العطاء والحكمة
(1) العطف على الفقراء (ع 1-11):
1يَا بُنَيَّ، لاَ تَحْرِمِ الْمِسْكِينَ مَا يَعِيشُ بِهِ، وَلاَ تُمَاطِلْ عَيْنَيِ الْمُعْوِزِ. 2لاَ تَحْزُنِ النَّفْسَ الْجَائِعَةَ، وَلاَ تَغِظِ الرَّجُلَ فِي فَاقَتِهِ. 3لاَ تَزِدِ الْقَلْبَ الْمَغِيظَ قَلَقًا، وَلاَ تُمَاطِلِ الْمُعْوِزَ بِعَطِيَّتِكَ. 4لاَ تَأْبَ إِعْطَاءَ الْبَائِسِ سُؤْلَهُ، وَلاَ تُحَوِّلَ وَجْهَكَ عَنِ الْمِسْكِينِ. 5لاَ تَصْرِفْ طَرْفَكَ عَنِ الْمُعْوِزِ، وَلاَ تَصْنَعْ شَيْئًا يَجْلُبُ عَلَيْكَ لَعْنَةَ الإِنْسَانِ. 6فَإِنَّ مَنْ يَلْعَنُكَ بِمَرَارَةِ نَفْسِهِ، يَسْتَجِيبُ صَانِعُهُ دُعَاءَهُ. 7كُنْ مُتَوَدِّدًا إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَاخْفِضْ رَأْسَكَ لِذِي الْوَجَاهَةِ. 8أَمِلْ أُذُنَكَ إِلَى الْمِسْكِينِ، وَأَجِبْهُ بِرِفْقٍ وَوَدَاعَةٍ. 9أَنْقِذِ الْمَظْلُومَ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ، وَلاَ تَكُنْ صَغِيرَ النَّفْسِ فِي الْقَضَاءِ. 10كُنْ أَبًا لِلْيَتَامَى، وَبِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لأُمِّهِمْ؛
11فَتَكُونَ كَابْنِ الْعَلِيِّ، وَهُوَ يُحِبُّكَ أَكْثَرَ مِنْ أُمِّكَ.
ع1: تماطل: تؤجل.
المعوز : المحتاج.
يواصل يشوع بن سيراخ كلامه عن أهمية الصدقة التى بدأها فى الأصحاح الماضى، فيقول فى بداية هذا الأصحاح أن من حق الفقير أن يعيش، ويلزم على الغنى أن يعطيه احتياجه، وإن لم يعطه فهو يحرمه من حقه فى الحياة والمعيشة، ولذا فهو يوصى أولاده المهتمين بتعلم الحكمة أن يعطفوا على المحتاجين ويعطونهم احتياجاتهم الضرورية.
ومن ناحية أخرى إن كان أمامك إنسان فقير محتاج، ويطلب منك أن تساعده، وعندك ما تساعده به، فلا تؤجل إعطاءه حقه، وهو احتياجه الذى عندك، وتصرفه ليأتى بعد يوم، أو إثنين، وعين المسكين تترجاك، وأنت فى قسوة تصرفه فارغاً.
تذكر مراحم الله عليك التى يعطيك بسخاء، ولا يعيرك، فيشرق عليك بشمسه، ويعطيك ماء الأمطار، ويحفظك فى طرقك، ويعطيك احتياجاتك كل يوم، حتى تعطى كل محتاج بسرعة وبسخاء.
ع2: فاقته: فقره.
يحذر سيراخ عن إحزان النفس الجائعة، أى الفقير الذى لا يجد طعامه اليومى، وإحزانه يكون عن طريق رفض مساعدته، أو توبيخه على أخطاء صنعها بقصد، أو دون قصد، مع عدم تقدير أنه يعانى من الجوع، وهذا الجوع يعنى عجزه عن تدبير احتياجاته الضرورية من الملبس والمسكن والطعام، وعلاج الأمراض.
يحذر أيضا كل إنسان أن يغيظ الفقير، وهذا يتم إذا أعطيت أمامه آخرين أغنى منه، أو منافقين ولا يستحقون، وهو المستحق لا يأخذ احتياجاته منك، لذا اهتم بالكل، خاصة من تعرف أنهم فقراء ومحتاجون بالحقيقة. ويمكن أن تغيظ الفقير أيضا إذا كنت تصرف أموالاً ببذخ أمامه فى كماليات، وهو لا يجد ضروريات حياته وهذا ما أدى فى بعض البلاد إلى ثورة الفقراء على الأغنياء مثلما حدث فى فرنسا.
ع3: المغيظ: المغتاظ.
إذا كان الفقير قد شعر بشدة حرمانه، الذى أدى إلى غيظه لكونه فقيراً، فحتى لو صدرت منه كلمات، أو تصرفات سيئة، فلا توبخه، لأنك بهذا تستفزه، وتزيد غيظه، فهو مسكين، فلماذا تضغط عليه؟ إن لم تستطع أن تشجعه بكلمات طيبة، أو تساعده بسد احتياجاته، فعلى الأقل لا تزيد متاعبه. وكما قلنا أن مما يزيد متاعبه، وإحساسه بالحرمان هو مبالغتك فى التنعم والرفاهية، وهو لا يجد قوته.
وإذا كنت قد وعدت الفقير أنك ستعطيه وهو محتاج اليوم، فلا تؤجل عطيتك للغد، أو بعد فترة، إنك بهذا تستفزه وتغيظه، ويقع فى حيرة؛ لأنه لا يعرف كيف يسد احتياجاته إلى أن تعطيه.
كن رحيما بالفقراء والمحتاجين مثلما تتمتع برحمة الله عليك.
ع4: تأب: ترفض.
سؤله: سؤاله أو طلبته.
البائس : المسكين.
لا ترفض سؤال الفقير الذى يطلب منك أن تساعده لأنه محتاج، وقد تسألنى كيف أعرف وأتأكد أنه فقير؟ فأقول لك كلام المسيح “من سألك فأعطه” (لو6: 30) وحتى لو أعطيته شيئاً قليلاً وليس كل ما يطلبه لأنك تشك فيه، ولكنك على الأقل تكون قد ساعدته، وهذه المساعدة ثق أنك قد قدمتها للمسيح الذى يفرح بك.
وإذا وجدت إنساناً مسكيناً وفقيراً، فلا تتظاهر بأنك لا تراه، أو تنشغل عنه وتهمله، فهو محتاج، فلماذا تتركه فى احتياجه؟ وهل تحتمل أن يحول الله وجهه عنك عندما تسأله فى أى احتياج؟!
ع5 ، 6: لا تصرف طرفك: لا تبعد نظرك.
لا تبعد نظرك عن الفقير، أى لا تهمله، أو تنشغل عن احتياجه، لأنه إن كان محتاجاً بالفعل وأهلمت احتياجه، فإنه يتضايق جداً منك، ويصرخ إلى الله، ومن شدة إحساسه بالحرمان قد يلعنك، فتكون أنت سببا فى إسقاطه فى هذه الخطية، وهى أن يلعنك ويدينك.
وإن لم يلعنك، فالله لا يسكت على إهمالك له لأجل شدة احتياجه، كما جاء فى المزمور (مز 72 : 4 ، 12) وكذلك سفر الأمثال يؤكد نفس المعنى (أم 28 : 27).
ع7: التودد للجماعة، أى إقامة علاقات طيبة مع المجتمع، تتم من خلال مساعدة الفقراء والمحتاجين، إذ أن المجتمع كله له احتياجات. فمن من الناس ليس محتاجاً، قد يصاب الإنسان بالمرض، أو يحتاج فى شيخوخته، أو يكون غريباً ويحتاج لمن يرشده.. فمساعدة المحتاجين بكل نوع تقيم علاقات محبة وترابط جميل بين أفراد المجتمع، وتجعلك محبوباً من الكل، بل يساعدونك أيضا إذا احتجت.
من ناحية أخرى، فإن المجتمع فيه فئة الوجهاء والعظماء، هؤلاء ينبغى احترامهم وتوقيرهم، وخفض الرأس نوع من الاحترام عند مقابلة العظماء.
هذه الآية ليست دخيلة بين الآيات، ولكنها مرتبطة بالآيات السابقة لها (ع 1-6) التى تتكلم عن مساعدة المحتاجين، ومرتبطة أيضا بآية تالية لها تتحدث عن الوجهاء أى العظماء وهى (ع9).
ع8: إمالة الأذن إلى المسكين معناها التكلم معه باتضاع، واستماعه باهتمام. وهذا نوع من الترفق والوداعة فى المعاملة، فتمتص جزء من ضيقه، وتلطف حاله، وتشجعه على مواجهة مشاكل الحياة.
أى أنك إن لم تستطع مساعدة الفقير بإعطائه احتياجاته، فعلى الأقل استمع إليه، وتكلم معه بكلمات طيبة مشجعة.
ع9: إذا قابلت إنساناً مظلوماً فلا تهمله، خاصة وإن كان ظالمه يفعل هذا أمامك، فتدخل لإنقاذه إن كان فى إمكانك، وإن لم تستطع أن تبعد الظالم عنه، فعلى الأقل ساعده إن استطعت.
من ناحية أخرى، إن طلبت شهادتك، أو رأيك فى موضوع فيه ظلم فلا تحابى الإنسان العظيم، ولكن اعلن الحق لتساند المظلوم، سواء كان هذا فى جلسة عادية فى المجتمع، أو أمام المحكمة. وإذا كان الحق الذى ستعلنه يسبب لك متاعب، فلا تتراجع، ولكن انقذ المظلوم واعلن حق الله، واحتمل ما يسمح به الله لك، فيباركك ويكافئك.
ع10: فى ختام كلام سيراخ عن الاهتمام بالمحتاجين، يطلب ممن يحب الحكمة أن يهتم باليتيم، بل يكون كأب له بكل ما تحمل كلمة الأبوة من رعاية، ومساندة، وإحساس باليتيم، وثبات فى محبته، حتى يعوضه أباه الذى فقده.
ويطلب أيضا ممن يحب الحكمة أن يهتم بالأرملة، فيكون رجلاً لها، أى سنداً لها فى كل احتياجاتها كزوجها، أو رجلها الذى يعتنى بها، ويحامى عنها، ويساعدها أمام الظالمين، والمستغلين، حتى يحفظ حياتها فى سلام وطمأنينة ونقاوة.
ع11: إذا اهتم الإنسان باليتيم والأرملة يكون بالحقيقة ابن الله، لأن الله أعلن فى الكتاب المقدس أنه أبو اليتامى وقاضى الأرامل (مز 68 : 5).
وإن كان من يهتم باليتيم والأرملة ابن الله، فإن الله يحبه محبة تفوق كل محبة على الأرض، فهو يحبه محبة أكثر من أمه، التى هى مثال للمحبة لأبنائها، أى يشبعه الله بالحب أضعاف ما أعطى من محبة لليتيم، أو الأرملة.
ليتك تشعر بالمحتاجين، سواء الفقراء، أو المرضى، أو اليتامى، أو الأرامل، أو أى إنسان فى احتياج ما؛ حتى تتعاطف معهم، وتظهر محبتك لهم، وتساعدهم قدر طاقتك، وثق أن محبتك هذه التى تقدمها لهم، أنت تقدمها لله شخصيا، فيفرح بك، ويباركك.
(2) بركات الحـكمة (ع 12-22):
12الْحِكْمَةُ تُنْشِئُ لَهَا بَنِينَ، وَالَّذِينَ يَلْتَمِسُونَهَا تَضُمُّهُمْ إِلَيْهَا. 13مَنْ أَحَبَّهَا أَحَبَّ الْحَيَاةَ، وَالَّذِينَ يَبْتَكِرُونَ إِلَيْهَا يَمْتَلِئُونَ سُرُورًا. 14مَنْ مَلَكَهَا يَرِثُ مَجْدًا، وَحَيْثُمَا دَخَلَتْ، فَهُنَاكَ بَرَكَةُ الرَّبِّ.
15الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا يَخْدُمُونَ الْقُدُّوسَ، وَالَّذِينَ يُحِبُّونَهَا يُحِبُّهُمُ الرَّبُّ. 16مَنْ سَمِعَ لَهَا يَحْكُمُ عَلَى الأُمَمِ، وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهَا يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا. 17إِذَا اسْتَسْلَمَ لَهَا يَرِثُهَا، وَأَعْقَابُهُ يَبْقَوْنَ عَلَى امْتِلاَكِهَا.
18فَإِنَّهَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ تَسْلُكُ مَعَهُ بِعِوَجٍ؛ 19فَتُلْقِي عَلَيْهِ الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ، وَتَمْتَحِنُهُ بِتَأْدِيبِهَا إِلَى أَنْ تَثِقَ بِنَفْسِهِ، وَتَخْتَبِرَهُ فِي أَحْكَامِهَا. 20ثُمَّ تَعُودُ فَتُعَامِلُهُ بِاسْتِقَامَةٍ وَتَسُرُّهُ، 21وَتَكَشِفُ لَهُ أَسْرَارَهَا، وَتَجْمَعُ فِيهِ كُنُوزًا مِنَ الْعِلْمِ وَفَهْمِ الْبِرِّ. 22وَأَمَّا إِذَا ذَهَبَ فِي الضَّلاَلِ؛ فَهِيَ تَخْذُلُهُ وَتُسَلِّمُهُ إِلَى مَصْرَعِهِ.
ع12 : يتكلم سيراخ عن الحكمة كشخص، ويعلن قوتها وفاعليتها، فهى التى تستطيع أن تنشئ، أو تلد بنيناً لها، وهم الذين يقبلونها، ويخضعون لكلماتها، وينفذونها، ولأن الحكمة هى الله، وهو القادر أن يلد بنيناً له بشرط تجاوب الإنسان معه. وهذا يتم فى كنيسة العهد الجديد من خلال سر المعمودية، فالمسيح أقنوم الحكمة، بفدائه، يلد بنيناً له بطبيعة جديدة، ويصيرون أعضاء فى جسده، أى كنيسته.
هؤلاء البنون تضمهم الحكمة إليها، فيتميزون عن باقى البشر فى العالم، إذ يصيرون حكماء، ولهم معرفة وتمييز، ويحيون مع الله، إنهم جماعة المؤمنين، الذين يحبون الله.
ع13: يبتكرون : يذهبون باكراً
من يحب الحكمة، هو من يطلبها ويتتلمذ على كلماتها، فهو يحب الحياة، والمقصود بالحياة؛ الحياة مع الله؛ لأن طالب الحكمة ينفذ كلماتها ويتمتع بالحياة الروحية وعشرة الله.
ومن يبكر إليها، يمتلئ قلبه بالفرح، والتبكير معناه وضع الحكمة قبل كل اهتمام، فيذهب إليها، ليس فقط فى بداية يومه، بل يعطيها أيضا أحسن أوقاته على مدى الليل والنهار، فيهبه الله سلاماً وسروراً؛ ليشعر بوجود الله معه، فيكون فى فرح لا يعبر عنه.
ع14: من يطلب الحكمة، يعطيه الله إياها، فيمتلكها، وتسكن فى داخله، ويحيا بها، أى يحيا مع الله. هذا الإنسان ينتظره مجد عظيم فى السموات؛ لأن الله الساكن فى هذا الإنسان قد وعد أن يعد له مكاناً عظيماً فى السموات (يو14: 2)، إذ أن هذا الإنسان قد امتلك الحكمة ويحيا بها ويطبقها فينال بركات كثيرة، إذ تحميه من الخطية، وتهبه خيرات روحية ومادية كثيرة.
ع15: إن كانت الحكمة هى الله، فمن يعبدها يخدم الله القدوس. ومعنى العبادة هو الصلاة وطلب الحكمة فى كل يوم، وطاعة الحكمة هى طاعة وصايا الله.
ومن يعبد الله فهو يحبه، ليس فقط باللسان، بل بالعمل، فالله يحبه، وإن كان الله يحبه يبارك حياته على الأرض ويكافئه بملكوت السموات.
ع16: من يسمع الحكمة، أى يتتلمذ عليها ويطيعها، ويطبقها فى حياته، يصبح حكيماً من قبل الله، ويصير له سلطان على الشياطين، وعلى الأشرار الذين يتبعون الشيطان، وقد كانت الأمم فى أيام سيراخ غير مؤمنة بالله، ويعبدون الشياطين. والحكيم هو من يحيا مع الله، ويؤمن به، فيكون له سلطان على الأمم بكل ما تعبده من عبادات وثنية شيطانية.
من يقبل على الحكمة، أى يظل يطلبها ينالها، ويتمتع بها، بل تهبه سلاماً يفوق كل عقل، فلا يضطرب من تقلبات العالم، بل يصير نوراً للعالم يهديهم إلى البر. ولأن الحكيم له سلطان على الشياطين فلا يخاف منهم، فيحيا مطمئناً.
ع17: أعقابه: نسله، أو بنيه.
من يخضع ويطيع الحكمة، يعيش التلمذة الحقيقية لها، فيحيا بها، ويمتلكها، وتصير ميراثاً له من الله، فيتمتع بها كل أيام حياته؛ لأنه أحبها وخضع لها. واستسلام الإنسان للحكمة معناه إخضاع حواسه وأفكاره ومشاعره وجسده، بل وكل كيانه لها، فتملك عليه، أى يملك الله عليه، ويتمتع بعشرته التى لا يعبر عنها.
ومن أحب الحكمة وامتلكها، تظهر بركاتها عليه، وأول من يراها هم بنوه، الذين يقلدونه فى طلب الحكمة ومحبتها والخضوع لها، فيمتلكونها هم أيضا، وتعمل فيهم. وهذه هى أحسن تربية يقدمها الآباء لأولادهم، فينبغى أن يطلب الآباء الحكمة، ويحيون بها، ويورثونها لأولادهم بطريقة تلقائية وطبيعية.
وعلى قدر خضوع الإنسان واستسلامه للحكمة تعمل فيه بحرية ويتمتع بها.
ع18 ، 19: عندما يمتلك الإنسان الحكمة، فتكشف أخطاء نفسه، فتصلحها بالتأديب، ويشعر الإنسان بمعاناة فى تطبيق كلام الحكمة، ولكنه بالتدريج ينصلح حاله، ويبتعد عن الشر، وتكمل الحكمة نقائص الإنسان، وتقوم إعوجاجه، حتى يخضع لها، وتثق فى خضوعه، ويثق هو فيها، فترشده، وتقوده فى طريق الله. فلا ينزعج الإنسان الروحى المجاهد فى طريق الحكمة من الخوف والقلق،ومعاناة الجهاد، التى يتعرض لها فى بداية الأمر، حتى يصل إلى التعود على طريق الحكمة، والممارسات الروحية، ووصايا الله، فيستريح بعد هذا التعود، فيدخل إلى التمتع ببركات الحكمة.
ع20 ، 21: بعد أن تؤدب الحكمة طالبها، ويتعود الخضوع لها، تعود فتفرح قلبه، وتعامله بطريقة هادئة، أى مستقيمة تناسب حياته بلا ضغوط، فيسير فى طريقها مستريحاً.
وإذ يسير طالب الحكمة بخطوات سليمة وقوية فى طريقها، يصبح من أبنائها، فتكشف له أسرارها، وتهبه نعماً جديدة من المعرفة والتمييز، والإفراز، ليتمتع بها، وتدخله فى طريق البر، فيرى الله، ويفرح بين يديه.
وأسرار الحكمة هى القدرة على فهم الأمور، أو فهم قصد الله فى أحداث الحياة، فيقبلها الإنسان برضى وفرح. أما الكنوز، فهى بركات العلم والمعرفة، فيفهم ما وراء الأمور، وما ينتج عنها، ليسير فى خطوات أعمق فى طريق الله، ويكون مرشداً لغيره.
ع22: ولكن إن رفض الإنسان كلام الحكمة، أو سار فى الشر يضل عن الحكمة، فالحكمة تتركه، ولا تسنده فى طريقه، بل يهلك هلاكاً أبدياً، هذا هو مصرع الإنسان الشرير، الذى اختار طريق الشر، أى طريق الضلال، فلا ينتظره إلا الهلاك فى العذاب الأبدى.
- إن بركات الحكمة تفوق كل عقل، إذ هى الله الذى يحب أولاده، ويريد أن يعطيهم من كنوزه كل احتياجاتهم، فلماذا يا أخى تتباعد عن الحكمة؟ هيا بنا لنخضع لها، ونطيع وصايا الله، ولا ننزعج من الجهاد الروحى، فننال الراحة والسلام فى الأرض وفى السماء.
(3) خطورة الخجل (ع 23-36):
23يَا بُنَيَّ، احْرِصْ عَلَى الزَّمَانِ، وَاحْتَفِظْ مِنَ الشَّرِّ. 24وَلاَ تَسْتَحِيِ فِي أَمَرِ نَفْسِكَ،
25فَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ مَا يَجْلُبُ الْخَطِيئَةَ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَجْدٌ وَنِعْمَةٌ. 26لاَ تُحَابِ الْوُجُوهَ، فَذلِكَ ضَرَرٌ لِنَفْسِكَ. 27وَلاَ تَسْتَحِيِ حَيَاءً بِهِ هَلاَكُكَ. 28لاَ تَمْتَنِعْ مِنَ الْكَلاَمِ فِي وَقْتِ الْخَلاَصِ، وَلاَ تَكْتُمْ حِكْمَتَكَ إِذَا جَمُلَ إِبْدَاؤُهَا. 29فَإِنَّمَا تُعْرَفُ الْحِكْمَةُ بِالْكَلاَمِ، وَالتَّأْدِيبُ بِنُطْقِ اللِّسَانِ. 30لاَ تُخَالِفِ الْحَقَّ، بَلِ اَسْتَحِي مِنْ جَهَالَتِكَ. 31لاَ تَسْتَحِي أَنْ تَعْتَرِفَ بِخَطَايَاكَ، وَلاَ تُغَالِبْ مَجْرَى النَّهْرِ. 32وَلاَ تَتَذَلَّلْ لِلْرَّجُلِ الأَحْمَقِ، وَلاَ تُحَابِ وَجْهَ الْمُقْتَدِرِ. 33جَاهِدْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْمَوْتِ، وَالرَّبُّ الإِلهُ يُقَاتِلُ عَنْكَ. 34لاَ تَكُنْ جَافِيًا فِي لِسَانِكَ، وَلاَ كَسِلًا مُتَوَانِيًا فِي أَعْمَالِكَ. 35لاَ تَكُنْ كَأَسَدٍ فِي بَيْتِكَ، وَكَمَجْنُونٍ بَيْنَ أَهْلِكَ. 36لاَ تَكُنْ يَدُكَ مَبْسُوطَةً لِلأَخْذِ، مَقْبُوضَةً عَنِ الْعَطَاءِ.
ع23 : توصينا هذه الآية أن نكون حريصين على استغلال الوقت. فإذا كانت هناك فرصة لإعلان الحق لخلاص النفوس، فلابد أن نعلنه، ونعمل الخير، فلا نضيع الفرصة. ونلاحظ أيضا أن نتكلم فى الوقت المناسب؛ حتى يستفيد السامع، فقد يكون كلاماً جيداً، ولكن إن قيل فى وقت غير مناسب لا يستفيد منه أحد، أو قد يهيج خصومات ومشاكل.
وتنبهنا الآية أيضا أن نحترس من الشر الذى يريد أن يغوينا الشيطان به، ونستمر فى نقاوتنا، ونستغل أوقاتنا بطريقة طاهرة لمجد الله.
ع24: لا تخجل فى الدفاع عن نفسك إذا كنت بريئاً، أو أن تطالب بحقك، أو أن تعتذر عن خطأ فعلته، ولكن أهم شئ ألا تستحى بالإعتراف بخطاياك أمام الله والكاهن؛ لتنال الحل والغفران فى سر الاعتراف. ولا تستحى أن تبتعد عن الشر والأشرار. وكذلك أن ترفض المشاركة فى أية خطية.
ع25: إن حياءك الذى هو أمر ممدوح وسليم فى أحيان كثيرة، كنوع من الأدب والصمت، حتى لا تجرح الآخرين، أو ترد على إهاناتهم، هو نفسه هذا الحياء الذى يمكن أن يجلب الخطية، مثل أن تخجل أن تدافع عن المظلوم، أو تعلن الحق، فيثبت كذب الأشرار.
والحياء أيضا يمكن فى بعض الأحيان أن يجلب مجداً ونعمة، عندما يحتمل الإنسان الشخص الغضوب، أو المخطئ الذى يهين غيره. والحياء فى الابتعاد عن الخطية، والخجل فى التوبة والانسحاق أمام الله، أى كن منتبها لتستخدم الخجل، أو الحياء فى وقته المناسب، وتبتعد عنه إذا كان يجلب عليك الخطية، أى تتحلى بالشجاعة.
ع26: لا تحابى الوجوه، أى لا تجامل الناس، وتوافق على أرائهم الخاطئة احتراماً لهم، أو خوفاً منهم، أو لأجل أية مصلحة شخصية لك. والمقصود بالوجوه الرؤساء، وذوى السلطان، والقوة والأقرباء، والأحباء، وكل من لك مصلحة عنده، لا تشهد معهم زوراً، أو توافق على أرائهم التى هى ضد الحق، لأنك بهذا تسقط فى خطايا كثيرة، فهذه المحاباة لها أضرار أهمها:
- إغضاب الله، واستحقاق دينونة عظيمة منه.
- ظلم المساكين والضعفاء.
- وجع ضميرك وانقسامك على نفسك، واضطرابك الداخلى؛ لأنك تقول، وتعمل عكس ما أنت مقتنع به.
- إستغلال أصحاب السلطان لك والضغط عليك لإتمام مصالحهم، ما داموا قد رأوا ضعفك، فتزداد ضيقاً، وتخاف ألا تطيعهم فتكون فى شر عظيم، وتفقد حكمتك، وتصير تافهاً فى نظر الناس عموما.
ع27: لا تخجل خجلاً يسقطك فى خطية، مثل الإنقياد وراء الأشرار ومشاركتهم أخطائهم، أو الخجل من رئيس وطاعته فى الشر، أو من ضغوط أهل بيتك لفعل الخطية، وسبق الإشارة إلى هذه الآية فى (ع 25).
ع28 ، 29: يظهر ابن سيراخ أهمية الكلام الحكيم، وينصح طالبو الحكمة ألا يسكتوا عند الحاجة إلى تخليص نفوس الآخرين، فيعلنون الحق لإنقاذ المظلومين، أو ينصحون المخطئين؛ ليرجعوا عن خطاياهم، ويشجعون الضعفاء؛ ليثبتوا فى سلوكهم المستقيم، لأن الحكمة تظهر فى الوقت المناسب، وما تعلمه وتأدب به الحكماء لابد أن يظهروه لإرضاء الله، ولفائدة من حولهم، وليثبتوا هم أيضا فى الحق مهما كان ثمن إعلان الحق، أو ما سيعانونه من الظالمين مثل احتمال إيليا لآخاب الظالم، وإيزابل، واحتمال يوحنا المعمدان لهيرودس.
ع30: تدعونا هذه الآية إلى التمسك بالحق، ليس فقط قولاً بل فعلا، أى نعلن ونحيا بالحق. وعندما تكون جاهلاً بالأمور، ولا تفهم الموضوع المطروح أصمت، ولا تقل شيئاً قد يخالف الحق، ومن ناحية أخرى اهتم أن تدرس وتفهم وتتعلم الحق، ولا تستمر فى جهلك.
وعدم مخالفة الحق هو عدم فعل الخطية، لأن الحق هو الله فلا تخالف الحق، أى أسلك بوصايا الله، واستحى من خطاياك التى تفعلها، فلا تنادى بها أو تبررها، أو تفتخر بها.
ع31: تدعو الآية بوضوح إلى الاعتراف بالخطأ إذا كانت حجة الآخر، أو أغلب الموجودين قوية، أو إذا كان الكل قد اكتشف خطيتك، فلا تخجل أن تعترف أمامهم بخطيتك، وتعتذر عنها، فليس من الحكمة أن تقف أمام تيار الماء فى النهر، لأنه سيجرفك، ويغرقك. ويبدو أن تعبير لا تغالب مجرى النهر كان تعبيراً شائعاً، ويقصد به عدم مقاومة الرأى العام السائد، سواء داخل أسرتك، أو أقاربك، أو عملك، أو فى أى مجتمع أنت فيه.
وتظهر بوضوح هنا إشارة هذه الآية إلى سر الاعتراف، مهما كانت خطيتك مخجلة، فلا تقف أمام العدل الإلهى، فهذا هو مجرى النهر الذى لا يمكن مقاومته، ولكن باعترافك أمام الكاهن تنال رحمة الله، وغفرانه، وثق أن الله يلقى خطاياك فى بحر النسيان وتبيض أكثر من الثلج (مز51: 7). فالله يعطى الكاهن نظرة حسنة لك، إذ يتناسى خطيتك، وينظر إليك بأبوة وحنان على الدوام.
الاستثناء الوحيد أن تغالب مجرى النهر، إن كنت متمسكاً بالحق أو الإيمان السليم، فمهما قاومك الآخرون، فإن الله يعطيك سلاماً فى قلبك، وثباتاً فى إيمانك، مثل أثناسيوس الرسولى البابا العظيم، الذى قيل له : العالم ضدك، فقال : “أنا ضد العالم” ويقصد بقوة المسيح.
ع32: تحذرنا الآية من التذلل لرجل أحمق، أى بعيد عن الله، فهو بالتالى غبى وجاهل، لأنه لن يفهم ذلك أنه اتضاع، بل قد يعتبره ضعف، فيدوس عليك. فمن الحكمة معاملته بهدوء واحتماله باتضاع، ولكن لا تتذلل أمامه، فيهينك ويحتقرك، ويضغط عليك فوق طاقتك.
من ناحية أخرى، لا تتملق وتنافق الإنسان المقتدر، الذى له سلطان، أى الملك والرئيس، وكل من له سلطان عليك، فلا تتحيز لرأيه الخاطئ، لأنه رئيس ومتسلط، بل أعلن الحق، حتى لو كان فى صالح الفقير والمسكين، والضعيف، لأنك بهذا ترضى الله، وتخضع له، لأنه هو الحق، وحتى لو احتملت متاعب نتيجة شهادتك للحق، فالمسيح احتمل الآم الصليب ومات لأجل إنقاذك من الموت.
ع33: امتداداً للآية السابقة تطالبنا هذه الآية أن نتعب ونجاهد لإعلان الحق، مهما كان التعب، ومهما كانت تهديدات الأشرار، فننقذ المظلوم مهما كان الظالم قوياً. فالله هو الذى يحمينا ويدافع عنا أمام الظالم والمتسلط والرئيس.
ع34: جافيا: متشدداً وقاسياً، وغير ودود
تنهى هذه الآية عن الجفاء فى الكلام مع الآخرين، فابتسامتك وكلماتك الرقيقة الطيبة تريح بها الآخرين، وتكسبهم، وتظهر لهم محبة الله، فيستطيعوا أن يسمعوك، ويقبلوا كلامك، فتوصل إليهم الحق.
أما من جهة أعمالك، فلا تكن متكاسلاً، ومتراخياً مهملاً لواجباتك ومسئولياتك نحو الآخرين، أى لا تكتفى بالكلام الرقيق، ولكن قدم معه الحب فى شكل نشاط، ومساندة للمحتاجين، فلا تتكاسل عن إعلان الحق، وعمل الخير، ومساعدة الضعيف. لا تتوانى عن عمل الخير ما دام فى استطاعتك، لأنه إن تكاسلت وتوانيت عن عمل الخير ستسقط فى الشر. إستيقظ روحياً وأسرع لعمل الخير لكل من حولك، وبهذا تتباعد عن الشر.
واعلم يا أخى أنك على قدر ما تكون شديداً مع نفسك وجافياً ضد خطاياك، تستطيع أن تقدم محبة وحنان للآخرين. أما إن دللت نفسك، أو تهاونت مع الخطايا، ستكون جافيا وقاسياً مع الناس.
ع35: تنبهنا هذه الآية إلى الحنان على أهل البيت، والاتزان بينهم فى كل التصرفات، فلا تكن عنيفاً، ومتشدداً مع أهل بيتك، فتشبه الأسد المخيف، أو المزعج لمن حوله، بل احتوى من حولك بالأبوة والحنان، وطول الأناة. اهتم برعايتهم كما تحنو الأم على رضيعها وترعاه برقة.
إبعد عن الغضب الشديد الذى يجعلك كالمجنون، وتفقد اتزانك بين أهل بيتك، فأنت قدوة لهم، فلماذا تكون عنيفاً وقاسياً عليهم؟ لماذا يكرهونك بدلاً من أن يقتدوا بك؟ راجع نفسك وافحصها، ولا تندفع فى الكلام لئلا تسئ إليهم.
ع36: يختم يشوع بن سيراخ هذا الإصحاح بآية جميلة جداً تدعونا للخروج من الأنانية، ومحبة المال، والمقتنيات التى يعبر عنها بأن تبسط يدك للأخذ. فالإنسان الروحى يكون فى شبع، ويشكر الله على ما عنده، ولا يسعى لمحبة القنية، ولا يفضل نفسه على الآخرين، أو يميل أن يأخذ لنفسه أولاً قبل غيره، فهذا يجعله مكروهاً من الناس.
وعلى العكس، لا يكن متباعداً عن العطاء، ورافضاً له، الذى يعبر عنه بتعبير يدك مقبوضة عن العطاء فالذى يحب الناس، يود أن يساعدهم، ومن يبسط يده، ويقترض من الناس لابد أن يكون أمينا، ويرد إليهم ما اقترضه. وعلى العموم يكون قلبه مفتوحاً بالحب نحو الآخرين، وخاصة المحتاجين.
ولا تكن يدك مبسوطة للأخذ فى علاقتك مع الله، فتطلب كل ما تريد، ولكن يدك مقبوضة عن العطاء لله، فلا تقوم بواجباتك نحوه فى الجهاد الروحى، سواء فى الممارسات الروحية، مثل الصلاة، والصوم، والكتاب المقدس، أو فى رفض الخطية، ومساعدة الآخرين.
وإن أحببت الله من خلال الصلاة والتأمل، ستكون ميالاً للعطاء مثله، خاصة وأن المسيح أعلن هذا بوضوح فقال : “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع 20 : 35).
ليكن لك حياء فى الطلب من الآخرين، وعدم التثقيل عليهم، ولكن لا تخجل فى الاعتراف بخطأك، أو فى تقديم المساعدة للآخرين، ومساندة المظلومين وتعضيد الضعفاء، بهذا يرضى عنك الله، ويرعاك، ويعتنى بك كل أيامك.