الله صاحب السلطان والحكم
(1) خطورة الاندفاع فى الحكم (ع1-10):
1حِكْمَةُ الْوَضِيعِ تَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَتُجْلِسُهُ فِي جَمَاعَةِ الْعُظَمَاءِ. 2لاَ تَمْدَحِ الرَّجُلَ لِجَمَالِهِ، وَلاَ تَذُمِّ الإِنْسَانَ لِمَنْظَرِهِ. 3النَّحْلُ صَغِيرٌ فِي الطُّيُورِ، وَجَنَاهُ رَأْسُ كُلِّ حَلاَوَةٍ. 4لاَ تَفْتَخِرْ بِتَرَدِّي الثِّيَابِ، وَلاَ تَتَرَفَّعْ فِي يَوْمِ الْكَرَامَةِ؛ فَإِن أَعْمَالَ الرَّبِّ عَجِيبَةٌ، وَأَفْعَالَهُ خَفِيَّةٌ عَنِ الْبَشَرِ. 5كَثِيرُونَ مِنَ الْمُتَسَلِّطِينَ جَلَسُوا عَلَى التُّرَابِ، وَالْخَامِلُ الذِّكْرِ لَبِسَ التَّاجَ. 6كَثِيرُونَ مِنَ الْمُقْتَدِرِينَ لَحِقَهُمْ أَشَدُّ الْهَوَانِ، وَالْمُكَرَّمُونَ سُلِّمُوا إِلَى أَيْدِي الآخَرِينَ. 7لاَ تَذُمَّ قَبْلَ أَنْ تَفْحَصَ. تَفْهَّمْ أَوَّلًا ثُمَّ وَبِّخْ. 8لاَ تُجَاوِبْ قَبْلَ أَنْ تَسْمَعَ، وَلاَ تَعْتَرِضْ حَدِيثَ أَحَدٍ قَبْلَ تَمَامِهِ. 9لاَ تُجَادِلْ فِي أَمْرٍ لاَ يَعْنِيكَ، وَلاَ تَجْلِسْ لِلْقَضَاءِ مَعَ الْخَطَأَةِ. 10يَا بُنَيَّ، لاَ تَتَشَاغَلْ بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ مَلاَمٍ. إِنْ تَتَبَّعْتَهَا لَمْ تَحُشْهَا، وَإِنْ سَبَقْتَهَا لَمْ تَنْجُ.
ع1 : الوضيع : المتضع.
الإنسان المتضع الذى يعرف ضعفه، ولا ينزعج من هذا الضعف، وله علاقة مع الله ينال حكمة من الله، يتعجب لها من حوله، فيكرمونه، ويستشيرونه، فيكون مرجعاً لهم، وهكذا يرتفع فى نظر من حوله، ويعتبرونه من العظماء.
وعلى العكس، الإنسان الجاهل، حتى لو كان له أموال ومركز كبير، يحتقره الناس لأجل جهله، وميله للكبرياء والتسلط، والتباهى أمام الناس، من أجل هذا دعانا المسيح فى العهد الجديد أن نكون متضعين، ونجلس فى المتكأ الأخير، وإذ يرى الناس حكمتنا يرفعوننا إلى المتكآت الأولى، وعلى العكس، من يسعى إلى الكرامة، ويجلس فى المتكأ الأول، يمكن أن يبعدوه، ويضعونه فى المتكأ الأخير (لو14: 8-11).
ونرى تشابه بين الآيات من (ع1-6) مع صلاة حنة أم صموئيل (1صم2: 1-10).
ع2 : تذم : تظهر مساوئ.
هذه الآية تنبهنا إلى عدم التأثر بالمظهر الخارجى، أى لا نحكم حسب الظاهر بل نحكم حكماً عادلاً (يو7: 24). فليس العبرة بجمال المنظر الخارجى للإنسان، أو بمظهره الضعيف، فشاول الملك كان طويل القامة، وجميلاً، وأطول من فى الشعب يصل إلى كتفه، ولكنه كان شريراً، ورفضه الله (1صم16: 7)، وداود كان صغيراً، ولا تظهر عليه مظاهر الملك، والله اختاره؛ ليكون أفضل ملوك بنى إسرائيل (1صم13: 14؛ أع13: 22)، والمسيح نفسه ظهر كإنسان عادى، بل كان فى مظهر ضعف واضح على الصليب، كما تنبأ عنه أشعياء وقال : “لا صورة له ولا منظر لنشتهيه” (اش53: 2، 3) مع أنه هو ملك الملوك ورب الأرباب.
ع3 : جناه : انتاجه والمقصود العسل.
تقدم هذه الآية مثالاً لمخلوق مظهره صغير، ولكنه يعطى، وينتج أحلى شئ فى الطعم، وهو العسل. هذا المخلوق هو النحل، وهو ليس طائراً، بل حشرة صغيرة تطير فى الجو، ولا تقاس بعظمة الطيور الكبيرة مثل النسر، أو النعامة، ولكن لا أحد منها يستطيع أن ينتج شيئاً حلواً مثلما ينتجه النحل، فلا تحكم يا إنسان على الآخرين بحسب مظهرهم، بل بحسب ما ينتج منهم من أعمال صالحة.
ع4 : بتردى الثياب : بارتداء الملابس.
لا تتكبر بأنك تلبس ملابس فاخرة أكثر ممن حولك، فهذه مجرد مظاهر خارجية، المهم الشخص نفسه الذى يلبسها، وما هى طباعه.
ولا تتفاخر حينما يكرمونك، ويمدحونك، وتنسى أن تعطى المجد لله الذى هو ضابط الكل، وفى يده السلطان على كل شئ،وهو يطيل أناته على البشر؛ ليتوبوا عن كبريائهم، ولكنه قادر أن يبيدهم فى لحظة إن أراد. فحينما تكبر هيرودس، ولبس الحلة الملوكية، ومدحه الصيدونيون، وقالوا عن كلامه أنه صوت إله، وليس إنسان، فضربه الله بالدود فى الحال، فأكله وهو حى حتى مات (أع12: 23)، كذلك أنطيوخوس الملك الذى تكبر، وأراد أن يهاجم بنى إسرائيل، ويحطم الهيكل، ضربه الله بالدود أيضاً، فمات وألقوا جثته فى الطريق
(2مك9: 9).
والله قادر أن يمجد أولاده مهما كانوا فى ضعف، فيوسف العبد فى بيت فوطيفار رفعه الله إلى عرش مصر (تك41: 42، 43). ودانيال العبد كرمه الله، فسجد له نبوخذ نصر الإمبراطور، وجعله والياً على بابه (دا2: 46).
ع5، 6 : الخامل الذكر : الإنسان المهمل من الآخرين.
إن ظروف الحياة متغيرة فالمتسلطون، وذوو المراكز يمكن أن ينحطوا، ويجلسوا على التراب، ويرفع الله المهملين من الناس، ويجعلهم ملوكاً. فمنسى الملك نقله ملك بابل إليها، ووضعه فى السجن، وجلس على الأرض. أما داود المهمل مع الغنم، والمطرود فى البرارى، جعله الله ملكاً، ولبس التاج.
وكثيرون من المقتدرين وقعوا فى هوان وخزى، ومثلهم المكرمون رُبطوا كعبيد وأسرى، فالمقتدرون مثل يكنيا ملك يهوذا وضعه ملك بابل فى السجن، والمكرمون مثل شمشون جعله الفلسطينيون أعداؤه يجر الطاحون فى معبدهم كالحيوان (قض16: 21) ولكنه عندما تاب انتصر عليهم جميعاً.
ع7 : لا تتسرع فى الحكم على الأمور، وتتهم غيرك بالخطأ قبل أن تفحص الأمور جيداً، وتسمع من كل الأطراف. وإن لم يكن لديك القدرة أن تسمع من كل الأطراف، فلا تحكم؛ لأن حكمك لن يكون عادلاً، بل منحازاً لمن سمعت منه. الأمر يحتاج إلى صلاة وتأنى، وحسن استماع للأطراف المتعارضة.
لا تندفع فى توبيخ إنسان قبل أن تتفهم الأمور بهدوء؛ لئلا تسىء إلى البرىء، وتتعب نفسيته، فقد يكون محتاجاً إلى العكس، وهو تشجيعك.
ع8 : تدعونا هذه الآية إلى حسن الإنصات، فيستمع الإنسان بطول أناة للآخر، قبل أن يرد عليه ويجاوبه، فيستطيع أن يتفهم ما يقوله الآخر، ويصلى، فيجيب إجابة سليمة؛ لأن اندفاع الإنسان فى الكلام، ومقاطعته لغيره يسقطه فى خطايا كثيرة أهمها :
- مضايقة الآخرين.
- عدم فهم مقاصد الآخرين.
- قرارات غير سليمة، وقد يصعب الرجوع فيها.
ع9: تنهينا هذه الآية عن كثرة النقاش فى أمور لا تهم الإنسان، وذلك لما يلى:
- لأن الإنسان لا يعرف الأمر، فمعرض أن يسقط فى أحكام خاطئة.
- هذه الأمور التى لا تعنيه تشغله عن هدفه فى الحياة، وهو الوجود مع الله، وإتمام أعماله المسئول عنها.
تحذرنا الآية أيضاً من الجلوس مع قضاة، أو شيوخ، أو مسئولين خطاة، إذ ستكون أحكامهم شريرة، وغير مستقيمة، فلعل الإنسان يتأثر بكلامهم، فيصدر حكماً خاطئاً، ويظلم غيره، وبالتالى لا يناسب أن تناقش الخطاة، إذ أنك ستتأثر بكلامهم، فتشوش ذهنك. والأفضل أن تصمت، وتحترس من الكلام الردىء فى مجلس الخطاة، الذى اضطرتك الظروف أن تجلس معهم.
ع10: لم تخل من ملام : لم تنجُ من اللوم.
لم تحشها : لم تستطع أن تجمعها، أو تنتهى منها.
سبقتها : حاولت الهرب منها.
لا تنشغل بمسئوليات أكثر من طاقتك؛ لأنك لن تستطيع أن تكملها، فتكون مقصراً فيها، ويلومك الناس على تقصيرك. ولا يمكنك الهرب من لومهم لك، فستظل مسئولاً عن الأعمال التى تعهدت بالقيام بها، فالأفضل أن تكتفى بمسئوليات محددة معقولة تناسب وقتك وجهدك.
ولا تقرأ فى كتب كثيرة فى وقت واحد، فلا تستطيع إدراك الحقائق، ولا تشترك فى خدمات كثيرة، فتكون مقصراً فيها.
ليتك تتأنى قبل أن تتكلم، أو تعمل؛ حتى تكون لك فرصة للصلاة، والتفكير فتعطى مكاناً لله؛ ليرشدك، فتتصرف حسناً وتصير حكيماً.
(2) الإيمان والاتكال على الله (ع11-30):
11رُبَّ إِنْسَانٍ يَنْصَبُ وَيَتْعَبُ وَيَجِدُّ وَلاَ يَزْدَادُ إِلاَّ فَاقَةً! 12وَرُبَّ إِنْسَانٍ بَلِيدٍ، فَاقِدِ الْمَدَدِ، قَلِيلِ الْقُوَّةِ، كَثِيرِ الْفَقْرِ، 13نَظَرَتْ إِلَيْهِ عَيْنَا الرَّبِّ بِالْخَيْرِ، فَنَعَشَهُ مِنْ ضَعَتِهِ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ فَتَعَجَّبَ مِنْهُ كَثِيرُونَ. 14الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، الْفَقْرُ وَالْغِنَى مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. 15الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ وَمَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. الْمَحَبَّةُ وَطُرُقُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِنْدِهِ. 16الضَّلاَلُ وَالظُّلْمَةُ خُلِقَا مَعَ الْخَطَأَةِ، وَالَّذِينَ يَرْتَاحُونَ إِلَى الشَّرِّ، فِي الشَّرِّ يَشِيخُونَ. 17عَطِيَّةُ الرَّبِّ تَدُومُ لِلأَتْقِيَاءِ، وَمَرْضَاتُهُ تَفُوزُ إِلَى الأَبَدِ. 18رُبَّ غَنِيٍّ اسْتَغْنَى بِاهتِمَامِهِ وَإِمْسَاكِهِ، وَإِنَّمَا حَظُّهُ مِنْ أُجْرَتِهِ، 19أَنْ يَقُولَ: «قَدْ بَلَغْتُ الرَّاحَةَ، وَأَنَا الآنَ آكُلُ مِنْ خَيْرَاتِي»، 20وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَمْ يَمْضِي مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى يَتْرُكَ ذلِكَ لِغَيْرِهِ وَيَمُوتَ. 21أَقِمْ عَلَى عَهْدِكَ، وَثَابِرْ عَلَيْهِ، وَشِخْ فِي عَمَلِكَ. 22لاَ تَعْجَبْ مِنْ أَعْمَالِ الْخَطَأَةِ. آمِنْ بِالرَّبِّ وَابَقَ عَلَى جَهْدِكَ. 23فَإِنَّهُ هَيِّنٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، أَنْ يُغْنِيَ الْمِسْكِينَ فِي الْحَالِ بَغْتَةً. 24بَرَكَةُ الرَّبِّ فِي أُجْرَةِ الْتَّقِيِّ، وَهُوَ فِي لَحْظَةٍ يَجْعَلُ بَرَكَتَهُ مُزْهِرَةً. 25لاَ تَقُلْ: «أَيُّ حَاجَةٍ لِي، وَأَيُّ خَيْرٍ يَحْصُلُ لِي مُنْذُ الآنَ». 26لاَ تَقُلْ: «لِي مَا يَكْفِينِي، فَلِمَ أَتَعَنَّى مُنْذُ الآنَ؟» 27إِنَّ الْبُؤُوسَ تُنْسَى فِي يَوْمِ الْنِّعَمِ، وَالْنِعَمَ لاَ تُذْكَرُ فِي يَوْمِ الْبُؤُوسِ. 28فَإِنَّهُ هَيِّنٌ عِنْدَ الرَّبِّ أَنْ يُجَازِيَ الإِنْسَانِ بِحَسَبِ طُرُقِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ. 29شَرُّ سَاعَةٍ يُنْسِي اللَّذَّاتِ، وَفِي وَفَاةِ الإِنْسَانِ انْكِشَافُ أَعْمَالِهِ. 30لاَ تُغَبِّطْ أَحَدًا قَبْلَ مَوْتِهِ. إِنَّ الرَّجُلَ يُعْرَفُ بِبَنِيهِ.
ع11-13: ينصب : يبذل كل مجهوده.
فاقة : فقر.
بليد : ضعيف وبطىء.
المدد : العون.
نعشه من ضعته : أقامه من ضعفه وفقره.
توضح هذه الآيات أهمية الاتكال على الله، وبدونه لا يجد الإنسان نجاحه الحقيقى. ويعطى أمثلة، ففى (ع11) فيقول سيراخ : قد يوجد إنسان فقير، ويتعب كثيراً بكل جهده، ولكن لا يصل إلى شئ، بل يزداد فقراً، وذلك لأسباب كثيرة؛ إما لأنه فاقد نعمة الله ومعونته، أو أن الله يعتبر جهده ويقدره، ولكنه لا يريد السماح له بالغنى لئلا يضل، فالله يطلب مصلحته الروحية أكثر من نجاحه المادى، إذ هو إنسان متكل على الله، ومرتبط به.
ثم يعطى مثالاً آخر، وهو إنسان ضعيف بطىء الحركة والجهد، ولا يوجد من يسانده من البشر، وفقير جداً، ثم صرخ إلى الله، فنظر إليه بمحبة وسانده، وأقامه من فقره، وأعطاه خيرات ونعمة فى أعين من حوله، فصار له مركزاً كبيراً، وفرح بأعمال الله وشكره، وتعجب الكثيرون من تغير أحواله، وشعروا أن قوة خفية ساندته، وهى قوة الله، وبذلك أصبح مثالاً للاتكال على الله.
ع14: خلاصة الآيات من (ع11-13) أن الله هو ضابط الكل، وهو المعطى الخيرات، ويسمح بالضيقات، بل يعطى الحياة للبشر، أو يسمح بموتهم، ففى يده كل شئ، ويعمل كل هذا لخير أولاده، ونموهم الروحى.
ع15: الله هو مصدر الحكمة، وكل العلوم والمعرفة تؤخذ منه، وبالطبع معرفة شريعة الله التى هى كلامه، وقوانينه التى يعطيها لشعبه ولأولاده. فكل من يتمنى أن ينال الحكمة والمعرفة، يلزم أن يلتصق بالله، ويطلب منه. ومن ناحية أخرى هو مصدر ليس فقط العقل، بل أيضاً العاطفة، فهو الذى يعطى مشاعر الحب والرحمة لأولاده؛ ليفيضوا بها على الآخرين، ويصنعوا خيراً مثله مع كل محتاج.
ع16: إن كان الله هو مصدر الخير والرحمة، فالخطية هى مصدر الضلال والظلمة، واللتين هما عكس الخير والنور. إن الشر لم يظهر فى العالم إلا عند سقوط الشيطان، ثم سقوط آدم وحواء، وبهذا دخلت الخطية إلى الجنس البشرى، ولكن المسيح بمحبته رفعها عن أولاده بالصليب لكل من يؤمن ويتمسك به.
والذى يحب الشر ويرتاح فيه، يتمسك به، فيعيش كل أيامه حتى الشيخوخة فى الشر، مستعبداً نفسه للشيطان. والروح القدس يتوقف عمله فى هذا الشرير؛ فى العهد القديم يفارقه، وفى العهد الجديد ينطفئ عمله فيه.
ع17: على العكس فكل من يخاف الله، ويحيا فى التقوى، يباركه الله، ويرضى عليه، ويفيض عليه بعطاياه الروحية والمادية، ويسنده طوال حياته، بل إلى الأبد يحيا مع الله فى الملكوت فى فرح لا يعبر عنه.
ع18-20: رُبَّ : ربما.
يمكن أن يهتم الإنسان باكتناز الأموال، وبمجهود وعمل كثير يصير غنياً، وهذا كله من مجهوده (حظه من أجرته)، وليس من بركة الله.
هذا الغنى يطمئن لكثرة أمواله، فيشعر أنه مستقر، ويحيا فى راحة، معتمداً على أمواله التى كونها، وينسى هذا الغنى أنه بعد فترة من الزمن سيترك كل هذه الأموال، ويستفيد منها غيره. فالاعتماد على الغنى كاذب، ويمكن أن تضيع الأموال فجأة، أو تظل موجودة، ولكن يعانى الغنى من متاعب كثيرة، مثل الأمراض، أو تباعد الناس عنه، أو مشاكل تحدث له، فيكون فى هم وتعب؛ لأنه بعيد عن الله، ولا يستند عليه، ولا ينال بركته، وتعزياته، فيحيا فى كآبة وضيق.
ع21: توصينا هذه الآية على الثبات فى العهد مع الله، والتمسك بوصاياه، والابتعاد عن الخطية. بل وتوصينا أيضاً بالمثابرة على الأعمال الروحية، وكل عمل صالح حتى الشيخوخة، مع النشاط فى الحياة العملية، قدر ما تسمح صحة هذا الشيخ.
ع22-24: بغتة : فجأة.
لا تتعجب من نجاح الأشرار، ويدب فى قلبك الغيرة منهم، فهذا النجاح مؤقت، ولا يصاحبه سلام داخل قلوب الأشرار، بل اثبت فى إيمانك بالله، وتمسكك بوصاياه، ولا تجرى وتقلد الأشرار فى سلوكهم الخاطئ البعيد عن الله.
وإن كنت فقيراً ومسكيناً، فالله قادر أن يغنيك فجأة، إن كان هذا فى مصلحتك الروحية، ويزيدك سلاماً.
والله قادر أن يبارك فى أجرة المسكين التقى، أى الخائف الله، فتزداد، ويعطيه ثماراً ونجاحاً لا يتوقعه أحد، مثل الشجرة التى تعطى أزهاراً وثماراً حلوة.
ع25، 26: أتعنى : أتعب.
تدعونا هاتان الآيتان إلى النشاط وعدم الكسل، مهما كان عندنا من خيرات وأموال، فقد يتوهم الغنى أن خيراته كثيرة فلا يعمل ويفقد نشاطه، فيضعف تفكيره، وقدرته على تدبير أموره، ولبعده عن الله يمكن أن تصيبه ضيقات يتعب منها جداً، مثل أن يفقد أمواله ويفتقر، أو تصيبه أمراض صعبة، ويعجز عن أعمال كثيرة؛ لتعوده الكسل؛ لأنه اعتمد على غناه وشعر أنه غير محتاج لله. فينبغى أن يحيا الإنسان مهما كان غنياً فى مخافة الله، ويتمسك بوصاياه، ويجاهد فى ضبط حواسه وأفكاره، ولا يتساهل مع الخطية، فيحيا مطمئناً فى عناية الله؛ ولا يعتمد على غناه؛ لأنه لن يفيده أمام الله، بل تقواه هى التى تتكلم عنه يوم الدينونة.
ع27: تعلن هذه الآية حقيقة هامة، وهى أن التعب الذى يبذله الإنسان فى جهاده، ينساه عندما يحصل على نعم الله، سواء الروحية، أو المادية. والعكس صحيح، فإن من يتكاسل عن العمل والجهاد، ينسى كل النعم السابقة فى حياته، عندما يحل به البؤس والشقاء لكسله.
والخلاصة، تدعونا هذه الآية إلى الاستمرار فى النشاط والجهاد الروحى؛ حتى سن الشيخوخة.
ع28: إن حياة الإنسان كلها تظهر نتيجتها بعد الموت، فيجازى الله الأبرار بالراحة والمجد، ويجازى الأشرار بالعذاب الأبدى.
ع29: إن ساعة الموت رهيبة، ومهما كان الإنسان منغمساً فى شهوات العالم الباطلة، عندما تأتيه ساعة الموت يكون فى رعب؛ لأنه لم يرضِ الله، فينال مجازاة شروره، وهكذا تنكشف أعماله الردية فى ساعة موته وذهابه إلى العذاب.
ع30: تغبط : تمدح.
لا يعرف الإنسان أنه بار، أو شرير إلا بعد نهاية حياته؛ لأنه قد يكون باراً بالحقيقة، أو يتظاهر بالبر، وفى ساعة الموت ينكشف الإنسان على حقيقته، فإما أن يكون فى سلام مع خوف الله، أو يكون فى اضطراب وشقاء.
وبعد موت الإنسان يمكن أن نعرف صفاته من خلال بنيه؛ لأنه إما أن يكون قد علمهم الصلاح، أو قد أهملهم وتعلموا منه الشر، ولكن لكل قاعدة شواذ، فيمكن أن يخرج إنسان شرير من أب صالح، إن كان قد التصق بأصدقاء أشرار، وعاش فى جو يبعده عن الله، والعكس صحيح، فيمكن أن يخرج إنسان بار من رجل شرير، إذا عاش هذا الإنسان فى جو روحى، وتتلمذ على أيدى أناس صالحين.
لا تضطرب من تقلبات الحياة؛ لأن معك الله ضابط الكل، فاتكل عليه؛ لتعبر بسلام وسط مشاكل العالم، بل تتمتع بالله وسط الضيقات، كما تمتع الثلاث فتية برؤية الله وسط الآتون، وكما تمتع دانيال برؤية الملاك فى جب الأسود.
(3) الحذر من الأشرار (ع31-36):
31لاَ تُدْخِلْ كُلَّ إِنْسَانٍ إِلَى بَيْتِكَ؛ فَإِنَّ مَكَايِدَ الْغَشَّاشِ كَثِيرَةٌ. 32كَصِفَةِ الْحَجَلِ الصَّيَّادِ فِي الْقَفَصِ، صِفَةُ قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ، وَهُوَ كَرَاصِدٍ يَرْقُبُ السُّقُوطَ. 33فَإِنَّهُ يَكْمُنُ، مُحَوِّلًا الْخَيْرَ إِلَى الشَّرِّ، وَيَصِمُ الْمُخْتَارِينَ بِالنَّقَائِصِ. 34مِنْ شَرَارَةٍ وَاحِدَةٍ يَكْثُرُ الْحَرِيقُ، وَالرَّجُلُ الْخَاطِئُ يَكْمُنُ لِلدَّمِ.
35احْذَرْ مِنَ الْخَبِيثِ الَّذِي يَخْتَرِعُ الْمَسَاوِئَ، لِئَلاَّ يَجْلُبَ عَلَيْكَ عَارًا إِلَى الأَبَدِ. 36أَدْخِلِ الأَجْنَبِيَّ إِلَى بَيْتِكَ؛ فَيَقْلِبَ أَحْوَالَكَ بِالْمَشَاغِبِ، وَيَطْرُدَكَ عَنْ خَاصَّتِكَ.
ع31: مكايد : جميع مكيدة، وهى الحيلة المملوءة مكراً.
إن محبة جميع الناس أمر واجب، ولكن لا تدخل الغرباء إلى بيتك وتستضيفهم كأنهم أهل البيت، فيعيشون معك، أو يترددون عليك كثيراً، وأنت لم تختبرهم من قبل، فقد تكتشف أن أحدهم غشاش، ويصنع مكايد خطيرة فى بيتك، مثل أن يستميل امرأتك، أو ابنتك للخطية، أو توقعك المرأة التى أدخلتها فى بيتك فى شر أنت، أو ابنك، بالإضافة إلى تكوين علاقات قوية بينك وبين غرباء قد تنزلق فى معاملات مادية تكلفك خسائر كثيرة.
ع32: الحجل الصياد : هو طائر يسرق بيض الطيور الأخرى من أعشاشها، ويصدر أصواتاً قوية تجذب باقى الطيور، ولذا يستخدمه الصيادون بوضعه فى قفص، فتجتمع حوله الطيور، ويصطادونها.
كراصد : كمراقب.
تشبه هذه الآية الغريب الذى دخل إلى بيتك بطائر الحجل، الذى صفاته يمكن أن تكون سيئة، فيستغلك ويراقب أخطاءك ليصطادك منها، أو يوقعك فى شر بسبب ضعفاتك، فاحترس من الدخول فى علاقات مع غرباء باندفاع؛ ولكن أحبب الكل، واختبرهم، وصلى ليرشدك الله قبل أن تدخل فى علاقة عميقة مع أحد. ولذا يحرص كثير من الناس المدققين أن يسكنوا بعيداً، ولو قليلاً عن أقاربهم، أى لا يسكن الإخوة والأقرباء المقربون فى مساكن متجاورة؛ للبعد عن المشاكل التى قد يثيرها شخص واحد، فيتعب من حوله.
ع33: يكمن : يختبئ.
يصم : يسد الآذان بكثرة الكلام.
هذا الغريب الشرير يراقب بيتك، ويرد لك بدل الخير الذى قدمته له، وضيافتك الكريمة، شراً، ومكايد، واستغلالاً، وإدانة لك، حتى إنه من كثرة إدانته لك، وإظهار نقائصك وعيوبك، يملأ آذان الناس، ويسدها، أى يسىء لسمعتك بشدة. ولأنه شرير، يتكلم عن الأبرار المختارين الذين مثلك، ويفترى عليهم باتهامات كاذبة.
ع34: تصف هذه الآية كلمات هذا الغريب الشرير، بأنها كشرارة النار، التى تشعل كل ما حولها، وتصبح حريقاً، أى أن كلماته الشريرة تزداد؛ حتى تسىء إليك من كل جانب. فهذا الغريب يختفى ليوقعك فى متاعب تصل إلى قتلك، أى إلى الدم، أو يسىء إليك إساءة شديدة إليك تكون قتلاً أدبياً لك، وتسبب لك إحراجاً وتعباً كثيراً.
ع35: هذا الغريب خبيث، وفى إساءته إليك، وإدانته لك يوقعك فى عار وخزى؛ أنت فى غنى عنه؛ لذا لا تدخله إلى بيتك. وهذا العار قد يكون إسقاطك فى خطية تتعبك فى حياتك، وإن لم تتب عنها، تكون سبباً لعذابك إلى الأبد فى الجحيم.
ع36: المشاغب : المشاكل.
خاصتك : أهلك.
هذا الغريب الذى أدخلته إلى بيتك يوقعك فى مشاكل، ويشغلك عن أهل بيتك، أى يفصلك عنهم تدريجياً بمرور الزمن، مما يضايقك ويضايقهم، فلماذا كل هذا؟ الابتعاد عن هذا الغريب أفضل. قدم محبة لكل الناس، ولكن لا تكشف أسرارك إلا لخاصتك، ولأبيك الروحى. ولا تندفع فى علاقة عميقة دون فحص، ويكفى أن تحيا فى سلام مع الكل، وتحبهم، وتساعدهم، وتحتفظ بحياتك الخاصة مع الله، ومع أهلك.