الصداقة والطريق للحكمة
(1) خطورة الشر (ع1-4):
1وَلاَ تَصِرْ عَدُوًّا بَعْدَ أَنْ كُنْتَ صَدِيقًا، فَإِن الْقَبِيحَ السُّمْعَةِ يَرِثُ الْخِزْيَ وَالْعَارَ، وَكَذلِكَ الْخَاطِئُ ذُو اللِّسَانَيْنِ. 2لاَ تَكُنْ كَثَوْرٍ، مُسْتَكْبِرًا بِأَفْكَارِ قَلْبِكَ، لِئَلاَّ تُسْلَبَ نَفْسُكَ، 3فَتَأْكُلَ أَوْرَاقَكَ، وَتُتْلِفَ أَثْمَارَكَ، وَتَتْرُكَ نَفْسَكَ كَالْخَشَبِ الْيَابِسِ. 4النَّفْسُ الشِّرِّيرَةُ تُهْلِكُ صَاحِبَهَا، وَتَجْعَلُهُ شَمَاتَةً لأَعْدَائِهِ.
ع1: “لا تصر عدواً بعد أن كنت صديقاً” : إذا تكلمت بكلمات نم وإدانة، فإن كلامك قد يصل إلى صديقك، فيغضب منك، ويتحول إلى عدو، ويصير ضدك، وهنا تحذير من خطية الإدانة والنم؛ لأن الكلمة التى تخرج من الفم لا تعود إليه، فإن كانت كلمة شريرة، فإنها تُحدث مشاكل وانقسامات وعداوات.
“فإن القبيح السمعة يرث الخزى والعار” : القبيح السمعة هو إنسان متمادى، ومستبيح للخطية؛ لأنه إن كانت إشاعة باطلة، ستنفضح مع الوقت، وتُعرف الحقيقة، أما السمعة السيئة إذا دامت، فهى تعطى لصاحبها الخزى والعار، إذ تنفضح خطاياه، وتكون أمام الجميع.
هذا الكلام يبين خطورة السمعة السيئة، وبالتالى هى دعوة للتوبة، حتى تزول السمعة القبيحة.
“وكذلك الخاطئ ذو اللسانين” : الإنسان ذو اللسانين هو المنافق، الذى يتكلم أحياناً بالخير، وأحياناً أخرى بالشر، فيتضايق منه الناس، ويلحقه أيضاً الخزى والعار.
وهذه أيضاً دعوة للتوبة وترك النفاق، والالتزام بالسلوك المستقيم، وأيضاً الكلام المستقيم.
ع2: تحذرنا هذه الآية من السقوط فى الشهوات، والاندفاع فيها كالثور القوى، والذى مع كونه حيوان؛ هكذا يشبهه الإنسان المنغمس فى شهواته.
وخطورة الاندفاع والتمادى فى الخطية هى أنها مظهر لأفكار ومشاعر، أى قلب الإنسان الذى امتلأ بالشهوات، فيظهر خزيه أمام الجميع.
وكذلك تُسلب نفس هذا الإنسان الشهوانى، أى يُذل وينحط، كما حدث مع شمشمون الذى تعلق بالشهوة، فقصوا شعره، وفقأوا عينيه، وصار كالحيوان؛ ليجر الطاحون التابع لمعبد الأوثان (قض16: 21).
هذه هى خطورة الشهوة، وهذه الآية أيضاً تدعو الإنسان الشهوانى للتوبة، فيسامحه الله، ويقبله، كما حدث مع شمشون، الذى رجع إلى الله، وتاب، ونما شعره، وأسقط المعبد على الأعداء الوثنيين، ومات معهم كفدائى (قض16: 30).
احترس من أن تتكبر وتعتمد على أفكارك ومشاعر قلبك فلا تسمع للنصيحة فتُسلب نفسك، أى تهلكها.
ع3: تشرح هذه الآية النتائج السيئة للاندفاع فى الخطية، التى ذكرت فى (ع1، 2). وهى:
- “تأكل أوراقك” فتضيع مظهرك الحسن، الذى ترمز إليه أوراق الشجرة، فيصير مظهرك سيئاً، وسمعتك ردية.
- “تتلف أثمارك” : تضيع كل فضائلك، التى كان يحبها الناس، ويظهر أنك منافق، وشرير من داخلك، وأن ثمارك مزيفة؛ لذلك تلفت، فلا يعود الناس يستفيدون منك شيئاً.
- “تترك نفسك كالخشب اليابس” : النتيجة النهائية أن تكون نفسك بلا قيمة أمام الله والناس، ويشبهها بالشجرة اليابسة، فهى لا تعطى ثمراً، وليس لها مظهراً حسناً، فيعبر عليها الناس، ولا ينظرون إليها.
هذه هى الآية التى تنطبق على الإنسان الشرير الشهوانى وهى عكس التطويب، الذى يذكره المزمور الأول عن الإنسان البار، الذى يشبهه بالشجرة المغروسة على مجارى المياه، التى تعطى ثمرها فى حينه وورقها لا ينتثر” (مز1: 3 بحسب الترجمة السبعينية).
ع4: الخلاصة، فى نهاية الكلام عن خطورة الشر، أن النفس الشريرة تدفع صاحبها إلى أعمال شريرة تسقطه فى الخزى والعار أمام الناس، ولا ينتظره فى النهاية إلا العذاب الأبدى، أى أن هذه النفس تهلك صاحبها.
وبالطبع فأعداء هذا الإنسان سيشمتوا به؛ هؤلاء الأعداء هم الشياطين، وكل إنسان شرير يتبع الشيطان.
احترس من إغراء الخطية؛ لأنها ليست وراءها إلا الخزى والعار والهلاك، فارفضها من البداية، وإن سقطت فيها قم سريعاً لتغتسل بالتوبة والاعتراف، وتعود إلى مكانك في الكنيسة بالتناول من الأسرار المقدسة.
(2) الصديق الأمين والمزيف (ع5-17):
5الْفَمُ الْعَذْبُ يُكَثِّرُ الأَصْدِقَاءَ، وَاللِّسَانُ اللَّطِيفُ يُكَثِّرُ الْمُؤَانَسَاتِ. 6لِيَكُنِ الْمُسَالِمُونَ لَكَ كَثِيرِينَ، وَأَصْحَابُ سِرِّكَ مِنَ الأَلفِ وَاحِدًا. 7إِذَا اتَّخَذْتَ صَدِيقًا؛ فَاتَّخِذُهُ عَنْ خِبْرَةٍ، وَلاَ تَثِقْ بِهِ سَرِيعًا. 8فَإِنَّ لَكَ صَدِيقًا فِي يَوْمِهِ، وَلكِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِي يَوْمِ ضِيقِكَ. 9وَصَدِيقًا يَصِيرُ عَدُوًّا، فَيَكْشِفُ عَارَ مُخَاصَمَتِكَ. 10وَصَدِيقًا يَشْتَرِكُ فِي مَائِدَتِكَ، وَلكِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِي يَوْمِ ضِيقِكَ. 11يَكُونُ نَظِيرَكَ فِي أَمْوَالِكَ، وَيَتَّخِذُ دَالَّةً بَيْنَ أَهْلِ بَيْتِكَ، 12لكِنَّهُ، إِذَا انْحَطَطْتَ، يَكُونُ ضِدَّكَ، وَيَتَوَارَى عَنْ وَجْهِكَ.
13تَبَاعَدْ عَنْ أَعْدَائِكَ، وَاحْذَرْ مِنْ أَصْدِقَائِكَ. 14الصَّدِيقُ الأَمِينُ مَعْقِلٌ حَصِينٌ، وَمَنْ وَجَدَهُ فَقَدْ وَجَدَ كَنْزًا. 15الصَّدِيقُ الأَمِينُ لاَ يُعَادِلُهُ شَيْءٌ، وَصَلاَحُهُ لاَ مُوَازِنَ لَهُ. 16الصَّدِيقُ الأَمِينُ دَوَاءُ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ يَتَّقُونَ الرَّبَّ يَجِدُونَهُ. 17مَنْ يَتَّقِ الرَّبَّ يَحْصُلْ عَلَى صَدَاقَةٍ صَالِحَةٍ، لأَنَّ صَدِيقَهُ يَكُونُ نَظِيرَهُ.
ع5: تتكلم هذه الآية عن صفة هامة فى الصديق الجيد، وهذه الصفة هى فمه ولسانه، فإذا كان حلواً، ولطيفاً يحبه الناس، ويكثر أصدقاؤه، ومحبوه، الذين يريدون أن يجلسوا معه، ويأنسوا بعشرته.
هذه الآية تظهر أهمية اللسان الحلو فى كسب الأصدقاء، كمقدمة للكلام عن الصداقة فى الآيات التى تبين صفات الصديق المزيف (ع8-13)، وصفات الصديق الأمين (ع14-17).
ع6: قد يكون لك أحباء كثيرون تحيا معهم فى سلام، وعلاقات طيبة، قد يسميها البعض صداقة، ولكنها بالأكثر مرافقة، وزمالة، وحب.
أما الصديق الحقيقى فنادراً ما تجده، فتبحث عنه، وتجد بين ألف واحد من هؤلاء الأحباء الصديق المناسب لك، هذا الصديق هو الذى تستطيع أن تعطيه أسرارك، وتثق فيه، ويشاركك حياتك.
هذه الآية أيضاً مقدمة للكلام عن الصداقة، وتبين أهمية اختيار الصديق.
ع7: تستكمل هذه الآية الكلام عن اختيار الصديق، فتعلن أهمية اختبار الصديق قبل اعتباره، واعتماده كصديق، أى يجب أن تعرفه، وتسأل عنه، وتعاشره، ثم تحكم عليه بالصلاة، والإرشاد، وتعتبره أخيراً صديقاً تثق فيه.
بهذه الآية نختم المقدمة التى تحدثنا عن الصداقة، وأهمية اختيار الصديق، وسنرى فى الآيات التالية أنواع الأصدقاء.
ع8: يبدأ الحديث هنا عن الأصدقاء المزيفين، وعن كيفية تمييزهم، فيقول سيراخ : أن الأصدقاء قد يظهروا مناسبين، ولكن تكتشف حقيقتهم فى يوم الضيقة، إذ لا يثبتون، ويهربون وينشغلون عنك؛ هم إذن أصدقاء مزيفون، فالصفة الأولى للصديق المزيف أنه لا يثبت وقت الضيقة.
ع9: إذا حدث اختلاف بينك وبين أحد من الذين تعتبرهم أصدقاء، وخاصمك، ووقع فى عداوة معك، ولم يسامحك، أو يعمل حساباً للصداقة التى بينكما، فهو أصلاً لا يعتبر صديقاً.
والصفة الثانية فى الصديق المزيف هى أن يبيعك، ويخونك، إذا تعارضت مصلحته مع مصلحتك، ويصير خصماً لك.
ع10: لا تطمئن لمن تسميه صديقاً؛ لأنه عاشرك، وأكل على مائدتك كثيراً، وأكرمته، وساعدته بأشكال متنوعة؛ لأنه ساعة الضيقة يتخلى عنك. هذه هى الصفة الأولى التى يؤكدها هنا ابن سيراخ، والتى ذكرها فى (ع8).
ومن هؤلاء الأصدقاء المزيفين، من يكون معك عندما تكون ظروفك حسنة، فيشترك معك فى مائدتك بمظاهر حب وتقدير كثير، ولكنه ضعيف، فعندما تأتى عليك ضيقة يهرب، ويتخلى عنك.
ع11، 12: نظيرك : مثلك، وينوب عنك، أو يحل محلك كصديق مخلص.
دالة : له مكانة خاصة، وتميز.
يتوارى : يختبئ.
ينضم إلى هؤلاء الأصدقاء المزيفين، من يرتبط بك جداً، ويساعدك، ويدخل بيتك، ويكون له دالة، وتأثير على أهل بيتك طالما أن ظروفك جيدة، كأن تكون ذى أموال كثيرة، وصحتك جيدة، وتكون ذى مكانة بين الناس.
ولكن إذا أصابتك مصائب، وتدهورت حالتك، وظروفك، فإنه يبيعك، ويبتعد عنك، فهو مرتبط بك كصديق لأجل الخيرات التى تحيا فيها، والظروف الحسنة. هذه هى صفة ثالثة للصديق المزيف، وهو أن يتخلى عنك عندما تصير ظروفك ضيقة، وتقل خيراتك.
وإذا كان هذا الصديق قد كون دالة عند زوجتك، وأولادك، فعندما تفتقر، أو تسقط فى ضيقات، فإنه مستعد أن يستغل دالته، ليخونك مع زوجتك، أو يوقع بينك وبين أولادك، وأصدقائك الآخرين. لذا ينبغى أن تكون الدالة فى حدود، وبحرص منك.
ع13: فى ختام الكلام عن الصديق المزيف تعلن هذه الآية أمرين هامين هما :
- الابتعاد عن أعدائك؛ لأنهم يريدون أن يسيئوا إليك، فاحتفظ بقلب طيب من نحوهم، وصلى لأجلهم، ولكن ابتعد عن مخالطتهم؛ حتى تتجنب إساءاتهم.
- الحذر ممن تسميهم أصدقاءك ولم تكن قد اختبرتهم بعد اختباراً كاملاً. فلا تعطى أسرارك لهم، وعاملهم بمحبة ولكن بحرص، إذ قد ينقلبوا عليك فجأة لو تغيرت ظروفك.
ع14: معقل حصين : ملجأ يحتمى فيه الناس؛ لأنه محصن، ويصعب اختراقه.
يبدأ فى هذه الآية الكلام عن صفات الصديق الأمين، وأهميته، فيعلن فى بداية الكلام أنه معقل حصين يستند عليه الإنسان، ويلتجئ إليه وقت الضيقة، وهو يعتبر كنزاً ثميناً. هذه هى الصفة الأولى للصديق الأمين، وهى أنه ملجأ فى الضيقة.
ع15: الصفة الثانية فى الصديق الأمين أنه صالح، بل وصلاحه لا يساويه، أو يقترب منه أى إنسان. وصلاح الصديق الأمين هو أنه مخلص فى الحق، فلا يساعدك على الشر، بل يجتذبك للخير دائماً؛ لأنه صالح، ويقربك إلى الله، فمعه تسير فى حياة روحية مستقرة، وتسعى فى طريق الملكوت.
وصلاح الصديق الأمين يظهر فى أمانته لك، فيهتم بك، وتكون مشاعره مخلصة، وكذلك كلماته وأفعاله.
ع16: الصفة الثالثة فى الصديق الأمين أنه يعالج مشاكلك، فهو دواء لك فى الضيقة، إذ يقف بجانبك بإخلاص، ويساعدك بكل ما يستطيع، ويسندك لتسير مع الله. ولا يستطيع أن يصل أحد إلى هذا الصديق إلا من يخاف الله، ويحفظ وصاياه، فينعم عليه الله بهذا الصديق.
وبالطبع الصديق الأول هو المسيح، يليه، ويؤيده القديسون الذين تتشفع بهم، ثم الآباء والإخوة، الذين تتتلمذ على أيديهم، وترتبط معهم فى صداقة خاصة.
ع17: يُفهم من هذه الآية، التى تختم لنا الكلام عن الصداقة، أن من يتمنى الحصول على صديق أمين يتقى الله، ويحفظ وصاياه، لابد أن يكون هو أصلاً يتقى الله، فيستطيع أن يميز، فى المجتمع المحيط به، هؤلاء الأصدقاء، الذين يخافون الله، بل والله أيضاً يرشده إليهم.
جيد أن تحصل على صديق، فلكيما تحصل عليه، ولا تتسرع في اختيار الأصدقاء، وعش أنت مع الله داخل كنيسته، فيسهل عليك أن تميز الصديق الذى يرسله الله لك. ولا تبحث عنه في طرقات العالم، بل ابحث عمن يتقى الله، ويحيا معه، فتجد ما يناسبك، ويعينك طوال حياتك، وعدم وجود صديق لفترة، أفضل من صديق مزيف. اعتمد أولاً على الله كصديق، وعلى القديسين؛ حتى تحصل على الصديق الأمين.
(3) أهمية الحكمة (ع18-23):
18يَا بُنَيَّ، اتَّخِذِ التَّأْدِيبَ مُنْذُ شَبَابِكَ، فَتَجِدَ الْحِكْمَةَ إِلَى مَشِيبِكَ. 19مِثْلَ الْحَارِثِ وَالزَّارِعِ؛ أَقْبِلْ إِلَيْهَا، وَانْتَظِرْ ثِمَارَهَا الصَّالِحَةَ. 20فَإِنَّكَ تَتْعَبُ فِي حِرَاثَتِهَا قَلِيلًا، وَتَأْكُلُ مِنْ غَّلاَتِهَا سَرِيعًا.
21مَا أَصْعَبَهَا عَلَى الْغَيْرِ الْمُتَأَدِّبِينَ. إِنْ فَاقِدَ اللُّبِّ لاَ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا، 22فَإِنَّهَا لَهُ كَحَجَرِ الاِمْتِحَانِ الثَّقِيلِ؛ فَلاَ يَلْبَثُ أَن يَتْرُكَهَا. 23لأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ كَاسْمِهَا، وَلاَ تَسْتَبِينُ لِكَثِيرِينَ، وَالَّذِينَ يَعْرِفُونَهَا تَثْبُتُ فِيهِمْ إِلَى مُشَاهَدَةِ اللهِ.
ع18: مشيبك : شيخوختك.
حتى تحصل على الحكمة لابد أن تقبل التأديب منذ شبابك، فتقبل الطريق الضيق، الذى قال عنه المسيح (مت7: 13) فى جهادك الروحى للتخلص من خطاياك، وتهتم بحفظ وصايا الله، حينئذ تنال الحكمة، ليس فقط فى شبابك، بل حتى مشيبك، أى حتى نهاية عمرك، وتنال الحكمة عن طريق الصلاة، والكتاب المقدس، والإرشاد الروحى فى سر الاعتراف، ومن المرشدين الروحيين.
ع19، 20: يوجهنا ابن سيراخ للتعب من أجل الحصول على الحكمة، ويعطينا مثالاً فى اهتمام الزارع الذى يهتم بحراثة الأرض، وتقليبها للتخلص من الحشائش الضارة، وكل أمر يعطل نمو النباتات، ثم يهتم بزراعة نباتاته، وريها، وتسميدها، وحفظها من الآفات، فيحصل فى النهاية على ثمارها.
ويبين ابن سيراخ أن هذا الحصاد يتم سريعاً، فثق أنك ستحصل على ما تريده سريعاً، أى الحكمة.
ع21، 22: اللب : العقل.
الذين يقبلون التأديب الإلهى، أى التجارب والضيقات برضى وشكر، ويلتجئون إلى الله؛ ليساعدهم، هؤلاء يستطيعون أن ينالوا الحكمة؛ لأن قبول التأديب شرط أساسى لنوالها.
هؤلاء المدللون الذين يرفضون احتمال آلام التجارب، ويعتبرونها حجراً ثقيلاً عليهم، ويفشلون فى هذا الامتحان، وبالتالى لا يصلون إلى الحكمة، بل يهملونها ويتركونها.
كانت العادة قديماً امتحان قوة الشبان فى اليهودية بحمل حجر ثقيل (زك12: 3)، ولذا استعار سيراخ هذه العادة المألوفة عند اليهود؛ ليشبه قبول التأديب ونوال الحكمة بها.
الإنسان الغير عاقل، أى الفاقد اللب لا يلتجئ إلى الله، ولا يطلب مساعدته؛ ليجتاز التجارب التى تمر به، ويتذمر على التجربة، وبالتالى لا يستطيع أن ينال الحكمة، أو إذ بدأ فيها لا يستطيع أن يستمر فى اقتناء الحكمة. والمسيح نفسه دعانا لاحتمال تنفيذ وصاياه، ووعدنا أن تكون حملاً خفيفاً بمعونته، عندما قال : “احملوا نيرى عليكم .. لأن نيرى هين، وحملى خفيف” (مت11: 29، 30).
ع23: الحكمة عظيمة كاسمها، أى أن اسمها يحوى إحساساً بعظمتها، ولكن رغم هذه العظمة المعروفة عنها عند كل البشر، لا يستطيع أن يتبينها، أو يكتشفها إلا القليلون، أى من يطلبون الحكمة، ويسعون نحوها.
أما الكثيرون الباقون، فينشغلون بشهوات العالم، ولا يريدون أن يتعبوا ليحصلوا على الحكمة.
الذين يطلبون الحكمة يكتشفون عظمتها، ويعرفونها؛ فهؤلاء يتمسكون بها طوال حياتهم إلى أن يشاهدوا الله فى اتجاهين :
- أثناء حياتهم على الأرض، إذ يعلن لهم الله نفسه، ويعزى قلوبهم، ويسندهم، ويمتعهم برؤيته.
- كل ما فات على الأرض هو عربون لمشاهدة الحكمة التى فى السموات، وهذه لا يستطيع أحد أن يعبر عنها، لأن عظمتها تفوق العقل.
الحكمة متاحة وميسورة لمن يطلبها، والحكمة هى الله، فلا تنزلق يا اخى في شهوات العالم، ومشاغله، فتفقد هدفك، وهو الحصول على الحكمة والوصول إلى الملكوت.
أثبت في الكنيسة وأسرارها، وتمسك بعلاقتك مع الله، فتتذوق الحكمة، وتحيا فيها إلى الأبد.
(4) الخضوع للحكمة (ع24-32):
24اِسْمَعْ يَا بُنَيَّ، وَاقْبَلْ رَأْيِي، وَلاَ تَنْبِذْ مَشُورَتِي، 25وَأَدْخِلْ رِجْلَيْكَ فِي قُيُودِهَا، وَعُنُقَكَ فِي غُلِّهَا. 26احْنِ عَاتِقَكَ وَاحْمِلْهَا، وَلاَ تَغْتَظْ مِنْ سَلاَسِلِهَا. 27أَقْبِلْ إِلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسِكَ، وَاحْفَظْ طُرُقَهَا بِكُلِّ قُوَّتِكَ. 28ابْحَثْ وَاطْلُبْ فَتَتَعَرَّفَ لَكَ، وَإِذَا فُزْتَ بِهَا فَلاَ تُهْمِلْهَا. 29فَإِنَّكَ فِي أَوَاخِرِكَ تَجِدُ رَاحَتَهَا، وَتَتَحَوَّلُ لَكَ مَسَرَّةً. 30فَتَكُونُ لَكَ قُيُودُهَا حِمَايَةَ قُوَّةٍ، وَأَغْلاَلُهَا حُلَّةَ مَجْدٍ. 31لأَنَّ عَلَيْهَا حَلْيًا مِنْ ذَهَبٍ، وَسَلاَسِلَهَا سِلْكُ سَمَنْجُونِيٍّ. 32فَتَلْبَسُهَا حُلَّةَ مَجْدٍ لَكَ، وَتَعْقِدُهَا إِكْلِيلَ ابْتِهَاجٍ.
ع24-26: تنبذ : ترفض وتهمل.
غلها : قيدها.
عاتقك : كتفك.
ينادى ابن سيراخ على طالبى الحكمة ويقول لهم : “اسمعوا واقبلوا كلامى ولا تهملوه. كل هذا ليؤكد أهمية الكلام الذى سيقوله لهم فى الآيات التالية.
يبدأ ابن سيراخ أقواله بدعوة طالبى الحكمة لإدخال أرجلهم فى قيود الحكمة، وأعناقهم فى أغلالها، ويحنون أكتفاهم لحملها، ويقبلون أن يقيدوا بسلاسلها، ولا يغتاظون من هذا، أى يدعوهم أن يدخلوا بأنفسهم إلى الحكمة، ويقبلوا قيودها وأغلالها، ففى الظاهر متاعب وصعوبات سيحتملونها، ولكن فى الحقيقة هذه القيود والأغلال ستحمى طالبى الحكمة من شرور العالم، فقيودها حماية، وليست تعذيباً، كما يظن الجهلاء.
هذه القيود مؤقتة لأنها ستهب كل من يدخل فيها بإرادته سلاماً، وفرحاً، وأمجاداً لا يعبر عنها، كما سيظهر فى الآيات التالية، وكما يعلن لنا بولس الرسول (1كو2: 9).
ع27: حتى تنال الحكمة، لابد أن تسعى نحوها بكل نفسك، أى بعقلك ومشاعرك، وكل كيانك، فعلى قدر ما تكون بكل نفسك طالباً إياها تنالها، كما قال رب المجد يسوع المسيح: “تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك…” (لو10: 27)
حفظ طرق الحكمة أمر هام للحصول عليها. وطرق الحكمة هى كلام الله فى الكتاب المقدس، والأسرار المقدسة فى الكنيسة، وأعمال الله فى حياة الإنسان، وسير القديسين، وكل ما يوجد فى الكنيسة من عقائد وطقوس. فيلزم أن يحفظ الإنسان كل هذه بكل قوته، وليس بجهد قليل، والمقصود بالحفظ، ليس فقط الحفظ الذهنى، ولكن بالأولى أن يحيا بها الإنسان، فتتحول من كلام نظرى إلى حياة معاشة.
ع28: إن كنت يا أخى تريد أن تكشف الحكمة لك نفسها، فتعرفها وتتمتع بها، فهذا لا يتم إلا بالبحث عنها وطلبها.
وهذا البحث يعنى السعى لمعرفة كل ما فى الكنيسة، والتلمذة على أيدى الحكماء، الذين هم الآباء، والإخوة الروحيين، بالإضافة إلى التمسك بالصلاة والصوم، وطلب الحكمة من الله.
وإذا أنعم الله عليك بالحكمة، وبدأت تشعر ببركاتها، أى فزت بها، فتمسك بها، ولا تهملها، وتنشغل بالعالم، وشهواته؛ لأنها ستضيع منك، وهذا معناه تمسك الإنسان المجاهد بقانونه الروحى من صلوات، وأصوام، وقراءات؛ لتظل الحكمة حية وفعالة فيه. كما فعلت النفس البشرية، أى العروس فى سفر النشيد، عندما وجدت عريسها، فقالت : “أمسكته ولم أرخه” (نش3: 4).
ع29: إن كان المجاهد الروحى يتعب فى بداية حياته لاقتناء الحكمة، فيبحث عنها، ويطلبها كثيراً، ولكنه فى أواخر حياته يجد راحة فى الحكمة، أى يتمتع ببركاتها، بل تصير مفرحة لقلبه، أى تتحول أتعابه، وجهاده طول حياته إلى مسرة، وابتهاج؛ هذا على الأرض، ولكن فى السماء مسرة وفرح لا يعبر عنه.
ع30: حلة : بدلة أو ثوب جديد.
البركات التى ستنالها أيها المجاهد الروحى من الحكمة فى نهاية حياتك هى :
1- حماية قوة :
فعلى قدر ما احتملت قيود الحكمة، وامتنعت عن بعض ما تشتهيه نفسك؛ هذا سيمنحك قوة إرادة لرفض الخطية، والابتعاد عما يؤدى للشر، وهكذا تتحول القيود إلى بركة، فتحب القيود، وتمجدها.
2- حلة مجد :
الأغلال أيضاً التى فرضتها عليك الحكمة، وقبلتها لكيما تحصل على بركاتها، ستعطيك فى النهاية حلة مجد، أى ثياب البر والعفة، وتزينك بالفضائل، فتصير روحانيا وأنت مازلت فى الجسد.
ومثال واضح لاحتمال قيود وأغلال الحكمة، يوسف الصديق، الذى نال بواسطتها حماية من الخطية مع امرأة فوطيفار، وحلة مجد، عندما جلس على عرش مصر، واستطاع بالحكمة أن يقود الإمبراطورية الأولى فى العالم وهى مصر، ويطعم ليس فقط مصر، بل العالم كله، الذى أتى إلى مصر؛ ليشترى طعاماً، مثل إخوته الذين جاءوا من الشام.
ع31: حلى : ما يتحلى به الإنسان من زينة.
سمنجونى : لون أزرق سماوى.
يستكمل ابن سيراخ سرد بركات الحكمة، فيقول :
3- حلياً من ذهب :
يلبس المجاهد فوق حلة المجد حلياً من ذهب، والذهب يرمز للسماء؛ نظراً لقيمته الغالية، وقلة وجوده على الأرض، وهذه الحلى الذهبية تعنى أن المجاهد الروحى يلبس الفضائل السماوية، ويسلك كملاك على الأرض، فيحب الله، ويحب الناس، ويرتفع فوق الشهوات النجسة، ويزهد فى مقتنيات العالم.
4- سلك سمنجونى :
تتحول سلاسل الحكمة فتصير كأنها أسلاك من الإسمانجونى، أى سلاسل لونها أزرق فاتح. ومعناها أيضاً السلوك السماوى، فيختبر الإنسان المتحلى بالحكمة حياة نقية، يشعر بمعية الله فيها، ويشعر كأنه فى السماء.
ع32: تعقدها : تلبسها.
يواصل ابن سيراخ كلامه عن بركات الحكمة، فيضيف :
5- إكليل ابتهاج :
إن كان المجاهد قد لبس حلة مجد مزينة بالحلى والسلاسل، فيضيف هنا أنه يلبس على رأسه إكليل ابتهاج، فيكون فى فرح عظيم يغطى رأسه، أى عقله وتفكيره، بل ويشمل كل
كيانه. هذه البركة وهى الفرح يطلبها العالم كله، ولا يحصل عليها إلا طالبو الحكمة. والكتاب المقدس يدعونا ليس فقط للفرح، بل الفرح فى كل حين (فى4: 4) لأننا أولاد الله الذين نحصل على الحكمة، أى الله. كما كان الثلاثة فتية فى فرح وهم داخل النار؛ لأن معهم رابع شبيه بابن الآلهة، أى المسيح (دا 3: 92). ودانيال كان فى فرح عظيم بين الأسود فى الجب، لأنه يجلس مع ملاك الرب (دا 6: 22).
إن كانت يا اخى الحكمة عظيمة إلى هذا المقدار، وتفرح من يقتنيها، وترفعه للسماويات وهو على الأرض، فلا تتضايق مما تسمح به الحكمة لك من ضيقات، أو تجارب؛ لأن الله سيكون معك أثناءها، ثم يخرجك من الضيقة، ويريحك منها، وينتظرك في الأبدية فرح لا يعبر عنه.
(5) كيف تنال الحكمة ؟ (ع33-37):
33إِنْ شِئْتَ، يَا بُنَيَّ، فَإِنَّكَ تَتَأَدَّبُ، وَإِنِ اسْتَسْلَمْتَ، تَسْتَفِيدُ دَهَاءً. 34إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَسْمَعَ؛ فَإِنَّكَ تَعِي، وَإِنْ أَمَلْتَ أُذُنَكَ تَصِيرُ حَكِيمًا. 35قِفْ فِي جَمَاعَةِ الشُّيُوخِ، وَمَنْ كَانَ حَكِيمًا فَلاَزِمْهُ. ارْغَبْ أَنْ تَسْمَعَ كُلَّ حَدِيثٍ إِلهِيٍّ، وَلاَ تُهْمِلْ أَمْثَالَ التَّعَقُّلِ. 36وَإِنْ رَأَيْتَ عَاقِلًا؛ فَابْتَكِرْ إِلَيْهِ، وَلْتَطَأْ قَدَمُكَ دَرَجَ بَابِهِ. 37تَرَوَّأْ فِي أَوَامِرِ الرَّبِّ، وَفِي وَصَايَاهُ تَأَمَّلْ كُلَّ حِينٍ؛ فَهُوَ يُثَبِّتُ قَلْبَكَ، وَيُنِيلُكَ مَا تَتَمَنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ.
ع33: دهاء : ذكاء.
يوضح لنا ابن سيراخ الطريق للوصول للحكمة، ويحدده فى الطرق الآتية :
1- إن شئت :
إن شاء الإنسان وأراد، ورغب فى الحكمة بإرادته الحرة، وطلب أن يصل إليها، فلابد عليه أن يقبل التعليم والتأديب، أى يقبل كلام الله، حتى لو كان يعاتبه، أو يوبخه، ويقبل إرشاد الحكماء، مثل أب الاعتراف والآباء الروحيين، ويحتمل التجارب، حتى لو بدت صعبة.
2- استسلمت :
الاستسلام، أو التسليم هو الخضوع الكامل للحكمة، وهذا الطريق يسهل على المجاهد اقتناء بركات الحكمة، التى منها الذكاء. وهذا الذكاء يستخدم فى الخير، وليس فى الشر؛ لأن الأخير يسمى مكراً، أو خبثاً.
ع34: تعى : تفهم.
يستكمل ابن سيراخ وسائل الحصول على الحكمة، فيقول:
3- تسمع :
الطريق الثالث للحكمة هو الاستماع لكلام الحكمة، بل وإمالة الأذن إليه، أى الخضوع لهذا الكلام، وتنفيذه فى الحياة.
وكلام الحكمة هو كلام الله فى الكتاب المقدس، وتعاليم الكنيسة، وإرشاد الآباء.
والخلاصة، أنه إن كان لك اهتمام أن تسمع كلام الحكمة، فإنك ستفهم ما يريده الله. وكذلك إذا اتضعت (آملت أذنك)، يعطيك الله أن تكون حكيماً.
ع35، 36: تطأ : تدوس.
درج : سلم.
يضيف ابن سيراخ هنا لطرق الحكمة :
4- قف فى جماعة الشيوخ … إن رأيت عاقلاً فابتكر إليه :
والمقصود التلمذة الروحية على أيدى الشيوخ الحكماء وملازمتهم، أى الاستمرار فى التعلم على أيديهم.
بالإضافة إلى سماع كلام الله على ألسنتهم، وإرشاداتهم، وتعلم أمثال الحكمة فى قصصهم، والأحداث التى يرونها.
وإن وجدت إنساناً يتميز بالعقل والحكمة إسرع إليه باكراً، قبل أى عمل أو انشغال أرضى، واذهب لبيته، واصعد سلم منزله؛ لتجلس معه، وتتعلم منه.
ع37: تروأ : ليكن لك رؤية دقيقة لتتفهم ما تراه.
يختم ابن سيراخ كلامه عن طرق الحكمة فيقول :
5- تروأ .. تأمل :
إن كلام الله واضح أمام الإنسان فى وصاياه، وشريعته، وكل ما يقوله الله فى الكتاب. ومن يطلب الحكمة ينبغى أن يفكر بهدوء وعمق فى أوامر الله، ووصاياه، ويتأمل معانيها، وكيفية تطبيقها فى حياته، فيدخل فى اقتناء الحكمة، بل ويثبت فيها. مثل داود الذى تأمل كثيراً فى كلام الله فصار قلبه مثل قلب الله ( 1صم13: 14).طريق الحكمة واضح لكل من يهواها، ويرغب في اقتنائها، وهو البحث عنها، والخضوع لها من خلال كلام الله، وكل من عاش مع الله من الآباء والأخوة الروحيين. لذا يا أخى اهتم بالتأمل في الكتاب المقدس، وأسرع بالتلمذة على كل إنسان روحانى، فتنال الحكمة، وتتمتع بها.