية يهبها الله لمحبيه، فقد كان إبرآم يعبد الله رغم انتشار الوثنية حوله فى العالم كله.
من محبة الله أخرج إبرآم من وسط شعبه، الذى بدأ يتدنس بالوثنية، حتى يحفظه فى البرية وحده فى الإيمان المستقيم.
وأضافت محبة الله لإبرآم نعمة جديدة، بأن غيرت إسمه إلى إبراهيم؛ حتى يشعر بما يلى:
- أنه سيحيا حياة جديدة لله فى نقاوة، أفضل من حياته الأولى وسط أهله.
- إبرآم معناه أب مكرم، أما إبراهيم فمعناه أب لجمهور كبير، فيتغير اسمه بشارة له أنه سيكون أب لشعب عظيم يؤمن بالله هو شعب بنى إسرائيل.
أعطى الله أيضاً نعمة لإبراهيم، وهى العهد الذى قطعه معه، من أجل أمانته فى عبادة الله، فوعده أن يرث ويمتلك كل أرض كنعان التى يسكنها ستة من الشعوب الوثنية. وأتم الله وعده، فملَّك نسل إبراهيم هذه الأرض أيام يشوع.
الله صادق وأمين فى إتمام مواعيده ويتجاوب معه البشر، حسب إيمانهم ومحبتهم، وقلما يذكر عن إنسان أنه آمين، فذكر عن موسى وإبراهيم أمانتهما.
ع9-11: بحر سوف : البحر الأحمر.
بغوا عليهم : عملوا الشر معهم، أى ظلموهم.
فلقت اليم : شققت البحر.
بعد أن شكر الله على اختياره إبراهيم، يشكر الله على اهتمامه بشعبه بنى إسرائيل، الذى أذله المصريون، فعندما صرخوا إلى الله أرسل لهم موسى، وضرب مصر بعجائب عظيمة هى الضربات العشر، التى أظهر بها ضعف آلهتهم الوثنية، وثبت إيمان شعبه، ودعا المصريين للإيمان.
وبعدما خرج شعب الله من مصر ووصل إلى البحر الأحمر عاد فرعون وخرج وراءهم؛ ليعيدهم عبيداً له: ليخدموه فى بناء المدن وفى كل عمل، فصرخوا إلى الله وحينئذ شق لهم البحر الأحمر، الذى كان عائقاً لهم عند الهروب، فصيره طريقاً، هربوا من خلاله إلى برية سيناء. وكان عمود النار يفصل بينهم وبين المصريين ويحميهم.
عندما قسى فرعون قلبه وتبع شعب الله داخل البحر، أخرج الله شعبه إلى برية سيناء وغمر فرعون وكل جيشه بالماء فى البحر، فماتوا جميعاً وصار لله اسم ممجد بين جميع شعوب العالم، التى سمعت بهذه المعجزة العظيمة، فخافته كل الشعوب وآمن به بعضهم، مثل راحاب.
إن شكر الله على إنقاذهم من المصريين يتذكره الشعب الآن؛ لأن الله أنقذهم من عبودية بابل، فأسقط بابل وحلت محلها مملكة مادى وفارس؛ التى أرجعت شعب الله إلى بلاده وبنوا الهيكل وأورشليم وعبدوه بفرح.
إن إسم الله تمجد بفرعون ويتمجد اليوم ببناء سور أورشليم؛ رغم معاندة الأعداء.
ع12: بعدما أنقذ الله شعبه من عبودية مصر تمسكوا به وطلبوا إرشاده فى برية سيناء الواسعة، فأرسل لهم عمود سحاب فى النهار ليظلل عليهم ويتحول فى الليل إلى عمود نار؛ ليضئ لهم.
لم يكن عمود السحاب، أو عمود النار قائداً فقط لتحركات شعب الله، بل دليلاً على حضور الله مما طمأنهم وجعل قلوبهم فى فرح، فمجدوا الله وباركوه.
ولعل تذكر الشعب لهداية الله لهم فى برية سيناء يكون حافزاً لهم؛ ليطلبوا إرشاد الله فى سلوكهم وحياتهم معه ومع من حولهم؛ بعد أن طمأنهم ببناء سور أورشليم.
جيد أن تتذكر عطايا الله وإحساناته وتشكره عليها، فهذا يظهر تقديرك لمحبة الله ويدفعك أن تتمتع أكثر من ذى قبل برعايته، فيفرح قلبك دائماً.
ع13، 14: ظهرت محبة الله فى عنايته الروحية بشعبه، فبعد أن فصلهم عن الشعوب الوثنية، نزل بنفسه على جبل سيناء وأعطاهم وصاياه وشرائعه؛ ليحيوا بها. وكذلك قدس يوم السبت ليعبدوه فيه كل أسبوع، فهذه الشرائع والوصايا كانوا يعيشون فيها كل يوم، وكل أسبوع وطوال العام، وبهذه التعاليم الصالحة تميزوا عن باقى شعوب العالم الوثنية، وتمتعوا بوجود الله فى وسطهم. وكان موسى قائدهم الروحى، الذى استلم كل هذه التعاليم من الله؛ ليرشدهم فى الطريق المستقيم.
ع15: اهتم الله أيضاً باحتياجاتهم المادية، فأعطاهم بطريقة معجزية الطعام كل يوم من السماء وكذلك الماء من الصخرة، حيثما ذهبوا، فلم يحتاجوا لأى شئ طوال أربعين عاماً.
وعدهم الله أيضاً بميراث أرض كنعان التى تفيض بالخيرات الكثيرة، بعد أن يكملوا مسيرتهم فى برية سيناء.
هكذا نرى رعاية كاملة من الله ومحبة لا يعبر عنها وهكذا لم يحتاج شعبه إلى شئ. هذه هى محبة الله. لكن يا ترى ماذا كان رد فعل الشعب ؟ للأسف كان سيئاً كما سنرى فى الآيات التالية.
(3) آناة الله على شعبه المتمرد (ع16-31):
16- و لكنهم بغوا هم و آباؤنا و صلبوا رقابهم و لم يسمعوا لوصاياك. 17- و أبوا الاستماع و لم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم و صلبوا رقابهم و عند تمردهم أقاموا رئيسا ليرجعوا إلى عبوديتهم و أنت اله غفور و حنان و رحيم طويل الروح و كثير الرحمة فلم تتركهم. 18- مع أنهم عملوا لأنفسهم عجلا مسبوكا و قالوا هذا إلهك الذي أخرجك من مصر و عملوا إهانة عظيمة.
19- أنت برحمتك الكثيرة لم تتركهم في البرية و لم يزل عنهم عمود السحاب نهارا لهدايتهم في الطريق و لا عمود النار ليلا ليضيء لهم في الطريق التي يسيرون فيها. 20- و أعطيتهم روحك الصالح لتعليمهم و لم تمنع منك عن أفواههم و أعطيتهم ماء لعطشهم. 21- و علتهم أربعين سنة في البرية فلم يحتاجوا لم تبل ثيابهم و لم تتورم أرجلهم. 22- و أعطيتهم ممالك و شعوبا و فرقتهم إلى جهات فامتلكوا أرض سيحون و ارض ملك حشبون و أرض عوج ملك باشان. 23- و أكثرت بنيهم كنجوم السماء و أتيت بهم إلى الأرض التي قلت لآبائهم أن يدخوا و يرثوها. 24- فدخل البنون وورثوا الأرض و أخضعت لهم سكان ارض الكنعانيين و دفعتهم ليدهم مع ملوكهم و شعوب الأرض ليعملوا بهم حسب إرادتهم. 25- و اخذوا مدنا حصينة و أرضا سمينة و ورثوا بيوتا ملآنة كل خير وآبارا محفورة و كروما و زيتونا و أشجارا مثمرة بكثرة فأكلوا و شبعوا و سمنوا و تلذذوا بخيرك العظيم. 26- و عصوا و تمردوا عليك و طرحوا شريعتك وراء ظهورهم و قتلوا أنبياءك الذين اشهدوا عليهم ليردوهم إليك و عملوا إهانة عظيمة. 27- فدفعتهم ليد مضايقيهم فضايقوهم و في وقت ضيقهم صرخوا إليك و أنت من السماء سمعت و حسب مراحمك الكثيرة أعطيتهم مخلصين خلصوهم من يد مضايقيهم. 28- و لكن لما استراحوا رجعوا إلى عمل الشر قدامك فتركتهم بيد أعدائهم فتسلطوا عليهم ثم رجعوا و صرخوا إليك و أنت من السماء سمعت و أنقذتهم حسب مراحمك الكثيرة أحيانا كثيرة. 29- و أشهدت عليهم لتردهم إلى شريعتك و أما هم فبغوا و لم يسمعوا لوصاياك و اخطأوا ضد أحكامك التي إذا عملها إنسان يحيا بها و أعطوا كتفا معاندة و صلبوا رقابهم ولم يسمعوا. 30- فاحتملتهم سنين كثيرة و أشهدت عليهم بروحك عن يد أنبيائك فلم يصغوا فدفعتهم ليد شعوب الأراضي. 31- و لكن لأجل مراحمك الكثيرة لم تفنهم و لم تتركهم لأنك اله حنان و رحيم.
ع16، 17: بغوا : ظلموا الله، أى تمردوا عليه.
صلبوا رقابهم : الحيوان عندما يصلب رقبته يرفض الخضوع للعمل فى جر الآلات الزراعية ومعناها التمرد.
كان رد فعل الشعب عجيب جداً، عكس المتوقع تماماً، فبدلاً من أن يشكروا الله ويعبدوه بأمانة مثل موسى، تمردوا على الله رافضين الخضوع لوصاياه، وكذلك رفضوا الاستماع لشريعته وارشادات موسى لهم؛ ليرجعوا إلى الله. وبالإضافة إلى ذلك نسوا عجائب الله معهم، سواء بإخراجهم من أرض مصر، أو فى رعايتهم فى برية سيناء، والأصعب من كل هذا، أنهم فضلوا العبودية فى مصر عن الحياة مع الله، فأقاموا رئيساً بدلاً من موسى؛ ليقودهم فى العودة إلى مصر.
العجيب هو طول أناة الله على شعبه، ورحمته العظيمة، فلم يتركهم، بل أعطاهم فرصة للتوبة وأتاههم فى برية سيناء وعندما ندموا جزئياً عن خطاياهم، سامحهم، فظل يرعاهم فى البرية؛ لأنه بالحقيقة إله حنون ورؤوف.
ع18: رغم رحمة الله عاد شعبه إلى التمرد عليه، فيما كان يهبهم الوصايا والشريعة ورسم خيمة الاجتماع؛ ليسكن فى وسطهم على يد موسى، قاموا بعمل إله لهم، هو عجل ذهبى؛ ليعبدوه؛ بدلاً من الله، متشبهين بالأمم الوثنية المحيطة بهم.
ع19-21: أمام كل هذا التمرد والشر، ظلت رحمة الله وعنايته بشعبه فى البرية، فكان يقودهم بعمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً، أى ظل حاضراً معهم وقائداً لهم.
ظلت رعاية الله الروحية لأولاده، فلم يسحب منهم وصاياه وشريعته، بل ظل روحه القدوس يرشدهم من خلال هذه الوصايا والتعاليم على يد موسى والكهنة واللاويين وشيوخ الشعب (عد11: 24-25).
استمرت أيضاً رعاية الله فى إطعامهم المن وإعطائهم الماء من الصخرة.
نرى هنا تكرار الشعب – الذى يصلى فى هذا اليوم – شكرهم لله على رعايته بعمود السحاب والنار والوصايا والمن والماء؛ لأن رعاية الله لم تتأثر بشر آبائهم، بل ظل الله صالحاً وأميناً مع شعبه رغم كل تمردهم.
ظهر العجب أيضاً فى رعاية الله، عندما حفظ ثيابهم ونعالهم طوال أربعين سنة فى البرية، وحفظ أيضاً أقدامهم، فلم تتورم من كثرة المشى فى الصحراء.
ع22: أثناء مسيرهم فى البرية قابلوا شعوباً شرق البحر الميت، قبل أن يعبروا الأردن ويدخلوا أرض كنعان، فانتصروا عليهم بقوة الله وامتلكوا أرضهم وهم سيحون وعوج الملوك العظماء، ملوك الأموريين.
وهكذا تتجلى قوة الله الذى عمل بشعبه، الذين هم رعاة أغنام غير مدربين على الحرب، فانتصروا على ملوك أقوياء وتفرقوا فى جهات كثيرة؛ ليمتكلوا أراضى واسعة شرق نهر الأردن، مثل حشبون وباشان بقيادة موسى النبى، قبل دخولهم أرض كنعان.
ع23-25: فى رعاية الله لشعبه، أكثر من بنيهم وحفظ حياتهم وأعطاهم قوة، فاستطاعوا أن يدخلوا أرض كنعان، ويستولوا على مدنها الحصينة، مثل أريحا ويمتلكوا أراضيها الواسعة الملآنة بالخيرات، فكانت مزروعة بالكروم وملآنة بالآبار التى تعطى ماء بوفرة (تث9: 3 ، تث7: 24 ؛ يشع 11: 12، 17 ، قض1: 4) فتنعم شعبك بلذات وفيرة وهبتها لهم، لم يتعبوا فى غرسها وبنائها.
ع26: للأسف لم يشكر الآباء الله على كل هذه العطايا الكثيرة، بل عصوا وصاياه وتركوا شريعته وعندما أرسل الله إليهم أنبياء؛ ليرجعوهم إليه، رفضوا كلام الله، وقاموا على الأنبياء وقتلوهم، مثل أشعياء الذى نشروه بمنشار خشب وأرميا الذى رجموه (عب11: 37).
ع27، 28: بعدما تملك شعب الله أرض كنعان أيام يشوع، عادوا وتركوا وصايا الله وارتبطوا بزيجات وثنية، فتسلط عليهم الأمم وأذلوهم وحينئذ صرخوا إلى الله، فأرسل إليهم مخلصين هم القضاة، مثل جدعون ويفتاح وشمشون فخلصوهم من مضايقيهم وأعادوهم لعبادة الله. وهذا يظهر طول أناة الله ومراحمه وحنانه على شعبه، الذى مهما أخطأ وعاد إليه يقبله ويخلصه. خاصة وأنهم كرروا عصيانهم مرات كثيرة، فكلما أذلهم أعداؤهم وصرخوا إلى الله يخلصهم ولكنهم يعودون ثانية إلى تهاونهم وعصيانهم، فيذلهم أعداؤهم، فيصرخون إلى الله الذى يخلصهم وهكذا تتدخل مراحم الله مرات كثيرة؛ لتنقذ شعبه العاصى.
ع29-31: استمر شعب الله فى خطاياه وارتباطه بالعبادات الوثنية، مما اضطر الله أن يؤدبهم بالسبى الأشورى، ثم بالسبى البابلى؛ ليتوبوا ويرجعوا إليه، وهكذا ظلت مراحم الله تبحث عن شعبه بالشدة واللين؛ حتى يحيوا معه.
طوال فترات العصيان هذه كان الله لا يكل أن يرسل أنبياءه؛ لينبهوا شعبه ويوبخوه على خطاياه، إنها مراحم الله التى لا تحصى؛ الذى يريد خلاص أولاده.
لم يعامل الله شعبه بحسب خطاياهم، بل احتملهم وأعطاهم فرصاً متوالية للتوبة فبقاء شعبه قائم على رحمته الإلهية، فهو لا يريد إفناء شعبه كقصاص عادل لخطاياه، بل يريد أن يحيوا معه؛ ليمتعهم ببركاته.
ووصايا الله وشريعته تضمن لأولاده الحياة الكريمة والفرح مع الله ولكن تركها هو الذى يعرضهم للذل والعبودية.
(4) الاعتراف بالخطية وقطع العهد (ع32-38):
32- و الآن يا إلهنا الإله العظيم الجبار المخوف حافظ العهد و الرحمة لا تصغر لديك كل المشقات التي أصابتنا نحن و ملوكنا و رؤساءنا و كهنتنا و أنبياءنا و آباءنا و كل شعبك من أيام ملوك آشور إلى هذا اليوم. 33- و أنت بار في كل ما أتى علينا لأنك عملت بالحق و نحن أذنبنا.
34- و ملوكنا و رؤساؤنا و كهنتنا و آباؤنا لم يعملوا شريعتك و لا أصغوا إلى وصاياك و شهاداتك التي أشهدتها عليهم. 35- و هم لم يعبدوك في مملكتهم و في خيرك الكثير الذي أعطيتهم و في الأرض الواسعة السمينة التي جعلتها أمامهم و لم يرجعوا عن أعمالهم الردية. 36- ها نحن اليوم عبيد والأرض التي أعطيت لآبائنا ليأكلوا أثمارها و خيرها ها نحن عبيد فيها. 37- و غلاتها كثيرة للملوك الذين جعلتهم علينا لأجل خطايانا و هم يتسلطون على أجسادنا و على بهائمنا حسب إرادتهم و نحن في كرب عظيم. 38- و من اجل كل ذلك نحن نقطع ميثاقا و نكتبه و رؤساؤنا و لاويونا و كهنتنا يختمون
ع32-37: بعد أن استعرضت الصلاة مراحم الله أمام عصيان الشعب، تطلب الآن من الله العظيم المخوف، الذى تخشع أمامه قلوب أولاده، أن ينظر بحنانه إلى شعبه، المذل الآن فى عبودية تحت يد الأمم التى هى آشور وبابل ومادى وفارس، فقد وهبهم الله أرض كنعان المملوءة بالخيرات، ولكن لخطاياهم أصبحوا فى ذل العبودية، ساكنين فيها، وليس لهم رجاء إلا الله إلههم الحنون القادر أن يحفظهم. وهكذا تمتزج مشاعر المخافة لله مع الرجاء، فهو الإله المخوف والحنون فى نفس الوقت، الذى يترجاه شعبه.
وتظهر هذه الصلاة اعتراف الشعب بخطاياهم، هم وآبائهم وملوكهم واعتراف بفضل الله ومراحمه وطول أناته، فهى صلاة منسحقة تستدر مراحم الله.
وفى نهاية الصلاة يظهر الشعب مدى الضيق الذى يعانيه وعدم استفادتهم من خيرات الأرض، فهى تذهب إلى الملوك وهم فى عبودية صعبة، يحصلون بالكاد على قوتهم وكل الخيرات تذهب للملك، فأصبحت أجسادهم مذلة كعبيد.
ع38: انتهت الصلاة بعمل إيجابى محدد وهو قطع عهد مع الله، أعلنه الشعب كله وثبته الكهنة واللاويون، أى القادة الروحيون للشعب، هذا العهد يفهم ضمنياً أنه يحوى التمسك بوصايا الله وشريعته والابعتاد عن العبادات الوثنية وكل شر.
تثبيتاً للعهد، كتبه الشعب ليكون شاهداً عليهم، وإعلاناً أنهم لا يريدون الرجوع عنه؛ بإرادتهم الحرة؛ ثم تقدم عدد من الكهنة واللاويون، فختموا هذا الميثاق المكتوب، إعلاناً منهم أنهم مسئولون عن تنفيذ هذا العهد وتنبيه الشعب دائماً للتمسك به. وهكذا نرى أن الصلاة الطويلة السابقة كان لها تأثير قوى فى قطع عهد ثابت ودائم مع الله. وبهذا تحققت نبوة أرميا بأن شعب الله بعد السبى “يلتصقون بالرب بعهد أبدى لا ينسى” (أر50: 5).
ليتك تحول مشاعرك الروحية إلى تداريب محددة تساعدك فى الحياة مع الله، فتجاهد فى الطريق الروحى، برفض الخطية المحببة والتمسك بالممارسات الروحية، التى تقربك إلى الله، مثل الصلاة والصوم وقراءة الكتاب المقدس، وينتج عنها محبتك وخدمتك لله.