الشر وعقابه
(1) الشر فى الفكر والكلام (ع1-16) :
1كَثِيرُونَ خَطِئُوا لأَجْلِ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَالَّذِي يَطْلُبُ الْغِنَى يُغْضِي طَرْفَهُ. 2بَيْنَ الْحِجَارَةِ الْمُتَضَامَّةِ يُغْرَزُ الْوَتَدِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَنْشَبُ الْخَطِيئَةُ. 3وَسَيُسْحَقُ الإِثْمُ مَعَ الأَثِيمِ. 4مَنْ لَمْ يَحْرِصْ عَلَى الثَّبَاتِ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ، يُهْدَمُ بَيْتُهُ سَرِيعًا. 5عِنْدَ هَزِّ الْغُرْبَالِ يَبْقَى الزِّبْلُ، كَذلِكَ كُسَاحَةُ الإِنْسَانِ عِنْدَ تَفَكُّرِهِ.6آنِيَةُ الْخَزَّافِ تُخْتَبَرُ بِالأَتُونِ، وَالإِنْسَانُ يُمْتَحَنُ بِحَدِيثِهِ. 7حِرَاثَةُ الشَّجَرِ تَظْهَرُ مِنْ ثَمَرِهَا، كَذلِكَ تَفَكُّرُ قَلْبِ الإِنْسَانِ يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِ. 8لاَ تَمْدَحْ رَجُلًا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ بِهذَا يُمْتَحَنُ النَّاسُ.
9إِذَا تَعَقَّبْتَ الْعَدْلَ فَإِنَّكَ تُدْرِكُهُ، وَتَلْبَسُهُ حُلَّةَ مَجْدٍ، وَتَسْكُنُ مَعَهُ؛ فَيَصُونُكَ إِلَى الأَبَدِ، وَفِي يَوْمِ الاِفْتِقَادِ تَجِدُ سَنَدًا. 10الطُّيُورُ تَأْوِي إِلَى أَشْكَالِهَا، وَالْحَقُّ يَعُودُ إِلَى الْعَامِلِينَ بِهِ. 11الأَسَدُ يَكْمُنُ لِلْفَرِيسَةِ، كَذلِكَ الْخَطَايَا تَكْمُنُ لِفَاعِلِي الإِثْمِ. 12حَدِيثُ الْتَّقِيِّ فِي كُلِّ حِينٍ حِكْمَةٌ، أَمَّا الْجَاهِلُ فَيَتَغَيَّرُ كَالْقَمَرِ. 13بَيْنَ السُّفَهَاءِ تَرَقَّبِ الْفُرْصَةَ، وَبَيْنَ الْعُقَلاَءِ كُنْ مُوَاظِبًا. 14حَدِيثُ الْحَمْقَى مَكْرُوهٌ، وَضَحِكُهُمْ فِي مَلَذَّاتِ الْخَطِيئَةِ. 15مُحَادَثَةُ الْحَلاَّفِ تُقِفُّ الشَّعَرَ، وَمُخَاصَمَتُهُ سَدُّ الآذَانِ. 16مُخَاصَمَةُ الْمُتَكَبِّرِينَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَمُشَاتَمَتُهُمْ سَمَاعٌ ثَقِيلٌ.
ع1: عرض الدنيا : ماديات العالم.
يغضى طرفه : يغمض عينيه، أو يتجاهل.
كثيرون من الناس الذين يعيشون على الأرض يخطئون، بسبب انشغالهم بالحصول على الأموال والمقتنيات المتنوعة، فيستخدمون وسائل خاطئة للوصول إلى هذه الماديات.
والذى يطلب الغنى، يتجاهل كثير من المبادئ؛ ليحصل على الأموال، فيكسر وصايا الله، وتعاليم الكنيسة؛ ليحقق هدفه، وهو أن يصير غنياً.
ع2: المتضامة : المتقاربة.
تنشب : تنشأ وتشتعل.
إن كان من السهل أن يغرز الوتد وسط الحجارة المتقاربة، ويثبت وسطها، هكذا أيضاً، أثناء عمليات البيع والشراء، يسهل السقوط فى الخطية، مثل الغش، لخداع المشترى، والحصول على مكسب أكبر، ومثل خطية الطمع؛ ليحصل الشارى، أو البائع على مكسب أكبر مما يستحق.
ع3: النتيجة الضرورية للخطايا التى يسقط فيها البائع والمشترى، هو غضب الله، الذى سيهلك، ويزيل الإثم مع الأثيم الذى صنع الإثم؛ أى أن الإثم لن يدوم، بل سينتهى بأن يزيله الله، ويسحق الأثيم بالعذاب الأبدى، وسيعانى فى حياته على الأرض من الاضطراب الداخلى، مهما كسب من أموال، إنذاراً له، لعله يتوب، فينجى نفسه من الهلاك.
ع4: إن سر قوة الإنسان المستقيم، أنه يتمسك بمخافة الرب، وليس فقط يخاف الله، ولكنه أيضاً ثابت فى هذه المخافة، لا يتزعزع مهما كانت الإغراءات، فلا يميل إلى الشر، مهما كانت الضغوط الملقاة عليه. هذا الإنسان الخائف الله يتمتع بسلام داخلى، وأيضاً بفرح فى ملكوت السموات.
أما من لا يخاف الله، فبيته يُهدم سريعاً، أى ليس له ثبات على الأرض، مهما حصل على أموال، أو مراكز، ولكنه مضطرب فى داخله. ومن ناحية أخرى، فحياته على الأرض، مهما طالت، قصيرة، فيهدم بيته الأرضى، ولا ينتظره إلا العذاب الأبدى؛ لأنه سلك فى الخطايا، التى أعطينا مثالاً لها فى (ع2) الغش والطمع.
ع5: الزبل : فضلات الطيور مثل الحمام.
كساحة : قذارة ووسخ.
الغربال الذى يُستخدم لفصل الزبل، والتراب، وأية قاذورات صغيرة، عن الحبوب، عندما يُهز هذا الغربال يسقط الزبل، وينفصل عن الحبوب، أى لا يبقى على الأرض إلا الزبل والأوساخ، التى كانت مختلطة ومختفية وسط الحبوب، فهز الغربال هو الذى أظهرها.
كذلك كساحة الإنسان، وهى الأفكار الشريرة، والشكوك، وكل الأفكار الردية التى داخل فكر الإنسان، تظل مختلطة به، إلى أن يُهز فكر الإنسان بالتوبة، ومحاسبة النفس، فيتنقى فكر الإنسان من كل الشوائب والقاذورات الغريبة عن فكر الإنسان المستقيم، الذى يحيا مع الله.
ع6: الأتون : الفرن.
تتكلم هذه الآية عن كلام الإنسان، وتقدم تشبيهاً هو الخزف الذى يمتحن بالنار، فعند وضع طين الخزف فى النار، إما أن يصبح صلباً، ويصير آنية جيدة، صالحة للاستعمال، أو يحترق الخزف، ولا يصلح لشئ.
هكذا أيضاً يمتحن الإنسان بحديثه، فعندما يتكلم، إما أن يقول كلاماً حكيماً يستفيد منه الناس، ويمدحونه عليه، أو يقول كلاماً ردياً يظهر شره،، ويتضايق منه الناس. وفوق الكل، الله الذى يفرح بكلام الحكمة، ويغضب من كلام الشر.
ع7: تواصل هذه الآية الحديث عن كلام الإنسان، وتعطى تشبيهاً جديداً لتوضيح المعنى، فتقول : أن ثمار أى شجرة تُظهر إن كانت حراثة الأرض قبل زرع الشجرة جيدة، أم ردية. فإن كانت جيدة، لن توجد أى حشائش ضارة، فستنموا الشجرة جيداً، وتعطى ثماراً جيدة، ولكن إن كانت حراثة الأرض بإهمال، فستوجد الحشائش، والبذور الضارة، التى تتلف نمو الشجرة، وتجعل ثمارها ردية.
هكذا أيضاً كلام الإنسان، يظهر أفكاره، إن كانت جيدة، أو ردية، فإن كان كلامه مملوءاً بالحكمة، فبالطبع ستكون أفكاره حكيمة، ومشاعر قلبه مقدسة، وإن كان كلامه ردياً، فهذا معناه أنه يفكر فى أفكار ردية، وقلبه مملوء شراً.
ع8: نستنتج من الآيات السابقة، عدم التسرع فى مدح الناس قبل أن نسمعهم؛ لأن كلامهم سيكشف أفكارهم ومشاعر قلوبهم إن كانت مقدسة، أو شريرة.
ع9: حلة : ثوب.
إن بحثت عن العدل، أى الحق وهو الله، فإنك ستصل إلى أربعة نتائج فى غاية الأهمية هى :
- تدركه : تصل إليه، وتفهمه، وتقتنيه، وتفرح به، أى تصير عادلاً، وتقتنى الله فى داخلك، وتفرح أنك عرفته.
- تلبسه حلة مجد :
النتيجة الثانية أن تلبس العدل، وتكتسى به، وتظهر أمام الكل أنك عادل، ويمجدك الناس لأجل عدلك، ولكن فوق الكل يمجدك الله، فتصير نوراً للعالم، وملحاً للأرض، أى تشجع الناس على السلوك بالعدل والاستقامة.
- تسكن معه، فيصونك إلى الأبد :
بعد أن تتمتع بارتداء العدل، تتمسك به، وتسكن فيه، أى تستقر فى داخله، ولا تفارقه أبداً، إذ يصبح هو حياتك. وهذا العدل كما قلنا هو الله، أى أنك تسكن، وتستقر فى أحضان الله، تكتسى به، وتستقر فيه، فيصونك ويحميك طوال حياتك على الأرض، بل إلى الأبد فى ملكوت السموات.
- وفى يوم الافتقاد تجد سنداً :
يوم الافتقاد هو يوم الدينونة، حيث يفتقد الله كل البشر، ويأخذ الأبرار إلى ملكوت السموات، أما الأشرار فيذهبون إلى العذاب الأبدى. فى هذا اليوم الرهيب، يتقدم العدل؛ ليسند كل من سعى إليه، وتمسك به، فيشهد له، ويدخله إلى الملكوت لينعم إلى الأبد.
ع10: تأوى : تسكن.
إن الطيور تبحث عن الطيور، التى من نوعها؛ لتسكن معها، لأنها تتحرك بنفس النظام.
هكذا أيضاً الحق يعود إلى العاملين به، أى أن الحق الذى هو الله يبارك المتمسكين بالحق فى أعمالهم. فالتجار مثلاً، الذين يسلكون باستقامة، يباركهم الله، ويعطيهم نعمة فى أعين من حولهم، فيحبونهم، ويقبلون إليهم، فيتجمع التجار المستقيمون، وكل من يسلك بالحق، إذ يجدوا الأمانة والحق فى بعضهم البعض، والله يظلل عليهم فى الحياة على الأرض، ثم يأخذهم بعد هذا؛ ليسكنوا معه فى الملكوت إلى الأبد.
ع11: كما أن الأسد يختبئ فى جانب، ويراقب الحيوانات التى سيفترسها ومنشغلة بطعامها، فيقترب منها بهدوء، ولا تشعر به، فيهجم عليها، ويفترسها. كذلك الخطية تكمن لفاعلى الإثم؛ لأن من يريد أن يصنع الشر، تجذبه شهوات العالم، فيقترب منها؛ ليتلذذ بها، فيسقط فى الخطية، ويذله الشيطان.
ومن يسعى نحو الشر، يفاجأ بأشرار يهجمون عليه كالأسد، ويستغلون ضعفه، وتعلقه بالشهوة، بالإضافة إلى أن الكتاب المقدس شبَّه إبليس بالأسد، الذى يجول ملتمساً من يبتلعه (1بط5: 8).
ع12: الذى يتقى الله هو من يخافه؛ لأنه ينظر إليه فى كل حين، فيكتسب منه الحكمة، ولأن الله ثابت غير متغير، فالمُتقى الله دائماً كلامه حكيم. وحيث أن الشمس ثابتة فى ضيائها، وهى ترمز للمسيح شمس البر، هكذا المتقى الله يكون ثابتاً فى حكمته فى كل أحاديثه لأنه ينظر إلى المسيح الذى لا يتغير ويأخذ منه حكمته.
أما الجاهل، فإنه يتكلم أحياناً بحكمة، وأحياناً أخرى بحماقة؛ لأنه غير ثابت فى علاقته مع الله، إذ ينظر إلى الله أحياناً، ثم يعود وينظر إلى العالم بشهواته الكثيرة.
فالجاهل، كأنه ينظر إلى القمر المتغير الذى أحياناً يكون منيراً كله كالبدر، وأحياناً أخرى يكون نوره ضئيل، لأنه هلال. فالجاهل دائماً متغير فى كلامه، أو أحاديثه غير مضمونة، مثل القمر المتغير.
ع13: السفهاء : جمع سفيه، وهو خفيف العقل، أو التافه.
إذا جلست بين السفهاء، فاعلم أن كلامهم فى معظم الأحيان تافه، بلا معنى، أو ذو معانى سيئة، معثرة، فكن حريصاً؛ حتى لا تملأ أذنيك بكلامهم الشرير، ولكن ترقب الفرصة، لعلهم فى أحيان قليلة يقولون بعض كلمات الحكمة؛ حتى تستفيد منها، أما باقى الكلام السفيه، فاهرب منه قدر ما تستطيع؛ حتى لا تدنس، وتعثر أفكارك.
أما إذا جلست بين العقلاء، فليتك تحسن الإنصات إلى كلامهم؛ لأنهم يتكلمون بحكمة على الدوام؛ حتى تستفيد قدر ما تستطيع، وتمتلئ حكمة. احرص أن تجلس بينهم، فهى فرصتك للتعلم والتلمذة.
والخلاصة، اهرب من السفهاء، إلا إذا وجدت فرصة، وقالوا كلمة حكمة، أما العقلاء، فواظب على الجلوس بينهم.
ع14: إن الأحمق، أو الجاهل كلامه شرير، وضد الله، وإن ضحك، فيكون بسبب انغماسه فى الشهوات، أو يسخر من كلام الله، فكلامه معثر، ويضايق أى إنسان عاقل، فهو مكروه من أولاد الله، ولذا يبتعدون عن مجالسة الحمقى.
ع15: الحلاف : كثير الحلف، أى القسم.
الذى يحلف كثيراً هو إنسان غضوب فى الغالب، وكذاب، ويحاول إثبات كلامه الكاذب بالحلف، ويستخدم اسم الله، أو حياة الناس، ليثبت فى غضبه ما يقول؛ وإذا جلست مع إنسان حلاَّف سيقشعر جسدك، ويقف شعرك ضيقاً من كلامه؛ خاصة إذا استهان باسم الله.
وستحاول الابتعاد عنه بسرعة؛ وهذا هو المقصود بالخصام، فهو خصم لك؛ لأنه يبعدك عن كلام الله المتزن؛ ولذا فإنك تبتعد عنه؛ لتحمى نفسك، وتسد أذنيك عن الاستماع لكلامه الردىء.
ع16: مشاتمتهم : شتائمهم بعضهم لبعض.
المتكبرون يصعب عليهم الحوار الهادئ؛ لأن كل منهم منشغل بكرامته، ورأيه، ويسهل وقوعهم فى الصدام والغيظ، والكراهية والانتقام، الذى يمكن أن يصل إلى سفك الدماء.
ومن ناحية أخرى، إذا جلست بينهم، فستسمع كلاماً ثقيلاً، هو شتائمهم بعضهم لبعض، وكلامهم المملوء غضباً، وشراً، وانتقاماً، ولذا، فالحل أن تبتعد عن مجالسهم؛ لئلا يصيبك شرٌ، أو على الأقل تضايق نفسك بسبب كلماتهم الردية، وقد تتأثر فتغضب مثلهم.
إن اللسان نعمة من الله إذا استخدمته بما يرضى الله، أى فى تشجيع الآخرين، وتقديم محبة لهم، أما إذا اختلطت بالأشرار، فإنك معرَّض أن تقلدهم فى شرهم، وتتكلم كلاماً ردياً يغضب الله. تذكر أن الله أمامك، فتخافه، وتبتعد عن كل كلمة شريرة، أو باطلة.
(2) إفشاء السر (ع17-24).
17الَّذِي يُفْشِي الأَسْرَارَ يَهْدِمُ الثِّقَةَ. وَلاَ يَجِدُ صَدِيقًا لِنَفْسِهِ. 18أَحْبِبِ الصَّدِيقَ، وَكُنْ مَعَهُ أَمِينًا، 19لكِنْ إِنْ أَفْشَيْتَ أَسْرَارَهُ؛ فَلاَ تَطْلُبْهُ مِنْ بَعْدُ. 20فَإِنَّ مَنْ أَتْلَفَ صَدَاقَةَ الْقَرِيبِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَتْلَفَ عَدُوَّهُ. 21وَمَثَلُ تَسْرِيحِكَ لِلْقَرِيبِ؛ مَثَلُ إِطْلاَقِكَ طَائِرًا مِنْ يَدِكَ فَلاَ تَعُودُ تَصْطَادُهُ. 22لاَ تَطْلُبْهُ؛ فَإِنَّهُ قَدِ ابْتَعَدَ وَفَرَّ، كَالظَّبْيِ مِنَ الْفَخِّ. 23إِنَّ الْجُرْحَ لَهُ ضِمَادٌ، وَالْمُشَاتَمَةَ بَعْدَهَا صُلْحٌ،
24أَمَّا الَّذِي يُفْشِي الأَسْرَارَ؛ فَشَأْنُهُ الْيَأْسُ.
ع17: إذا ائتمنك إنسانٌ على سر، وأفشيت هذا السر، فإنه يفقد الثقة فيك، وبالتالى سيبتعد عنك، ويشاع فى كل مكان أنك غير أمين على الأسرار، فيخاف الناس أن يتكلموا معك، لأنك غير مضمون، ولا تضبط لسانك، فتصير وحيداً، منعزلاً، بلا أصدقاء؛ لأنك لا تحفظ صداقتهم، ولا تراعى مشاعرهم، فأنت مستهين بأمورهم الخاصة، ومن الصعب أن تستعيد ثقتهم. فليتك تخرج من أنانيتك، وتشعر بمن حولك، ولا تفشى أسرارهم مع أى إنسان؛ حتى بعد موتهم، فيحبك الكل، ويثقوا فيك.
وكلما كنت فى علاقة قوية مع الله، ستختبر كيف يستر الله عليك، ولا يفشى أسرارك، مهما طال الزمان، فتتعلم منه كيف تحافظ على أسرار أولاده البشر، فيسعى الناس إلى صداقتك، وفتح قلوبهم معك، فتصير خادماً، مؤثراً فى الآخرين، وتكلمهم بكلام الله، فيقبلونه بسهولة.
ع18، 19: نستنتج من الآية السابقة، أن تكون مُحباً لصديقك، ومن أجل حبك له ستحتفظ بأسراره، ولكن إذا تراجعت عن عهودك، وأمانتك له، وأفشيت سراً، فاعلم أنك قد خسرت صديقك، ومهما حاولت أن تعيد الصداقة معه، سيرفض، ولن يفتح قلبه معك؛ لأنك غير مؤتمن، بل لن يستطيع أن يأتمنك على أى شئ فى حياته الخاصة، مثل زوجته، وأولاده، وإخوته، وممتلكاته … خاصة، وإن إفشاء سر صديقك سيخلق له مشاكل فى معظم الأحيان، وحتى لو سامحك، لكنه لا يريدك صديقاً بعد.
ع20: الذى يفشى سر قريبه، أو صديقه، فإنه يؤذيه جداً، بل قد يدمر جزءاً من حياته، كأنه يفعل به، كما مع عدوه، إذ يسعى لتدمير عدوه، والإساءة إليه.
والخلاصة، أنك تحول صديقك إلى عدو؛ لأنك عاملته معاملة قاسية، بإفشاء أسراره.
ع21، 22: الظبى : ذكر الغزال.
إفشاء أسرار القريب، أو الصديق، هو إبعاد وتسريح له. وهاتان الآيتان تشبهان هذا التسريح بما يلى :
- طائر كنت ممسكاً به ثم أطلقته، فطار بعيداً، ولا تستطيع أن تعيده.
- ظبى قد هرب من الفخ الذى عمله الصياد له، فلا يمكن إرجاعه مرة أخرى، ولا تحاول أن تطلبه، فقد هرب بعيداً.
ع23، 24: ضماد : علاج بأدوية ورباطات.
المشاتمة : الشتيمة.
إن الإساءات التى قد تسقط فيها نحو الآخرين لها علاج، مثل الجرح الذى يحدث ويمكن علاجه بالضمادات وكذلك إذا شتم إنسان أحداُ يمكنه أن يصالحه بالاعتذار.
أما من يفشى أسرار الناس، فلا فائدة فى محاولاته لاستعادة أصدقائه وأقربائه، الذين أفشى أسرارهم؛ إنه أمر ميئوس منه.
إذا كنت لا تستطيع أن تحتفظ بسر إنسان، فلا تساعده أن يخرج ما بداخله لك، أو أوقفه عن الكلام إذا كان يريد أن يحدثك عن أسراره؛ حتى تحتفظ بعلاقتك به، وحاول أن تضبط لسانك عن كثرة الكلام، حتى لا تؤذى الناس الذين تتعامل معهم.
(3) المكر وعقابه (ع25-33).
25الْغَامِزُ بِالْعَيْنِ يَخْتَلِقُ الشُّرُورَ، وَلَيْسَ مَنْ يَتَجَنَّبُهُ. 26أَمَامَ عَيْنَيْكَ يَحْلُو بِفَمِهِ، وَيَسْتَحْسِنُ كَلاَمَكَ، ثُمَّ يَقْلِبُ مَنْطِقَهُ، وَمِنْ كَلاَمِكَ يُلْقِي أَمَامَكَ مَعْثَرَةً. 27قَدْ أَبْغَضْتُ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَلكِنْ لاَ كَبُغْضِي لَهُ، وَالرَّبُّ سَيُبْغِضُهُ. 28مَنْ رَمَى حَجَرًا إِلَى فَوْقُ؛ فَقَدْ رَمَاهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَالضَّرْبَةُ بَالْمَكْرِ تَجْرَحُ الْمَاكِرَ. 29مَنْ حَفَرَ حُفْرَةً سَقَطَ فِيهَا، وَمَنْ نَصَبَ شَرَكًا اصْطِيدَ بِهِ. 30مَنْ صَنَعَ الْمَسَاوِئَ فَعَلَيْهِ تَنْقَلِبُ، وَلاَ يَشْعُرُ مِنْ أَيْنَ تَقَعُ عَلَيْهِ. 31الاِسْتِهْزَاءُ وَالتَّعْيِيرُ شَأْنُ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَالاِنْتِقَامُ يَكْمُنُ لَهُمْ مِثْلَ الأَسَدِ. 32الشَّامِتُونَ بِسُقُوطِ الأَتْقِيَاءِ، يُصْطَادُونَ بِالشَّرَكِ، وَالْوَجَعُ يُفْنِيهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِمْ. 33الْحِقْدُ وَالْغَضَبُ كِلاَهُمَا رِجْسٌ، وَالرَّجُلُ الْخَاطِئُ مُتَمَسِّكٌ بِهِمَا.
ع25: يتجنبه : يبتعد عنه، أو يتقى شره.
الماكر إنسان شرير، يريد أن يسىء إلى الآخرين، فيستخدم الحيلة فى أعماله، مثل أن يغمز بعينيه لإنسان، وهو يتكلم مع إنسان آخر، فيثير من غمز له؛ ليسىء إلى من يتكلم معه، مثلما فعل يهوذا الإسخريوطى، الذى غمز لجنود اليهود بأن أعطاهم علامة، أن من يقبله هو المسيح، فاقبضوا عليه، وعاتبه المسيح على مكره وشره، وقال له: “أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!” (لو22: 48). ويعقوب أب الآباء أيضاً استخدم الحيلة والمكر فى خداع أبيه اسحق، فغمز العينين عنده، كان بارتداء ثياب أخيه عيسو، ووضع جلد جدى المعزى على يديه وعنقه (تك27: 15، 16).
هذا الماكر لا يمكن تجنبه؛ لأنه يظهر المحبة لمن يقابله، فيصعب كشف الحيلة التى يستخدمها، ولا ينقذ الإنسان من هذا الماكر إلا الله وحده، فاحص القلوب والكلى، فينجى أولاده عندما يطلبون إليه.
ع26: هذا الماكر الشرير مرائى، فعندما تتكلم أمامه يمدحك أى يستحسن كلامك، ويظهر أنه معجب بحلاوة كلامك، هذا هو المقصود بيحلو بفمه، أى يقول كلاماً حلواً لك، عكس ما يبطن من شر فى داخله.
وفى نفس الوقت، هذا الماكر فجأة يقلب منطقه، أى ينقلب عليك، ويظهر شره بأن يضع معثرة أمامك، أى يمسك عليك خطأً ويسىء إليك، كما فعل اليهود مع المسيح، إذ كانوا يقتربون إليه، وينادونه يا معلم، ويا سيد؛ ليصطادوه بكلمة، مثلما سألوه : “أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا” بعد أن مدحوه، وقالوا له : “يا معلم .. أنك صادق .. بالحق تعلم طريق الله” (مر12: 14)، ثم تمر الأيام ويصرخون اصلبه اصلبه، ويصلبونه.
ع27: يعلن الحكيم ابن سيراخ، أن هناك أموراً كثيرة يبغضها، وهى بالطبع الشرور المنتشرة فى العالم. ولكنه يبغض المكر أكثر من كل هذه الشرور، فهو لا يبغض الماكر كإنسان؛ لأنه يتمنى له أن يرجع إلى الله ويتوب. والله يبغض الماكر أيضاً، ويقصد أن الله يبغض مكره، ولكن يحبه كإنسان، ويتمنى توبته.
ولماذا يبغض المكر أكثر من باقى الشرور ؟ .. لأن أى شر يعمله الإنسان واضح أمام عينيه أنه شر، أما الماكر، فهو يخفى شره؛ ليوقع الناس فى مصائب كثيرة، بل من تمسكه بالمكر يصدق نفسه، فلا يعود يشعر أنه خاطئ، وبالتالى يتباعد عن التوبة، فهو يخدع الناس، ويخدع نفسه، ويسىء إلى الناس، ويوقعهم فى متاعب كثيرة، ويسىء إلى نفسه لأنه يتصور أنه لا يعمل شراً؛ لتظاهره بالحب والود للناس، وقد يعتبر هذا نوع من الحكمة، ولكنها حكمة شريرة.
ع28: الذى يتكبر ليرمى حجراً على من هو أعلى منه؛ ليس فقط لوجوده فى مكان أعلى، ولكن من يحتل مركزاً، أو له ظروفٌ أعلى منه؛ فهذا الحجر سينزل، ويصطدم برأسه، ويحدث له إصابات خطيرة، وهذا هو الماكر، الذى بكبرياء يتطاول على غيره ليضربه، فتأتى الضربة على رأسه، وتصيبه هو شخصياً. وهذا إنذار من الله للماكر، لعله يتوب، ويوقف مكره وشره.
والشيطان أثار الكهنة واليهود، فقاموا على المسيح وصلبوه، وظن أنه بهذا يتخلص من المسيح، ولكن فوجئ بالمسيح الذى مات، قد قيَّده، وأبطل سلطانه على من فى الجحيم، فأصعد المسيح آدم وبنيه، بعد الصليب، إلى الفردوس. وأبشالوم قام بخداع أبيه داود، واستمال الشعب معه ضد أبيه، ثم هجم برجاله على القصر، فهرب داود، وجمع أبشالوم جيوش من كل الأسباط، وهجم على أبيه، فمات فى الحرب (2صم18: 15)، وعاد داود إلى ملكه. والثلاثة فتية، ربطهم رجال أقوياء، وألقوهم فى الأتون، فاحترقت الحبال، وأحاط الله الثلاثة فتية بغلاف من هواء بندى، ولم تمسهم النار. أما الرجال الأقوياء الذين القوا الثلاثة فتية، فلم يحتملوا حرارة النار الخارجة من الأتون فاحترقوا وماتوا (دا3: 48). وتاريخ الكنيسة يعلن لنا أن إريانوس أكثر والى عذب المسيحيين أيام دقلديانوس، وفيما هو يعذب ويقتل اثنين من المسيحيين هما المغنى والضارب بالمزمار بضربهم بالسهام إرتد سهم، فأصاب عين إريانوس، فسالت دماً، ثم أحضروا له دم من كانوا يعذبونهم، ويضربونهم بالسهام، ووضعوها على عينيه فشفيت، وأعلن إيمانه بالمسيح، واستشهد.
ع29: شركاً : فخاً.
اصطيد : وقع وسقط فيه.
تؤكد هذه الآية أيضاً، أن شر الماكر يأتى على رأسه، كما أعلنت الآية السابقة. فمن يحفر حفرة ليسقط فيها الناس الذين يكرههم، الله قادر أن ينجيهم، ويسمح له أن يسقط فيها.
ومن يعد شركاً؛ ليصطاد به غيره، يمكن أن يسقط هو نفسه فى هذا الشرك.
وأمامنا مثال واضح يُظهر هذه الآية، وهو هامان الذى اضطهد مردخاى وكل شعب اليهود، وحاول إبادتهم، وأعد خشبة طويلة، ليصلب عليها مردخاى، وكيف بالصلاة والصوم، حول الله الشر إلى خير لأولاد الله، أما الشرير هامان، فسقط فى الحفرة التى حفرها، فقتله الملك وعلقه على الخشبة التى أعدها لمردخاى، أما مردخاى، فأخذ مكان هامان، وصار نائب الملك وصديقه، وشعب الله صار مكرماً فى كل أنحاء الإمبراطورية الفارسية، ووقع الانتقام على أعداء اليهود (أس7: 10).
ع30: تأكيد ثالث لما ذكر فى الآيتين السابقتين، كتحذير للماكر الشرير؛ حتى لا ينصب فخاخاً، ويسىء إلى غيره؛ لئلا تنقلب على رأسه المساوئ التى كان يريد أن يُسقط غيره فيها، أى يسقط فى الشر الذى كان يريد إسقاط غيره فيه. وهنا يظهر شر إخوة يوسف، الذين أرادوا قتل أخيهم، ثم تخلصوا منه ببيعه عبد، فرفعه الله؛ ليملك على مصر، ويدبر أمورهم، ويسجد له أخوته؛ لأنه هو الذى يعولهم، وصار ممجداً فى نظر الله والناس (تك41: 41).
ع31: شأن : صفة أو تخص.
تثبيتاً للمعنى الذى أتى فى الآيات الثلاثة السابقة، وهى أن شر الماكر يأتى على رأسه، تعلن هذه الآية أن المتكبرين عموماً، سواء كانوا ماكرين، أو يعملون أى شر، مثل الاستهزاء بغيرهم، واحتقارهم، أو تعييرهم والتشهير بهم؛ هذا ليس فقط يضايق الناس منهم، ولكن يتدخل الله كأسد، وينتقم منهم، إذا أصروا على كبريائهم.
هذا الشر يظهر فى مشير داود المتكبر، والذى انقلب عليه، وانضم إلى أبشالوم؛ ليتخلص من داود؛ هذا هو أخيتوفل، الذى أشار على أبشالوم أن يهجم بسرعة على داود الهارب منذ ساعات وهو مجهد، ولكن حوشاى الأركى أعطى مشورة أخرى لأبشالوم، فأعجب بها، وأهمل مشورة أخيتوفل ، الذى غضب جداً لكبريائه، وذهب وشنق نفسه (2صم17: 23). هذا هو الانتقام الإلهى من الأشرار.
ع32: إن الانتقام الإلهى من الأشرار لابد أن يتم. ومن صفات الأشرار أن يشمتوا بسقوط الأبرار. هذه الشماتة شر عظيم، يأتى على رؤوس الأشرار الذين شمتوا، ويجعلهم يتألمون؛ حتى يموتوا.
هذا ما حدث مع شعب أدوم، الذى هو نسل عيسو، وهم شمتوا بسقوط أورشليم، ولما كان اليهود يهربون من البابليين، كان الأدوميون يقبضون عليهم، ويسلمونهم للبابليين، فتنبأ عليهم عوبديا النبى بأنهم سيتألمون، بل والله سيبيدهم (نبوة عوبديا).
ع33: رجس : شر عظيم.
يختم ابن سيراخ هذا الأصحاح بشر منتشر بين الناس، وهو خطيتى الغضب والحقد. والمقصود بالحقد ليس مجرد غضب مؤقت، بل استمرار فى الغضب الشديد الذى يملأ القلب، ويتمنى الشر للآخر، بل يحاول الإساءة إليه. هاتان الخطيتان من صفات الخاطئ، وهو يتمسك بهما، فطبيعة الخاطئ أن يؤذى من حوله.
هذا هو إبليس اللعين، الذى يغضب ويحقد علينا، ويشمت بنا، ويعد لنا فخاخاً ليسقطنا فيها، ولكن الله، عندما نصلى إليه ينقذنا، وفى النهاية يعاقب الشيطان، ويلقيه فى العذاب الأبدى. إحترس من خطية الكذب وكل صورها من الخداع، والالتواء، مهما ظهر لها من نجاح، ولا تظن أنها ذكاء، أو حكمة، فهى شر عظيم يغضب الله، وليس له نتيجة إلا الهلاك، فاسرع بالتوبة، لتستعيد نقاوة قلبك ولسانك، فتكسب رضا الله، ومحبة من حولك.