الطب والموت والصناعة
(1) الطبيب (ع1-15):
1أَعْطِ الطَّبِيبَ كَرَامَتَهُ، لأَجْلِ فَوَائِدِهِ فَإِنَّ الرَّبَّ خَلَقَهُ. 2لأَنَّ الطِّبَّ آتٍ مِنْ عِنْدِ الْعَلِيِّ، وَقَدْ أُفْرِغَتْ عَلَيْهِ جَوَائِزُ الْمُلُوكِ. 3عِلْمُ الطَّبِيبِ يُعْلِي رَأْسَهُ، فَيُعْجَبُ بِهِ عِنْدَ الْعُظَمَاءِ. 4الرَّبُّ خَلَقَ الأَدْوِيَةَ مِنَ الأَرْضِ، وَالرَّجُلُ الْفَطِنُ لاَ يَكْرَهُهَا. 5أَلَيْسَ بِعُودٍ تَحَوَّلَ الْمَاءُ عَذْبًا، حَتَّى تُعْرَفَ قُوَّتُهُ؟ 6إِنَّ الْعَلِيَّ أَلْهَمَ النَّاسَ الْعِلْمَ، لِكَيْ يُمَجَّدَ فِي عَجَائِبِهِ. 7بِتِلْكَ يَشْفِي وَيُزِيلُ الأَوْجَاعَ، وَمِنْهَا يَصْنَعُ الْعَطَّارُ أَمْزِجَةً، وَصَنَعْتُهُ لاَ نِهَايَةَ لَهَا. 8فَيَحِلُّ السَّلاَمُ مِنَ الرَّبِّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. 9يَا بُنَيَّ، إِذَا مَرِضْتَ فَلاَ تَتَهَاوَنْ، بَلْ صَلِّ إِلَى الرَّبِّ فَهُوَ يَشْفِيكَ. 10أَقْلِعْ عَنْ ذُنُوبِكَ، وَقَوِّمْ أَعْمَالَكَ، وَنَقِّ قَلْبَكَ مِنْ كُلِّ خَطِيئَةٍ.
11قَرِّبْ رَائِحَةً مَرْضِيَّةً وَتَذْكَارَ السَّمِيذِ، وَاسْتَسْمِنِ التَّقْدِمَةَ، كَأَنَّكَ لَسْتَ بِكَائِنٍ. 12ثُمَّ اجْعَلْ مَوْضِعًا لِلطَّبِيبِ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ خَلَقَهُ، وَلاَ يُفَارِقْكَ؛ فَإِنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ. 13إِنَّ لِلأَطِبَّاءِ وَقْتًا، فِيهِ الْنُّجْحُ عَلَى أيْدِيهِمْ، 14لأَنَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى الرَّبِّ، أَنْ يُنْجِحَ عِنَايَتَهُمْ بِالرَّاحَةِ وَالشِّفَاءِ، لاِسْتِرْجَاعِ الْعَافِيَةِ. 15مَنْ خَطِئَ أَمَامَ صَانِعِهِ؛ فَلْيَقَعْ فِي يَدَيِ الطَّبِيبِ.
ع1: الطبيب مستحق التكريم؛ لأنه يقدم فوائد كثيرة للإنسان، وهي :
- شفاء من الأمراض.
- تخفيف آلامه.
- إنقاذه من الموت
والله خلقه، وأعطاه هذا العلم والمعرفة الطبية؛ ليفيد بها العالم، والمسيح أشار إلى نفسه أنه الطبيب الآتي لعلاج أمراضنا عندما قال : “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مر 2 : 17)، والكنيسة تدعوه في أوشية (صلاة) المرضى، الطبيب الحقيقي؛ لأن الأطباء البشريين يقدمون علمهم وأدويتهم لعلاج المرضى، أما الذي يشفيهم بواسطة هذه الأمور هو الله نفسه، الطبيب الحقيقي.
ع2 : لأن الطب نعمة يهبها الله للأطباء، أي الفهم والتمييز للمرض وعلاجه؛ لذا قدم البشر وعلى رأسهم الملوك والرؤساء جوائزهم، أي عطاياهم وكل أموالهم للأطباء شكراً لهم، ولله الذي عمل بهم.
ع3 : على قدر ما يعرف الطبيب من معلومات تساعده على تمييز المرض ووضع العلاج المناسب له، على قدر هذا ترتفع مكانة الطبيب، أي “تعلى رأسه”، فيعجب به العظماء، ويلجأون إليه؛ ليشخص أمراضهم ويعالجها.
ع4 : الفطن: الحكيم والعاقل
الله أعطانا الأدوية من الأرض، وهي الأعشاب التي تُستخرج منها الأدوية؛ لأننا بشر، أي لنا أجساد، ونحتاج إلى علاج ملموس، وليس شفاء من الله غير مرئي، فالله هو الشافي، ولكن يستخدم الأدوية التي يصفها الطبيب؛ لأن هذا يناسب وجودنا بالجسد، والإنسان الفطن العاقل يفهم هذا ويشكر الله والطبيب على العلاج الذي يقدمه لشفاء المرض.
ع5 :
مثال لما ورد في الآية السابقة، وهي تقديم الأدوية من الأعشاب الناتجة من الأرض، ما حدث أيام موسى، عندما وجد الشعب ماءً مراً، وتذمر، فألقى موسى شجرة في الماء المر، فتحول عذباً (خر15 : 23-25)، هذا هو العود المذكور في هذه الآية.
وهذا العود، أو الشجرة، رمز للصليب، الذي ترُشم به مياه المعمودية، فتصير لها قوة لولادة الإنسان ولادة جديدة بطبيعة جديدة، تميل للحياة مع الله، وتتشبه به.
ع6: الله يعطي علم معرفة الأدوية وعلاج الأمراض للإنسان، أي للطبيب؛ ليشفي بها المرضى، فنمجده؛ لأنه هو مصدر هذا العلم، وهو يحب أن يمجد من خلال تكريم أولاده الأطباء، ويفرح بشفاء أولاده المرضى.
ع7 ، 8: بهذه الأدوية يستطيع الطبيب عند تقديمها للمريض أن يشفيه من أمراضه، وهذه الأدوية يصنعها العطار الذي يبيع الأعشاب المتنوعة، فيمزج هذه المواد معاً، ويوجد عنده أنواع كثيرة من الأمزجة، كل مزيج يصلح لعلاج مرض معين، فيضع أعشاب مع سوائل مختلفة، وهو ما يعمله الآن الصيدلي، ومن خلال عمل الطبيب والعطار (الصيدلي) يعطي الله الشفاء للمريض، ويحل السلام في قلب المريض ومن حوله من قبل الرب.
ع9: تشرح هذه الآية، والآيات الثلاث التالية الخطوات التي ينبغي أن يتبعها المريض، ونرى في هذه الآية :
الخطوة الأولى : الصلاة لله ليشفيك؛ لأن الله وحده هو الطبيب الحقيقي الذي يشفي أمراضنا، ومن أجل إيمانك يتدخل الله ويعطيك شفاءً وسلاماً.
ع10: أقلع : امتنع
الخطوة الثانية :
1- أقلع عن ذنوبك : أي حاسب نفسك وقدم توبة بأن تبتعد عن ذنوبك، أي تقر بها في توبة، ولا تستمر فيها.
2- “قوم أعمالك” : إن كانت بعض أعمالك غير مستقيمة، فأصلحها لتكون مستقيمة، أي إن كان هناك تهاون في الأمانة، أو أي خطأ في أعمالك مع القريبين، أو البعيدين، فاصلحها ليرضى عنك الله.
3- “نق قلبك من كل خطيئة” : وهي التوبة عن كل الأفكار والمشاعر الردية، ورفضها ليسامحك الله.
وفي العهد الجديد، يُضاف إلى هذه التوبة، التمتع بسر الاعتراف والغفران من الله على يد الكاهن، ونوال الإرشاد الإلهي؛ لتحيا في نقاوة.
والاهتمام بالتوبة خطوة أساسية في علاج المرض، كما يظهر من سر مسحة المرضى، كما ذُكر في (يع 5 : 14 ، 15)، حيث يُذكر إن كان قد فعل خطية تُغفر له عن طريق الاعتراف على يد الكهنة الموجودين أثناء السر، ويظهر أيضاً من كلام المسيح عن المخلع الذي كان عند بركة بيت حسدا الذي قال له المسيح بعد الشفاء: “لا تعود تخطئ لئلا يكون لك أشر” (يو 5 : 14).
ع11: الخطوة الثالثة : هي الذهاب للهيكل، وتقديم تقدمة القربان (لا2: 1)، والمذكورة هنا بتذكار السميذ، ويوصى أن تكون التقدمة بسخاء، فيقول : “استسمن التقدمة” لأن هذه فرصتك في التقرب إلى الله، فأنت لا تضمن عمرك يوماً واحداً، وهذا هو المقصود بتعبير: “كأنك لست بكائن”.
والذهاب إلى الهيكل معناه تقديم عبادة لله، وثقة بأنه هو وحده الشافي، فيذهب المريض إلى بيت الرب، ويقدم تقدمته ليرضى الله، ويفرح قلبه.
وفي العهد الجديد، يذهب المريض إلى الكنيسة، ويتناول من الأسرار المقدسة؛ لأن هذه الذبيحة هي الشفاء الحقيقي قبل أية أدوية أخرى يعطيها الطبيب.
يمكن أيضاً أن يقدم المريض نذوراً لله إذا أتم شفاءه، فهذا تعبير عن محبة المريض لله، أكثر من محبته لأموال العالم.
وإن كان المريض عاجزاً عن الذهاب للكنيسة، يذهب إليه الكاهن، ويعمل له سر مسحة المرضى مادام المرض صعباً.
ع12: الخطوة الرابعة : هي الالتجاء للطبيب الذي خلقه الله، وأعده لشفاء أمراضك، فهو يفحصك، ويميز مرضك، ويعطيك الأدوية المناسبة، ويظل يتابعك؛ حتى يتم الله الشفاء على يديه.
ع13 ، 14: النجح : النجاح
الخطوة الرابعة التي ذكرناها في الآية السابقة هي المختصة بالطبيب، والتي ينجح فيها شفاء المريض على يد الطبيب بقوة الله، وهذا الطبيب ينبغي أن يصلي أولاً لله؛ ليتدخل ويرشده في تشخيص المرض، وتقديم العلاج المناسب، ثم يتم الشفاء بمتابعة الطبيب، ويقوم المريض مستعيداً صحته وعافيته.
ع15: تؤكد هذه الآية ما ذكره (ع 10) وهي إن أصاب إنساناً مرضٌ ما فليراجع نفسه، ويتوب عن خطاياه التي قد تكون سبباً في أن يسمح له الله (صانعه) بهذا المرض، فيتوب عن خطاياه، والله سيعطيه الشفاء من المرض.
المرض وسيلة يناديك بها الله لتقترب إليه بالصلاة والتوبة والاتضاع، فتتحسن روحياً، ثم يعطي الشفاء من المرض، فتفرح وتمجد الله، وتشكر الطبيب.
(2) الحزن على الميت (ع 16-24):
16يَا بُنَيَّ، اذْرِفِ الدُّمُوعَ عَلَى الْمَيْتِ، وَاشْرَعْ فِي النِّيَاحَةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِذِي مُصِيبَةٍ شَدِيدَةٍ، َكَفِّنْ جَسَدَهُ كَمَا يَحِقُّ، وَلاَ تَتَهَاوَنْ بِدَفْنِهِ. 17لِيَكُنْ بُكَاؤُكَ مُرًّا، وَتَوَهَّجْ فِي النَّحِيبِ. 18أَقِمِ الْمَنَاحَةَ بِحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ، يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ دَفْعًا لِلْغِيبَةِ، ثُمَّ تَعَزَّ عَنِ الْحُزْنِ. 19فَإِنَّ الْحُزْنَ يَجْلُبُ الْمَوْتَ، وَغُمَّةَ الْقَلْبِ تَحْنِي الْقُوَّةَ. 20فِي الاِنْفِرَادِ الْحُزْنُ يَتَشَدَّدُ، وَحَيَاةُ الْبَائِسِ هِيَ عَلَى حَسَبِ قَلْبِهِ. 21لاَ تُسَلِّمْ قَلْبَكَ إِلَى الْحُزْنِ، بَلِ اصْرِفْهُ ذَاكِرًا الأَوَاخِرَ. 22لاَ تَنْسَ؛ فَإِنَّهُ لاَ رُجُوعَ مِنْ هُنَاكَ، وَلَسْتَ تَنْفَعُهُ، وَلكِنَّكَ تَضُرُّ نَفْسَكَ. 23اُذْكُرْ أَنَّ مَا قُضِيَ عَلَيْهِ يُقْضَى عَلَيْكَ. لِي أَمْسِ وَلَكَ الْيَوْمُ. 24إِذَا اسْتَرَاحَ الْمَيْتُ، فَاسْتَرِحْ مِنْ تَذَكُّرِهِ، وَتَعَزَّ عَنْهُ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ.
ع16 : إذرف الدموع : اجعل دموعك تسيل.
اشرع : ابدأ.
النياحة : النوح، أي البكاء الكثير.
بذى : صاحب.
إذا مات إنسان قريب، أو معروف لديك، فاترك نفسك تبكي عليه، فهذا تصرف طبيعي؛ لأن المسيح نفسه بكى على قبر لعازر الذي كان يحبه.
وابدأ خطوات المناحة كمشاعر طبيعية وتكريم للذي مات. وكانت بعض الشعوب قديماً تستمر المناحة فيها فترة قد تكون أسبوعاً، أو أربعين يوماً، حسب عادة كل بلد من البلاد. لأنه بموت الإنسان لا يعود موجوداً على الأرض، وهذه مصيبة كبيرة، ليس أصعب منها؛ لذا كن طبيعياً في مشاعرك، وإن كنت كإنسان روحي تثق أن هناك حياة أخرى أفضل، فهذا يعزي قلبك، ولكن لا يلغي المشاعر والبكاء.
وينبغي أن تقوم بكل إجراءات تكفين الميت؛ ليدفن بإكرام بعد الصلاة عليه، وقراءة أجزاء من الكتاب المقدس، وكان ذلك عند اليهود أما في العهد الجديد، فهناك صلاة طقسية كاملة ممتلئة بالمزامير وأجزاء من الكتاب المقدس، تظهر مشاعر الكنيسة وكل المؤمنين المحبين للميت، وتعزي القلوب.
ومن دفن الميت يكفن جسده، بلفه بقماش، ووضع عطور وحنوط عليه، ويوضع في صندوق خشبي. هذا ما كان معتاداً عند اليهود، ومازال عند المسيحيين، وبعد ذلك يدفن في مقبرة، أي مدفن ويغلق عليه، هذا هو إكرام جسد الميت؛ لأننا نثق أن الجسد سيتحول في اليوم الأخير إلى جسم روحي، ويتحد بالروح، ويقف أمام الله ليحاسب.
وتوصينا الآية، أن نهتم بدفن الميت، فالمسيح كفنوه ودفنوه بإكرام في قبر جديد منحوت في الصخر داخل حقل الفخارى (مت 27 : 7).
وطوبيا الرجل الكريم، كان يهتم بدفن أجساد الذين يقتلهم أعداء اليهود، ويحتمل الاضطهاد، حتى أنه كاد يموت لأجل اهتمامه بدفن الموتى. وبالتالي، يفهم من هذا أنه لا يصح إهمال دفن الموتى.
ع17: توهج في النحيب : إبكِ بحرارة.
أثناء دفن الميت، وعمل مناحة عليه، اترك مشاعرك كما هي، وحينئذ ستبكي بكاءً شديداً؛ هذا ليس فيه خطأ لأنها مشاعر طبيعية، تظهر مدى محبتنا للمنتقلين.
ع18: الغيبة : ذكر العيوب في غياب الشخص.
كانت تقام المناحات، أي أيام لقبول التعزية للذي مات، لمدد طويلة، تصل إلى سبعين يوماً، كما حدث في المناحة التي أقيمت ليعقوب أب الأباء (تك 50 : 3). ولكن هنا يقول ابن سيراخ بأن تقام المناحة لمدة يوم، أو يومين حسب مكانة الميت لإكرامه، أو هكذا كان يرى ابن سيراخ أن هذه المدة كافية. ثم يقول : يتعزى الناس بعد هذا عن أحزانهم، ولعله بروح النبوة عرف ما سيحدث في العهد الجديد، وهو قيامة المسيح في اليوم الثالث؛ لذا تقام صلاة الثالث على الميت في اليوم الثالث، تذكاراً لقيامة المسيح، وتنتهي المناحة، ويتعزى الناس بإيمانهم أن الراحل يتمتع بالفردوس. وهكذا يحدثنا الكتاب المقدس عن التعزية، فيقول بولس الرسول : “لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم” (اتس4: 13). ونحن نتأثر ونحزن كمشاعر طبيعية، ولكن في نفس الوقت لنا رجاء أن المنتقلين يذهبون إلى حياة أفضل في السماء.
ع19: إن الحزن الذي بلا رجاء، أي المصحوب باليأس، يهلك الإنسان ويميته، ويضعف قوته، فلا يجد حماساً للحياة والعمل والنشاط. أما الحزن الذي فيه رجاء، فيعزي الإنسان، ويقوم من جديد بنشاط وقوة أكبر، معتمداً على المسيح القائم من بين الأموات.
ع20: إذا كان الإنسان حزيناً، وجلس وحده، فإن أحزانه تزداد، ولكن وجوده مع آخرين يخفف من أحزانه بكلامهم المعزي، ولا يجد الشيطان فرصة أن يسقطه في الاكتئاب.
والإنسان البائس، أي الحزين، إذا فكر فيما فقده يزداد حزنه، ولكن إذا نظر إلى الله يتعزى قلبه، كما فعل داود عندما كان صائماً، مصلياً أثناء مرض ابنه الطفل الصغير، ولكن بعد موت الطفل نظر إلى الله والحياة الأخرى، فتعزى قلبه، وقام وأكل (2صم 12 : 22 ، 23)
ع21: إذا مات أحد أحبائك، فلا تستسلم للحزن، أي تنسى الله، ورجاءك فيه، ويساعدك على التعزية والهدوء أمران هما :
- أنك ستقابل حبيبك هذا في السماء بعد أن تترك هذا العالم؛ بل وأيضاً أنت قادر أن تتصل به وأنت على الأرض، من خلال الاشتراك معه في الصلاة، وتتشفع به، بل أيضاً تقابله في القداس الإلهي، عندما تذكر اسمه، فتشترك روحه في الصلاة معك.
- الله إلهك يراك، فلا تغضبه بالاستسلام لليأس، أو كلمات التذمر، بل تعزي بأن الله معك، ولا تغضبه بأية خطية في حزنك؛ لأنك ستقف أمامه في الآخرة، أي يوم الدينونة.
ع22: لا تنسى نفسك وتستسلم للحزن، وذلك لما يلي :
- حزنك لن يغير شيئاً من وضع الراحل، فهو لن يرجع إليك بهذا الحزن، بل هو قد استقر في السماء.
- حزنك هذا لا ينفع الراحل في شيء.
- حزنك يمكن أن يضرك عندما تخطئ بكلمات تذمر، أو مشاعر ضيق من الله، أو أفكار يأس.
- الذي رحل دخل في السعادة الأبدية عندما دخل للفردوس، فينبغي أن تفرح، وتطوبه، وتتمنى أن تجاهد مع الله مثله؛ حتى تصل للسماء وتكون معه.
ع23: تذكر يا من تحزن على موت أحد الأحباء، أن ما حدث له (قُضي عليه)، سيحدث أيضاً معك، وهو يقول لك : “ليَّ أمس ولك اليوم” أي أننى كنت أعيش بالأمس، وأحاول أن أستعد لأبديتي، ولك اليوم فرصة لتستعد لأبديتك؛ حتى إذا دعاك الله، وتركت هذه الحياة، تكون مستعداً لدخول السماء.
ع24: إذا استراح الميت، أي إذا كان إنساناً له علاقة مع الله، ومات، فقد استراح من أتعاب العالم، وإذا كان مريضاً، أو يعاني من أية ضيقة، فقد استراح منها.
لذا فاسترح من تذكره، أي استرح عند تفكيرك فيه؛ لأنه سعيد في السماء.
وعند موت هذا الإنسان، وخروج روحه تعزي من جهته؛ لأنه قد استراح من هذا العالم الباطل، ودخل في حياة أفضل، هي الحياة السماوية، فابن سيراخ يؤمن بالحياة الأخرى، ويؤكد عليها، ويدعونا للاستعداد لها.
إذا انتقل أحد أحبائك، وترك هذه الحياة، فلا تنسَ أن ترفع قلبك إلى السماء، وليستعد قلبك بجهاد كثير، من توبة وصلوات؛ ليكون لك مكان في السعادة الأبدية.
(3) الحرفيين (ع 25-39):
25الْكَاتِبُ يَكْتَسِبُ الْحِكْمَةَ فِي أَوَانِ الْفَرَاغِ، وَالْقَلِيلُ الاِشْتِغَالِ يَحْصُلُ عَلَيْهَا. 26كَيْفَ يَحْصُلُ عَلَى الْحِكْمَةِ الَّذِي يُمْسِكُ الْمِحْرَاثَ، وَيَفْتَخِرُ بِالْمِنْخَسِ، وَيَسُوقُ الْبَقَرَ، وَيَتَرَدَّدُ فِي أَعْمَالِهَا، وَحَدِيثُهُ فِي أَوْلاَدِ الثِّيرَانِ؟ 27قَلْبُهُ فِي خُطْوطِ الْمِحْرَاثِ، وَسَهَرُهُ فِي تَسْمِينَ الْعِجَالِ. 28كَذلِكَ كُلُّ صَانِعٍ وَمُهَنْدِسٍ مِمَّنْ يَقْضِي اللَّيْلَ كَالنَّهَارِ، وَالْحَافِرُونَ نُقُوشَ الْخَوَاتِمِ، الْجَاهِدُونَ فِي تَنْوِيعِ الأَشْكَالِ، الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ فِي تَمْثِيلِ الصُّورَةِ بِأَصْلِهَا، وَسَهَرُهُمْ فِي اسْتِكْمَالِ صَنْعَتِهِمْ. 29وَكَذلِكَ الْحَدَّادُ الْجَالِسُ عِنْدَ السَّنْدَانِ، الْمُكِبُّ عَلَى صَوْغِ حَدِيدَةٍ ضَخْمَةٍ، يُصَلِّبُ وَهَجُ النَّارِ لَحَمَهُ، وَهُوَ يُكَافِحُ حَرَّ الْكِيرِ. 30صَوْتُ الْمِطْرَقَةِ يَتَتَابَعُ عَلَى أُذُنَيْهِ، وَعَيْنَاهُ إِلَى مِثَالِ الْمَصْنُوعِ. 31قَلْبُهُ فِي إِتْمَامِ الْمَصْنُوعَاتِ، وَسَهَرُهُ فِي تَزْيِينِهَا إِلَى التَّمَامِ. 32وَهكَذَا الْخَزَّافُ الْجَالِسُ عَلَى عَمَلِهِ، الْمُدِيرُ دُولاَبَهُ بِرِجْلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَزَالُ مُهْتَمًّا بِعَمَلِهِ، وَيُحْصِي جَمِيعَ مَصْنُوعَاتِهِ. 33بِذِرَاعِهِ يَعْرُكُ الطِّينَ، وَأَمَامَ قَدَمَيْهِ يَحْنِي قُوَّتَهُ. 34قَلْبُهُ فِي إِتْقَانِ الدِّهَانِ، وَسَهَرُهُ فِي تَنْظِيفِ الأَتُونِ. 35هؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى أيْدِيهِمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ حَكِيمٌ فِي صِنَاعَتِهِ. 36بِدُونِهِمْ لاَ تُعْمَرُ مَدِينَةٌ. 37لاَ يَأْوُونَ الْمُدُنَ، وَلاَ يَتَمَشَّوْنَ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَمَاعَةَ، 38وَلاَ يَجْلِسُونَ عَلَى مِنْبَرِ الْقَاضِي، وَلاَ يَفْقَهُونَ فُنُونَ الدَّعَاوِي، وَلاَ يَشْرَحُونَ الْحُكْمَ وَالْقَضَاءَ، وَلاَ يَضْرِبُونَ الأَمْثَالَ. 39لكِنَّهُمْ يُصْلِحُونَ الأَشْيَاءَ الدَّهْرِيَّةَ، وَدُعَاؤُهُمْ لأَجْلِ عَمَلِ صِنَاعَتِهِمْ، خِلاَفًا لِمَنْ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي شَرِيعَةِ الْعَلِيِّ.
ع25: الكاتب هو من يهتم بكتابة ونسخ المواضيع والأحاديث الهامة، والمقصود هنا بالأكثر هو كاتب أسفار الكتاب المقدس، وأسفار الشريعة، فيعرف شريعة الله، ويفهمها ويتأمل فيها. وإن كان يحب الحكمة، ففى وقت فراغه، سيقرأ ويتأمل، ويتعلم ويتتلمذ، ويتدرب حتى يتقن الحكمة.
وكذلك من يعمل لمدة قليلة في أية حرفة، أو عمل، يكن له وقت أطول، يستطيع أن يستغله – مادام محباً للحكمة – في السعي للحصول عليها، وأيضاً كل من يسعَ لاقتناء الحكمة سيفرغ وقتاً لها، ويقلل مشاغله قدر الإمكان ليتفرغ للحكمة.
والخلاصة، أن الحكمة أمر عظيم جداً، ويحتاج لوقت طويل حتى يقتنيها الإنسان.
ع26 ، 27: المحراث : آلة زراعية لتقليب التربة وعمل خطوط فيها وتنقيتها من الحشائش.
المنخس : قضيب من الخشب، أو الحديد طرفه مدبب، ينخس به الحيوان فى مؤخرته، فيسرع في المشيء أو الجري.
يتردد : يواصل.
العجال : العجول.
يتعجب ابن سيراخ من الفلاح المنشغل بالزراعة، والذى يركب على المحراث، والآلات الزراعية المختلفة اللازمة لزراعة الأرض، ويفتخر أن له منخساً يحرك به الحيوانات التي يركبها؛ لتجري سريعاً؛ حتى يكمل أعماله.
وإلى جانب الأعمال الزراعية يهتم بتربية البقر والثيران؛ ليستخدمها فى أعماله الزراعية، ويأخذ منها اللبن ومنتجاته، والعجول (أبناء الثيران) ليبيعها، فهو مشغول بالنباتات التي يزرعها في خطوط حقله، ومشغولاً أيضاً بتسمين العجول لتكبر، ويبيعها، أو يستخدمها في أعماله ومنتجاته.
كل هذه الأعمال ستشغل الفلاح طوال النهار، ويحتاج أن يستريح عند المساء ليأكل ويشرب، ثم ينام ليستيقظ مبكراً لأعماله، وبالتالي ليس عنده وقت لاقتناء الحكمة.
ع29 – 31 : السندان : كتلة حديد صلب مثبتة على قاعدة، يطرق عليها الحداد الحديد الساخن لتشكيله.
المكب : المنهمك والمنشغل.
يصلب .. لحمه : يجعل لحمه وجلده يابساً وجافاً.
وهج النار : شدة اشتعال النار.
الكير : الفرن
مثال آخر للمنشغلين بأعمال الحياة، حرفة الحدادة، فالحداد يجلس أمام السندان، ليطرق عليه قطعة حديد ساخنة، حتى يشكلها بالشكل الذي يريده، وفيما هو جالس أمام السندان، وكذلك الفرن الذي يضع فيه الحديد، ليصير ساخناً، ثم يطرقه على السندان، تجعل حرارة النار لحمه جافاً يابساً.
وفيما هو يطرق الحديد على السندان يسمع هذه الطرقات المتوالية، وعيناه تنظران إلى النموذج الذي أمامه، والذي يريد أن يصنع مثله من قطعة الحديد.
وقلب الحداد يكون منشغلاً في إتمام تشكيل هذه القطعة الحديدية، حتى يتم صنعها وتشكيلها.
كل هذا الانشغال على مدى ساعات اليوم يجعله غير متفرغ لتعلم الحكمة، بل لإتمام مصنوعاته، وبعد هذا يستريح قليلاً؛ ليأكل، ويشرب، ثم ينام، وبعد ذلك يصحو ليبدأ يوماً جديداً في نفس نشاطه.
ع32 – 34 : المدير : الذي يجعل الآلة تدور.
دولابه : الآلة التي يعمل عليها الخزاف لتشكيل قطعة الطين الخزفي بالشكل الذي يريده.
يعرك : يعجن.
يحنى قوته: يجعل الطين مرناً قابلاً للتشكيل.
الأتون : الفرن
وأيضاً مثال جديد للصانع المنشغل بصناعته، هو الخزاف، الذي يحرك دولابه برجليه، وكل اهتمامه في إتمام عمله، أي تشكيل الخزف، وإنتاج العدد المطلوب منه.
ويستخدم يديه في تشكيل الطين، وبتدوير الآلة بقدميه، يصبح الطين سهل التشكيل بين يديه.
وبعد تشكيل الخزف بالشكل الذي يريده، يهتم أن يدهنه بالدهانات المناسبة، وبعد الانتهاء من عمله يسهر لينظف الفرن الذي كان يضع الخزف فيه.
بعد العمل طول النهار حتى الليل، لا يبقى وقت للخزاف إلا أن يأكل وينام، ولا يجد عنده وقتاً لاكتساب الحكمة.
ع35 ، 36 : هؤلاء الحرفيون، أو الصناع؛ سواء الفلاح، أو الحداد، أو الخزاف، وغيرهم من أصحاب الحرف يعملون بأيديهم، وحرفهم هامة جداً لقيام الحياة في الدول المختلفة، فلهم دور أساسي في حياة المجتمعات، ولا يمكن الاستغناء عنهم، ولكن ليس عندهم وقت للانشغال بالحكمة التي تخصص فيها فئات أخرى من المجتمع، ولكن يمكنهم أن يحيوا بالحكمة الإلهية التي تجعلهم يحبون الله، ويصلون، ويعيشون بكلام الله. من الصناع نذكر هؤلاء الذين كانوا مع بصلئيل وأهولياب الذين صنعوا خيمة الاجتماع بمهارة ودقة، وبركة الله، كما رسم الله لموسى وعلمه على الجبل (خر36 : 2).
ع37 ، 38 : يأوون : يسكنون.
يفقهون : يفهمون.
الدعاوى : المشاكل التي تقدم للقاضي.
هؤلاء الصناع السابق ذكرهم منشغلون في صناعتهم بجوار المدن، وفي أطرافها، فلا يسكنون في وسط المدن، حيث تتواجد جماعات الناس في المحاكم، ولا يعملون كقضاة، أو مشيرين، أو حكماء يعلمون الناس.
ع39 : الأشياء الدهرية : الصناعات والحرف التي يحتاجها المجتمع على مدى الأجيال.
الخلاصة، أن الحرفيين يقومون بأعمال يحتاجها المجتمع على مدى الدهور، ويدعون ويصلون لينجح الله أعمالهم، فهم يعيشون مع الله، وعلى قدر اهتمامهم بتوبتهم وصلواتهم، وتطبيقهم لشريعة الله، يفرح الله بهم، ويباركهم.
هؤلاء الحرفيون يختلفون عن الذين تخصصوا فى كتابة وقراءة وتعلم شرائع الله، وتعليمها للآخرين؛ سواء من الكتاب، أو الكهنة، أو اللاويين، أو معلمي الشريعة، الذين أُشير إليهم في (ع25). كن أميناً في عملك، وتخصصك لترضي الله، ولا تنسَ علاقتك الشخصية مع الله من خلال ارتباطك بالأسرار المقدسة، وجهادك داخل مخدعك في صلواتك وقراءتك، وكل ما يتصل بها.