الغفران والنزاع والنميمة
(1) الغفران ( ع1- 9):
1مَنِ انْتَقَمَ، يُدْرِكُهُ الانْتِقَامُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَيَتَرَقَّبُ الرَّبُّ خَطَايَاهُ. 2اِغْفِرْ لِقَرِيبِكَ ظُلْمَهُ لَكَ فَإِذَا تَضَرَّعْتَ تُمْحَى خَطَايَاكَ. 3أَيَحْقِدُ إِنْسَانٌ عَلَى إِنْسَانٍ، ثُمَّ يَلْتَمِسُ مِنَ الرَّبِّ الشِّفَاءَ؟ 4أَمْ لاَ يَرْحَمُ إِنْسَانًا مِثْلَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ عَنْ خَطَايَاهُ. 5إِنْ أَمْسَكَ الْحِقْدَ وَهُوَ بَشَرٌ؛ فَمَنْ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ؟ 6اُذْكُرْ أَوَاخِرَكَ وَاكْفُفْ عَنِ الْعَدَاوَةِ. 7اُذْكُرِ الْفَسَادَ وَالْمَوْتَ، وَاثْبُتْ عَلَى الْوَصَايَا. 8اُذْكُرِ الْوَصَايَا وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى الْقَرِيبِ. 9اُذْكُرْ مِيثَاقَ الْعَلِيِّ وَأَغْضِ عَنِ الْجَهَالَةِ.
ع1: لدن : عند.
الآيات الأخيرة فى الأصحاح السابق هى تمهيد لهذا الأصحاح، فتؤكد هذه الآية المعنى السابق ذكره، وهو أن من ينتقم من أى إنسان على الأرض، الله حتماً سينتقم منه؛ لأن الله عادل، وإن كان طويل الأناة، لكنه يشفق على أولاده الأبرياء، ويتضايق جداً ممن ينتقم منهم، فيقف معهم، ويحارب من يعتدى عليهم، بل يكون مترقباً لأخطائهم؛ ليجازيهم عليها بعدله.
ونرى هذا الأمر فى قايين الذى انتقم من أخيه هابيل وقتله، وكيف غضب الله عليه، وبسبب خطيته صار فى قلق وخوف من كل من حوله، لئلا يقتلوه، وممالك العالم التى احتلت البلاد المختلفة وانتقمت من سكانها بالسلب والقتل، قامت عليها الممالك التالية وانتقمت منها، مثل انتقام بابل وحرقها لأورشليم وهيكلها، وانتقامها من بلاد كثيرة، فقامت عليها بعد هذا مملكة مادى وفارس وخربتها.
ع2: إذا أساء إليك إنسان وظلمك، فلا تغضب، وتحاول الانتقام منه، أو تظلمه كما ظلمك، ولكن تأكد من أن هذا الظلم الذى سقط فيه هو خطية، والخطية ضعف، فاغفر له، وصلى لأجله؛ حتى يتوب، بهذا تسلك فى المحبة المسيحية، ويرضى الله عنك، ويغفر لك خطاياك.
تذكر أنك خاطئ فى خطايا أخرى غير هذا الظلم، ولكن الله الحنون مستعد أن يسامحك ما دمت تسامح الآخرين.
أنت تصلى كل يوم وتقول : “واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا”، ولكن إن لم تغفر، فالله لن يغفر لك، كما قال المسيح بنفسه بعد أن قال الصلاة الربانية : “إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم” (مت6: 15). والمسيح أكد هذا المعنى فى مثل المديونين، عندما سامح السيد العبد المديون له بمبلغ ضخم، ولكن هذا العبد لم يسامح أخاه على مبلغ صغير، وعندما علم السيد بهذا، رفض أن يغفر للعبد البطال، الذى كان مستعداً أن يسامحه على المبلغ الضخم، وألقى فى السجن (مت18: 23-35). وبولس الرسول يؤكد نفس هذا المعنى بقوله : “لا تنتقموا لأنفسكم” (رو12: 19). وبطرس الرسول أيضاً يقول : “غير مجازين عن شر بشر .. بل بالعكس مباركين عالمين أنكم لهذا دعيتم لكى ترثوا البركة” (1بط3: 9)، وبهذا يظهر أن التصرف الحسن هو ليس فقط الغفران، بل نبارك من يسىء إلينا، وبهذا نغلب شره بالخير الذى نعمله معه “اغلب الشر بالخير” (رو12: 21).
ع3: إن الإنسان الذى يكره، ويحقد على غيره؛ لأنه صنع شراً، أو بسبب الغيرة منه، أو لأى سبب آخر، فإن قلبه يضطرب من نحوه، ويفقد محبته، فلا يستطيع هذا الإنسان أن يطلب من الله الشفاء من الخطية، فهو لا يغفر لغيره، وبالطبع الله لن يغفر له، كما ذكرنا فى
الآية السابقة؛ لأن الحب هو صفة أولاد الله، فيكونوا مثل أبيهم السماوى، الذى هو محبة (1يو4: 8).
ع4: تؤكد هذه الآية الآيتين السابقتين، فى أنه لا يستطيع الإنسان القاسى القلب، الذى لا يرحم غيره أن يطلب الغفران من الله؛ ليغفر له خطاياه؛ لأن هذا القاسى القلب متمسك بالغضب والإدانة لغيره، وبالتالى الله لن يغفر له، بل يدينه لقسوة قلبه.
واليهود الذين أمسكوا امرأة سقطت فى الزنى، وكانوا قساة القلوب، ويريدون أن يرجموها، وتناسوا خطاياهم، فذكرهم المسيح بها، وحينئذ شعروا أنهم محتاجون لغفران الله، وبالتالى لابد أن يرحموا هذه المرأة، فخزوا وانصرفوا (يو8: 4-11).
ع5: يتعجب ابن سيراخ من إنسان، أى بشر، يتمسك بالحقد على غيره، أى يكون فى غضب شديد، ولا يريد أن يسامح غيره. هذا الإنسان كيف يغفر له الله ؟! إنه بالطبع لن يسامحه؛ لأنه لا يسامح غيره. فلا تنساق يا أخى فى طريق الغضب بحجة أن غيرك أخطأ خطأً كبيراً، وتذكر أنك إنسان تخطئ، وتحتاج غفران الله، فأسرع إلى مسامحته؛ لتنال غفران الله.
ع6: اكفف : توقف.
يقدم ابن سيراخ نصيحة تساعد الإنسان على الابتعاد عن مشاعر العداوة والشر والحقد على الآخرين الذين يسيئون إلى الإنسان؛ هذه النصيحة هى تذكر أواخر الإنسان، أى الموت والدينونة. فمخيف جداً الوقوع فى يدى الله؛ لأنه سيحاسب الإنسان على أخطائه التى لم يتب عنها، مثل إصراره على أفكار العداوة، وما ينتج عنها، وبالطبع سينتبه الإنسان، ويرجع عن الشر، ويغفر لمن أساء إليه. هذا تدريب معروف عند الآباء القديسين، وهو تذكر الموت كل يوم، وبهذا يطهر الإنسان قلبه، ويحيا بمحبة مع كل الناس.
ع7: إن تذكر الموت وفساد جسد الإنسان فى القبر، يدفع الإنسان إلى التفكير فى الله، وحفظ وصاياه على حساب راحة الجسد والأنانية. وقدر ما يتغرب الإنسان عن الجسد، سيحيا فى الروح، ويحفظ وصايا الله التى تنادى الإنسان أن يغفر لمن يسىء إليه.
ع8: وبالطبع تذكر وصايا الله التى تدعونا إلى محبة القريب والبعيد، ستجعل الإنسان لا يحقد، بل وأيضاً لا يغضب على غيره، ويسامحه عندما يخطئ، مهما كان خطأً كبيراً.
ع9: واغض : تجاهل واهمل.
تعطى هذه الآية خلاصة القول من الآيات السابقة، وهو تذكر ميثاق الله وعهد الإنسان، وهو أن يغفر الإنسان لغيره؛ لأن الله يغفر خطايا جميع الراجعين إليه. وبالتالى عندما يتذكر الإنسان ميثاق الله، سيسامح الآخرين عن الأعمال الشريرة، التى يعملونها بجهل، والمقصود جميع الخطايا؛ لأن الخطايا كلها أعمال جهالة، فيصبح قلب الإنسان مملوءًا بالحب والتسامح نحو الجميع فى كل حين، وذلك لأنه يعتبر المخطئ إليه مريض وضعيف، فيشفق عليه بالحب، ويلتمس له الأعذار، فيسامحه، بل ويسانده بالحب ليقوم من تعبه.
احترس يا أخى من الشيطان الذى يثيرك، ويستفزك بأخطاء الآخرين، ويصورها لك أنها إهانة لا تحتمل، أو خطأ لا يمكن غفرانه؛ هذه كلها أفكار شياطين، ولكن الله الذى مات عنك على الصليب، واشتراك بحبه لتحيا له، يترجاك أن تشفق على المخطئين، كما أشفق عليك، وتغفر لهم، وتصلى لأجلهم.
(2) النزاع ( ع10-14):
10أَمْسِكْ عَنِ النِّزَاعِ؛ فَتُقَلِّلَ الْخَطَايَا. 11فَإِنَّ الإِنْسَانَ الْغَضُوبَ يُضْرِمُ النِّزَاعَ، وَالرَّجُلَ الْخَاطِئَ يُبَلْبِلُ الأَصْدِقَاءَ، وَيُلْقِي الشِّقَاقَ بَيْنَ الْمُسَالِمِينَ. 12بِحَسَبِ الْحَطَبِ تَضْطَرِمُ النَّارُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الإِنْسَانِ يَكُونُ غَيْظُهُ، وَبِحَسَبِ غِنَاهُ يُثِيرُ غَضَبَهُ، وَبِحَسَبِ شِدَّةِ النِّزَاعِ يَسْتَشِيطُ. 13الْخُصُومَةُ عَنْ عَجَلَةٍ تُضْرِمُ النَّارَ، وَالنِّزَاعُ عَنْ عَجَلَةٍ يَسْفِكُ الدَّمَ. 14إِذَا نَفَخْتَ فِي شَرَارَةٍ اضْطَرَمَتْ، وَإِذَا تَفَلْتَ عَلَيْهَا انْطَفَأَتْ، وَكِلاَهُمَا مِنْ فَمِكَ.
ع10: الابتعاد عن النزاع يحمى الإنسان من خطايا كثيرة. والنزاع هو الكلام العنيف، الذى ينشأ من الجدل الحاد والكبرياء والأنانية، والإنسان يستطيع أن يمسك عن النزاع بما يلى:
- الاتضاع.
- العفة.
- الوداعة واللطف فى التعامل.
- إلتماس الأعذار للآخرين ومحبتهم.
والخطايا الكثيرة التى تنشأ من النزاع أهمها الغضب، الذى يستند على الكبرياء والأنانية، والذى يمكن أن يتطور إلى كلمات قاسية، وتجريح، وصراع يمكن أن يدوم مدة طويلة، وانقسامات، وتحزبات. وقد ينتج عنه أعمال انتقامية تصل إلى القتل.
ع11: يضرم : يشعل.
يبلبل : يثير اضطراباً وفوضى وقلق وانقسامات وتشويش.
الغضب هو السبب فى النزاعات، فإن من يتفاهم مع الناس بهدوء ومحبة يكسبهم، ولكن غضبه سيثير غضبهم، فيحدث نزاعاً بينهم، بل يحدث اضطراباً بين الأحباء والأصدقاء، ويفرق بينهم، فيصيروا أحزاباً متعارضة.
وحتى الناس المسالمين الهادئين، دخول إنسان غاضب بينهم يحدث انشقاقاً، وانقساماً، إذ سيسقطهم فى الغضب، ويثير اختلاف الآراء مشاكل كبيرة.
ع12: تضطرم : تشتعل.
يستشيط : يثور غضباً.
إن كان الحطب كثيراً، فالنار تشتعل فيه بشدة وترتفع، كذلك أيضاً إن كان الإنسان قوياً جسمانياً، أو فى مركزه، فإن غضبه يكون شديداً بحسب قوته.
أيضاً على قدر غنى الإنسان، المعتمد على أمواله، يثور على من يقف أمامه، وكلما ازاداد غنى الإنسان، فى الغالب، يزداد مركزه، وميله للسيطرة والتحكم فى الآخرين، وعندما يقفون أمامه ويعارضون أفكاره، يزداد غضبه.
وعندما يحتد النزاع الذى يظهر على وجه وتصرفات المتنازعين، فإن هذا يحدث ثورة، واستفزازاً للمشاعر، يظهر فى صورة كلمات وتصرفات قاسية.
ع13: الاندفاع والتسرع فى مخاصمة الآخرين، يشعل النزاع بينهم، فيكون الصراع صراعاً قوياً. فلا تقف خصماً للآخر، واعلم أنكما صورة لله، فكيف تتصارع الصور التى لشخص واحد ؟!. إنها مجرد اختلافات بسيطة فى الآراء، يمكن بالتفاهم الوصول إلى حلول. ولا تطلب حلاً حاسماً بسرعة، فقد يحتاج الأمر إلى أكثر من جلسة، ولا تقل إنى مشغول، فتسقط فى النزاع؛ لأنك ستخسر كثيراً إذا دخلت فيه. واعلم أن غضبك وغضب الآخر يمكن فى البداية معالجته بسهولة، ولكن إذا اشتد النزاع يكون من الصعب الوصول إلى حل، وقد يترك الواحد سبب النزاع، ويغتاظ لأجل بعض كلمات، أو تصرفات سيئة من الآخر.
إن كان التسرع فى الخصومة يضرم النار، أى نار النزاع، فإن الاندفاع فى النزاع يمكن أن يثير الانسان بغضب شديد، يصل إلى الإساءة للآخر، وقد يصل إلى سفك دمه، أى قتله. فكن عاقلاً واوقف الغضب، ولا تجعل نفسك خصماً لأحد واحبب الكل، والتمس الأعذار لهم، مهما أخطأوا، فتستطيع التفاهم معهم.
ع14: إذا نفخت فى شرارة فإنها تشتعل وتصير قوية، ولكن إذا بصقت عليها فإنها تنطفئ، هذان الفعلان يخرجان من فمك، وهذا معناه أنك قادر أن تشعل النزاع بين الناس، أو تطفئه إن أردت. فافحص نفسك، هل تعمل عمل الشيطان، وتشعل النزاعات، أم تعمل عمل الله، وتطفئ النزاع، وتهدئ النفوس ؟!
هذه الآية تبين أهمية التصرف فى بداية الغضب، فيمكن إطفاءه بسهولة، بكلمات طيبة، وإظهار محبة، ويمكن أيضاً إشعاله، فيصير غضباً شديداً، ونزاعاً يصعب حله. فاسرع إلى معالجة الغضب فى بدايته بطلب معونة الله، وإظهار المحبة، واعلم أن الشرارة نار صغيرة يسهل أطفاءها، أما النار القوية، وهى النزاع الشديد، فيصعب التحكم فيه.
إن كنت تهتم بسكنى الله فى قلبك، وذلك بترديد الصلوات مع القراءة و التأمل، فإنك تكون هادئاً، وبالتالى ستميل إلى نشر المحبة، وإطفاء الغضب، فتحيا فى سلام، ويحبك الكل، ويفرح بك الله.
(3) النميمة ( ع15-30):
15النَّمَّامُ وَذُو اللِّسَانَيْنِ أَهْلٌ لِلَّعْنَةِ، لإِهْلاَكِهِمَا كَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ الْمُسَالَمَةِ. 16اللِّسَانُ الثَّالِثُ أَقْلَقَ كَثِيرِينَ، وَبَدَّدَهُمْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُمَّةٍ، 17وَهَدَمَ مُدُنًا مُحَصَّنَةً، وَخَرَّبَ بُيُوتَ الْعُظَمَاءِ، 18وَكَسَرَ جُيُوشَ الشُّعُوبِ، وَأَفْنَى أُمَمًا ذَاتَ اقْتِدَارٍ. 19اللِّسَانُ الثَّالِثُ طَرَدَ نِسَاءً فَاضِلاَتٍ، وَسَلَبَهُنَّ أَتْعَابَهُنَّ.
20مَنْ أَصْغَى إِلَيْهِ لاَ يَجِدُ رَاحَةً، وَلاَ يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا. 21ضَرْبَةُ السَّوْطِ تُبْقِي حَبَطًا، وَضَرْبَةُ اللِّسَانِ تَحْطِمُ الْعِظَامَ. 22كَثِيرُونَ سَقَطُوا بِحَدِّ السَّيْفِ، لكِنَّهُمْ لَيْسُوا كَالسَّاقِطِينَ بِحَدِّ اللِّسَانِ. 23طُوبَى لِمَنْ وُقِيَ شَرَّهُ، وَلَمْ يُعْرَضْ عَلَى غَضَبِهِ، وَلَمْ يَحْمِلْ نِيرَهُ وَلَمْ يُوثَقْ بِقُيُودِهِ، 24فَإِنَّ نِيرَهُ نِيرٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقُيُودَهُ قُيُودٌ مِنْ نُحَاسٍ. 25الْمَوْتُ بِهِ مَوْتٌ قَاسٍ، وَالْجَحِيمُ أَنْفَعُ مِنْهُ. 26لكِنَّهُ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الأَتْقِيَاءِ، وَلاَ هُمْ يَحْتَرِقُونَ بِلَهِيبِهِ، 27بَلِ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الرَّبَّ يَقَعُونَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ، فَيَشْتَعِلُ فِيهِمْ وَلاَ يَنْطَفِئُ. يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ كَالأَسَدِ، وَيَفْتَرِسُهُمْ كَالنَّمِرِ. 28سَيِّجْ مِلْكَكَ بِالشَّوْكِ. 29اِحْبِسْ فِضَّتَكَ وَذَهَبَكَ، وَاجْعَلْ لِكَلاَمِكَ مِيزَانًا وَمِعْيَارًا، وَلِفَمِكَ بَابًا وَمِزْلاَجًا، 30وَاحْذَرْ أَنْ تَزِلَّ بِهِ، فَتَسْقُطَ أَمَامَ الْكَامِنِ لَكَ.
ع15: النمام هو من يدين غيره أمام الناس. وذو اللسانين هو المرائى، والمنافق الذى يظهر غير ما يبطن، ويتكلم كلاماً وعكسه حسب المستمع، فهو كاذب وغير موثوق فيه.
فالنمام وذو اللسانين ملعون من الله والناس؛ لأنه يضايق ويؤذى، بل وقد يهلك البسطاء الذين يسالمون كل من حولهم، إذ يصدقونه، فيسقطون فى مشاكل؛ لأنهم اعتمدوا على كلام كاذب، فواجهوا مشاكل كثيرة.
ع16-18: اقتدار : قدرة وعظمة.
اللسان الثالث هو الذى يشيع افتراءات، أى كلاماً كاذباً من الخلف وليس أمام الشخص المفترى عليه، فهو يوقع بين الناس بأكاذيبه، وبالتالى يخلق مشاكل قد تؤدى إلى انقلاب أمة على أمة، أو إحداث قلق. فهو لسان مرفوض من الله والناس؛ لأنه ليس فقط لسان كاذب، ولكنه ينشر إشاعات، ولا يواجه الشخص البرىء المفترى عليه، وقد يؤدى أيضاً إلى هدم مدن، وتخريب القصور التى يسكن فيها عظماء المدن، وكسر وهزيمة الجيوش، بل وإفناء أمم بالكامل.
ومثال واضح لهذا، هامان الشرير، الذى وصل أن يكون صديق الملك أحشويروش أيام أستير، وافترى على شعب اليهود بأكاذيب، بأنهم شعب له شرائع جديدة، يتصرف بخلاف عادة جميع الأمم، ويحتقر أوامر الملوك، ويفسد نظام جميع الأمة بفتنته (تتمة أستير13: 4). وحاول إبادتهم بأمر الملك، ولكن الله أنقذهم.
ومثال آخر، أبشالوم، الذى افترى على أبيه داود، وكان يقف على باب المدينة، ويرحب بذوى المشاكل الآتين للقضاء عند الملك أبيه، فيقول لهم أن لكم حقوقاً، ولكن أبى مشغول ولن يحكم لكم، ولو كنت أنا مكانه لأنصفتكم، وظل سنتين ينادى بهذه الافتراءات، حتى أمال شعباً كثيراً وراءه، وهجم على أورشليم، واستولى على الملك، فهرب داود، وكل من كان معه. ولكن القضاء الإلهى كان عليه، فمات فى الحرب نتيجة شره، وعاد داود إلى أورشليم (2صم15: 2-6).
وأيضاً عندما تطاول قورح، وداثان وأبيرام مطالبين بالكهنوت فى غيرة من هارون وبنيه، وافتروا على موسى وهارون، وتمرد معهم عدد كبير، فهلكوا، وابتلعتهم الأرض، وأكلتهم النار (عد16: 1-35).
ع19: كذلك أيضاً، اللسان الثالث، أى المفترى على غيره، عندما يتكلم عن نساء فاضلات بالكذب، يؤدى إلى طردهن، ومحاولة سرقة فضائلهن، وإظهارهن بشكل سئ، مثل الافتراء على زوجة صالحة، لعل زوجها يغضب عليها، ويتزوج بأخرى، كما افترى عبيد أحشويروش الملك على الملكة وشتى، فطردها، مع أنها لم تخطئ ؛ لأنها فقط رفضت أن تأتى فى مجلس سكارى من الممكن أن يسيئوا إليها، وللأسف انحاز الملك لآرائهم (اس1: 16) وإن كان التاريخ يعلن أن وشتى قد عادت إلى ملكها، بعد أن أنقذت أستير شعبها، أى أن أستير ملكت لفترة قصيرة، ثم انصرفت.
ومثال واضح للسان الثالث، التهم الكاذبة، التى وجهها الشيخان إلى سوسنة العفيفة فى محاولة لطردها من بيتها وإهلاكها، ولكن الله أنقذها بواسطة دانيال.
ع20: من يصغى إلى اللسان الثالث، ويصدقه، يضطرب، ويفقد راحته وسلامه. وهذا الاضطراب لا يعطيه فرصة للاستقرار، بل يملأ قلبه الخوف والانزعاج، ولذا يلزم الإنسان أن يصلى، ويستشير المرشدين الروحيين؛ حتى لا يقع فى فخ اللسان الثالث. وأصعب لسان ثالث هو لسان الشيطان، الذى يلقى فى ذهن من يصغى إليه بأفكار هدامة، ومزعجة، ويخدع الناس بأنها أفكار منطقية؛ لأن عقله أكبر من عقل الإنسان، ولا ينجو من يده إلا من يصلى ويستشير المرشدين، كما ذكرنا.
من الأمثلة العظيمة على هذه الآية، نحميا الذى لم يصغ إلى أكاذيب أعدائه طوبيا، وسنبلط وجشم، واستمر فى بناء سور أورشليم؛ حتى أكمله بقوة الله (نح4-6).
ع21: حبطاً : الأثر الذى يتركه الجرح عندما يلتئم.
إذا كان السوط ضربته عنيفة وتجرح، وتترك آثاراً، هى ما تُسمى بالحبط، ويظل الإنسان يتألم منها لمدة؛ حتى تزول تماماً، فإن اللسان جرحه أصعب، ويصل إلى العظام، أى أن اللسان يؤلم النفس من الداخل، وقد يؤدى إلى إحباط ويأس، بل قد تصل إلى أن البعض يحاولون الانتحار؛ لأنهم لا يحتملون الكلمات الصعبة التى توجه إليهم.
ع22: كثيرون ماتوا بسبب ضربات السيوف، التى تطيح برؤوسهم، وهذا أيضاً أقل ضرراً من ضربات اللسان؛ لأن من يتعرض لضربات السيف، إما يشفى بعد فترة، أو يموت ويتخلص من متاعب الحياة، ويشهد له الناس أنه كان مظلوماً، ويتذكرون فضائله؛ أما من يسقط بحد اللسان، فإنه يظل يتعذب سنيناً كثيرة؛ لأن الوشايات والإشاعات، والاتهامات الزور يصدقها الكثير من الناس، وكثيرون لا يحتملون ويتعذبون من هذه الكلمات، ومن أمثالها الإهانات، فلا يطيقون حياتهم، وتنكسر نفوسهم، وهذا يضعف حيوتهم، ويفقدون رجاءهم، بل قد يبتعدون عن الله من شدة يأسهم، فيعيشون فى تعاسة وذل.
ع23: نيره : النير هو خشبة مستعرضة توضع على رقبتى بهيمتين، تجران إحدى الآلات الزراعية، مثل المحراث، وتربط فى رقبة كل بهيمة بحبل.
يالسعادة الإنسان الذى تحاشى اللسان الشرير، وابتعد عن هذا اللسان إذا كان صاحبه غاضباً، اذ قد تخرج من اللسان كلمات قاسية. وطوبى لمن يبتعد عن الاستماع إلى اللسان الشرير، والتعود عليه، أما من يبتغى استماع الأخبار الجديدة المملوءة، فى كثير من الأحيان، بالإدانة، والافتراءات الكاذبة، فإنه يعانى من نير هذا اللسان وثقله، ويجد نفسه مقيداً، ومتعلقاً بالاستماع إليه، فيعذب نفسه.
وطوبى أيضاً لمن يضبط لسانه؛ حتى لا يسقط فى الافتراءات والأكاذيب، ويتعودها، فلا يستطيع التخلص منها بعد ذلك، خاصة، لو وجد من يهتمون بالاستماع إلى افتراءاته وشره.
ع24: إن قيود اللسان الشرير ثقيلة وقاسية، مثل الحديد والنحاس، ويصعب التخلص منها، سواء كنت مستمعاً إلى هذا اللسان، أو معتاداً على هذا اللسان، أى التكلم به. ليتك تهرب منه بكل طاقتك.
ع25: إن الموت بهذا اللسان الشرير هو أن تحيا متعذباً بالاستماع إليه، أو التكلم به، فالموت به هو موت كل يوم وهو قاسى جداً يعذب الإنسان بشدة.
بل إن هذا العذاب أصعب من عذاب الجحيم؛ لأن الجحيم قد يكون المقصود به هو الموت الجسدى؛ لأن قديماً كان كل من يموت يذهب إلى الجحيم. فالموت نهاية للمتاعب، أما الموت الأدبى، وهو العذاب المستمر بكلمات اللسان الشريرة يوجع الإنسان كثيراً، ولا يشعر بالله، فهو بعيد تماماً عن الراحة والسعادة.
ع26: إن الاتقياء هم الذين يخافون الله، فيكونوا أقوياء، ولا يخافوا من أحد، ويحرصون على تنفيذ وصايا الله وإرضائه. هؤلاء يرفضون اللسان الشرير، وبالتالى يتباعدون عنه، فلا يتسلط عليهم، وإن كانوا متباعدين عن خطايا اللسان الشرير، فبالتالى لا يسقطون فيها، ولا تحرقهم نارها ولا تؤذيهم.
وكذلك إن أهانهم، أو أساء إليهم أحد بلسانه، يحتملونه، ويصلون لأجله، ولا ينزعجوا من إساءاته، ويقبلون الإهانات من أجل الله باتضاع، فلا ينزعجون منها.
ع27: أما الأشرار الذين يتركون الرب، فيسهل سقوط لسانهم فى الشر؛ لأن مخافة الله ليست أمامهم، بل يعتبرون اللسان الشرير شيئاً عادياً، فيعتادوا شره، ويشتعل فيهم، أى ينغمسون فى خطايا اللسان بأنواعها المختلفة، فيفترسهم اللسان الشرير، كما يفترس الأسد، أو النمر فريسته. فإذ يعتادون خطايا اللسان، مثل النميمة والافتراء على الناس، وأنواع الأكاذيب والخداع المختلفة، تصبح هى طبيعتهم ولا يقاومونها، وفى النهاية يكون مصيرهم الهلاك الأبدى.
ع28: سيج : حوط.
إن كان للإنسان كرم، أو حديقة أشجار فواكه، يحوطها بالشوك؛ حتى يمنع أى إنسان، أو حيوان من سرقة الثمار.
وملك الإنسان هو نفسه، وهى أغلى من كل ممتلكات العا لم، فيلزم أن يحوطها بالشوك، أى يحفظ سلامه، وروحانياته، وعلاقته بالله؛ حتى لا يسرقها العدو الشيطان، ويحفظ لسانه وحواسه وأفكاره؛ حتى لا تسقط فى الخطايا الشريرة.
والشوك هو نبات قد تحورت أوراقه الخضراء العريضة إلى أشواك؛ لتتأقلم مع الحياة فى البرية، حيث الظروف الصعبة، كذلك الإنسان الروحى، يحيا فى زهد ونسك من جهة ماديات العالم، فيكون قوياً روحياً، ويحفظ حياته من كل شر.
ع29: مزلاج : مغلاق للباب يشبه الترباس ويفتح باليد.
معيار : إناء يستخدم لقياس حجم السوائل.
إن كان لك فضة وذهب فهى ثمينة القيمة، وبالتالى أنت تحبسها، أى تحتفظ بها فى أماكن جيدة مغلقة؛ حتى لا يستطيع اللصوص أن يسرقوها، فكم بالأولى يلزم أن تحفظ الجواهر الروحية، وهى ممارساتك الروحية، وفضائلك بتدقيق.
بالنسبة لكلامك، يلزم أن تدقق فيما ستقول، وتزن كلامك فى ذهنك قبل أن تقوله، أى تفكر ماذا ستقول؛ لتقول الكلمة فى محلها، وبطريقة يفهمها السامع، ويقبلها، ويمكن أن يقال الكلام بالمعيار المناسب، أى لا تقول كل شئ مرة واحدة، فيكون ثقيلاً على السامع، بل تعطى الكلام بالتدريج، ويمكن أن يكون على عدة مرات.
الباب والمزلاج يحفظان ما فى داخلهما، فيلزم ضبط الكلام؛ لذا يقول المرنم : “إجعل يا رب حارساً لفمى. إحفظ باب شفتى” (مز141: 3). فلا تندفع فى الكلام لأن “كثرة الكلام لا تخلو من معصية” (أم10: 19).
والخلاصة، احفظ حواسك، وأفكارك ومشاعرك؛ لأنها ملك لله؛ لتحيا له، واستخدمها بالمقدار المناسب لفائدتك، وفائدة من حولك.
ع30: الكامن : المختبئ.
فى ختام هذا الكلام عن اللسان، احترس أن تخطئ به، فتتكلم كلمات ردية لا ترضى الله.
وكن حذراً من عدوك الشيطان الكامن لك؛ لينتهز فرصة؛ ليسقطك فى الخطية، فليس له سلطان عليك، ولكن إذا وجدك منشغلاً عن الله سيهجم عليك، فتمسك بعلاقتك بالله، واحفظ حواسط وأفكارك وكلامك. لسانك عضو هام جداً، هو أكبر وسيلة للتعبير عما فى داخلك، فانتبه واستغله فى كلامك مع الله، أى الصلاة والتسبيح، ومن خلاله قدم محبة لمن حولك؛ لتكسبهم وتجذبهم لله، فتحيا فى راحة وسعادة.