صلاة عن كيفية اقتناء الحكمة
(1) تسبحة الله (ع1-17):
1صَلاَةُ يَشُوعَ بْنِ سِيرَاخَ: أَعْتَرِفُ لَكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الْمَلِكُ وَأُسَبِّحُ اللهَ مُخَلِّصِي. 2أَعْتَرِفُ لاِسْمِكَ، لأَنَّكَ كُنْتَ لِي مُجِيرًا وَنَصِيرًا، 3وَافْتَدَيْتَ جَسَدِي مِنَ الْهَلاَكِ، وَمِنْ شَرَكِ سِعَايَةِ اللِّسَانِ، وَمِنْ شِفَاهِ مُخْتَلِقِي الزُّورِ، وَكُنْتَ لِي نَاصِرًا تُجَاهَ الْمُقَاوِمِينَ، 4وَافْتَدَيْتَنِي بِرَحْمَتِكَ الْغَزِيرَةِ وَاسْمِكَ، مِنْ زَئِيرِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلاِفْتِرَاسِ. 5مِنْ أَيْدِي طَالِبِي نَفْسِي، وَمِنْ مَضَايِقِيَ الْكثِيرَةِ. 6مِنَ الاِخْتِنَاقِ بِاللَّهِيبِ الْمُحِيطِ بِي، وَمِنْ وَسَطِ النَّارِ حَتَّى لاَ أَصْلَى. 7مِنْ عُمْقِ جَوْفِ الْجَحِيمِ، وَمِنَ اللِّسَانِ الدَّنِسِ، وَكَلاَمِ الزُّورِ، وَسِعَايَةِ اللِّسَانِ الجَائِرِ عِنْدَ الْمَلِكِ. 8دَنَتْ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ، 9وَاقْتَرَبَتْ حَيَاتِي مِنْ عُمْقِ الْجَحِيمِ. 10أُحِيطَ بِي مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَلاَ نَصِيرَ. اِلْتَفَتُّ لإِغَاثَةِ النَّاسِ فَلَمْ تَكُنْ. 11فَتَذَكَّرْتُ رَحْمَتَكَ، أَيُّهَا الرَّبُّ، وَصَنِيعَكَ الَّذِي مُنْذُ الدَّهْرِ: 12كَيْفَ تُنْقِذُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَكَ، وَتُخَلِّصُهُمْ مِنْ أَيْدِي الأُمَمِ؟ 13فَرَفَعْتُ مِنَ الأَرْضِ صَلاَتِي، وَتَضَرَّعْتُ لأُنْقَذَ مِنَ الْمَوْتِ. 14دَعَوْتُ الرَّبَّ أَبَا رَبِّي، لِئَلاَّ يَخْذُلَنِي فِي أَيَّامِ الضِّيقِ، فِي عَهْدِ الْمُتَكَبِّرِينَ الْخَاذِلِينَ لِي. 15إِنِّي أُسَبِّحُ اسْمَكَ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأُرَنِّمُ لَهُ بِالاِعْتِرَافِ، لأَنَّ صَلاَتِي قَدِ اسْتُجِيبَتْ. 16فَإِنَّكَ قَدْ خَلَّصْتَنِي مِنَ الْهَلَكَةِ، وَأَنْقَذْتَنِي مِنْ زَمَانِ السُّوءِ. 17فَلِذلِكَ أَعْتَرِفُ لَكَ وَأُسَبِّحُكَ، وَأُبَارِكُ اسْمَ الرَّبِّ.
ع1: هذه الصلاة الجميلة يقدمها يشوع بن سيراخ لله، فيقول : اعترف لك أيها الرب، الملك على كل الأرض، وكل الخليقة، والذى يملك على قلبى، اعترف أمامك بإحساناتك وعظمتك، وأمجدك، وأسبحك، وأترنم لك؛ لأنه خلصتنى من ضيقات كثيرة، بل أنت مخلصى فى كل حين؛ لذلك أسبحك على الدوام.
ع2: مجيراً : منقذاً.
نصيراً : يمنحك النصرة والغلبة.
يواصل ابن سيراخ صلاته، فيعترف بأن الله كان منقذاً له طوال حياته من ضيقات ومشاكل كثيرة.
وأيضاً ساعده الله على النصرة على من يقف أمامه، ويعاديه، بل والنصرة بالأكثر على الشياطين التى تحاول تعطيله عن الحياة مع الله، وعن الحكمة وتعليم الآخرين، وإرشادهم فالشيطان يحاول أن يعطل كل عمل صالح، ولكن الله ينصر أولاده عليه.
ع3: يظهر من هذه الآية أن يشوع بن سيراخ تعرض لمشكلة خطيرة، ووشاية كاذبة عند الملك، كما يظهر من (ع7)، ولكن الله أنقذه؛ لذا يقول له :
“افتديت جسدى من الهلاك” : أى أنقذه الله من الموت.
“شرك سعاية اللسان” : أنقذه الله أيضاً من مصيدة “شرك”، صنعها الأشرار له باتهامات زور، يعبر عنها بأنها سعاية اللسان، وكادت أن تهلكه لو صدقها الملك.
“شفاه مختلقى الزور” : ويتضح من هذه المشكلة أن عدداً من الأشرار الكذابين ادعوا اتهامات باطلة على ابن سيراخ، وشهدوا زوراً عليه بأمور لم يفعلها.
“كنت لى ناصراً تجاه المقاومين” : تجلت قوة الله ورحمته فى أنه أنقذ ابن سيراخ، ونصره على الأشرار الذين قاوموه، فخلصه من أيديهم.
وهكذا نرى أن الله أحياناً يسمح بضيقات شديدة لأولاده، وعندما ينسحقون أمامه باتضاع وصلوات كثيرة، يخلصهم منها، فيمجدون الله ذو القدرة والعظمة.
ع4: زئير : صوت الأسد.
أنقذ الله ابن سيراخ من الهلاك، وافتداه، أى أعطاه حياة جديدة، بعد أن كان معرضاً للموت. ويعترف ابن سيراخ لله بأن هذا الإنقاذ كان من رحمة الله ومن أجل اسمه القدوس، وليس من أجل صلاح ابن سيراخ. وهذا يبين :
- اتضاع ابن سيراخ.
- ايمان ابن سيراخ بالله ورحمته.
- تمجيده لاسم الله القدوس، الذى يحفظه وينقذه دائماً.
يشبه ابن سيراخ أكاذيب المقاومين له وشهادات الزور بأنها قوية، مثل زئير الأسد، ولكن الله أقوى من كل شر الشياطين التى يصفها بطرس الرسول فى العهد الجديد : أن الشيطان خصمنا كأسد زائر (1بط5: 8)، فهو بهذا يمجد الله الذى هو أقوى من الشيطان ومن كل شر، وقادر على إنقاذنا من كل عمل شرير.
ع5: يستكمل ابن سيراخ صلاته، فيمجد الله الذى أنقذه من أيدى الأشرار، الذين طلبوا إهلاك نفسه، ومن المضايقات الكثيرة التى ضايقه بها هؤلاء الأشرار.
ع6: إن مضايقة الأعداء المقاومين لابن سيراخ كانت شديدة جداً؛ حتى أنه شبهها بنار عظيمة ملتهبة، تخرج منها حرارة ودخان كثير، حاول الأشرار بها أن يخنقوا ويقتلوا ابن سيراخ.
كل هذه المضايقات التى تشبه النيران، كانت محاولات لمضايقة ابن سيراخ، وإبعاده عن الصلاة لله، ولكنه أصر على مواصلة الصلاة، فنجاه الله، كما نجى الفتية من أتون النار.
ع7: الجائر : الظالم.
يشبه ابن سيراخ الشر الذى وجهه إليه هؤلاء المقاومين بأنهم حاولوا التخلص منه، وإهلاكه، ولكن الله أنقذه من جوف الجحيم، الذى حاولوا إلقاءه فيه.
وبهذا أنقذه الله من لسان الأشرار المملوء دنساً، أى شراً وقذارة؛ هى قذارة الخطية، والكلام الكذب، أى شهادة الزور، ومن اللسان الظالم، للذين حاولوا إهلاكه.
وكان شر المقاومين شديداً، إذ كانت اتهاماتهم الزور، ليس عند أحد الرؤساء، بل عند الملك نفسه، الذى له السلطان الكامل أن يهلك ابن سيراخ، ولكنهم نسوا أن فوق الملك يوجد الله ملك الملوك، الذى صلى إليه ابن سيراخ، فأنقذه من أيديهم.
ع8، 9: دنت : اقتربت.
يعبر ابن سيراخ فى صلاته عن مشاعره أثناء هذه الضيقة، بأنه شعر باقترابه إلى الموت، وإلى عمق الجحيم، ولكن كان له رجاء فى الله، الذى أنقذه فى النهاية.
ع10: نصير : معين.
إغاثة : نجدة.
يواصل ابن سيراخ شرح مشاعره فى هذه الصلاة، بأنه أثناء ضيقته، شعر بأن الأشرار يحيطون به من كل جانب، ولم يجد إنساناً يسنده، أو ينصره عليهم.
ونظر حوله إلى الناس لينقذوه، وينجدوه، فلم يجد أية معونة، فلم يكن أمامه إلا التعلق بالله، القادر على كل شئ، والمنقذ أولاده. وبهذا نرى صعوبة الضيقة، وعجز المحيطين بالإنسان عن مساعدته، فيتجلى عمل الله، فيشكره الإنسان ويمجده.
ع11، 12: وسط الضيقة الصعبة تذكرت رحمتك؛ لأنها هى الملجأ الوحيد لى يا رب، والحصن القوى الذى لا يقهر.
وتذكرت كيف تنقذ أولادك الصارخين إليك، وينتظرونك؛ لتخلصهم من أيدى الأمم التى تحيط بهم، كما خلصت شعبك مراراً كثيرة، سواء كانوا فى برية سيناء من أيدى عماليق، أو فى أرض كنعان من جيرانهم الذين يقومون عليهم. وبالتالى فأنت القادر اليوم أن تخلصنى من أيدى من يقاوموننى ويريدون إهلاكى.
ع13: حينئذ عندما تذكرتك يا رب، يا إلهى وقوتى، رفعت صوتى بالصلاة إليك لتخلصنى من الموت. ومن شدة تذللى واتضاعى فى الأرض، ارتفعت عيناى نحو السماء إليك يا إلهى؛ لتخلصنى.
ع14: يخذلنى : يتخلى عنى ويتركنى.
دعوت الله الذى أشعر بدالة نحوه، فأناديه أبا ربى، أبى الذى هو ربى، مثل تعبير يا أب الآب الذى هو أبا الآب (مر14: 36؛ غل4: 6). وعندما تكلمت بهذه الدالة معك يا ربى شعرت بثقة أنك لا يمكن أن تتخلى عنى، وتخذلنى فى ساعة ضيقتى. فإن كان أحبائى قد خذلونى ، وتكبروا، وقاموا علىَّ، وسببوا لى هذه الضيقة، لكن أنت يا الله أبى، الذى لا يمكن أن تتخلى عنى، وأنت قادر أن تنقذنى من أيديهم.
وتعبير أبا ربى، قد يكون نظرة إلى المستقبل فى العهد الجديد، فأشعر بالله أبى المسيح، أى أقنوم الآب.
ع15: لقد شعرت عندما رفعت قلبى إليك يا رب، وطلبتك أنك استجبت لى، قبل أن يظهر أى دليل على استجابتك، لكنى واثق أنك لا يمكن أن تتركنى؛ لذا فأنا أسبحك وأشكرك على ما ستصنعه معى، وأعترف لاسمك العظيم بالقدرة والحب الذى تشمل به أولادك.
ع16: الهلكة : المهلكين.
فإنك يا رب خلصتنى، وأنقذتنى من أيدى من أرادوا إهلاكى، وقتلى، وأخرجتنى من وقت الشدة وإساءات الناس إلىَّ؛ لأحيا فى راحة وطمأنينة بين يديك.
ع17: من أجل هذا يا رب أعترف بعظمتك، وقدرتك، وأبوتك، وأسبح اسمك القدوس، الذى ينتشل أولاده من الهلاك، ثم أظل أبارك اسمك على الدوام، الذى يحمينى، ويعتنى بى، ويعطينى كل بركة احتاج إليها.
من هذه الصلاة نشعر بصفات جميلة فى ابن سيراخ وهى :
- إيمانه بقوة الله حتى قبل أن تنتهى الضيقة.
- ثباته أثناء الضيقات.
- إسراعه إلى الصلاة وطلب الله.
- ميله للتسبيح والشكر، والاعتراف بأفضال الله.
مهما أحاطت بك الضيقات، لا تنزعج، ولا تقلق، لكن أسرع إلى الله أبوك الحنون، فهو قادر أن يحمل عنك أتعابك، وينجيك من كل شدة، فتحيا معه فى راحة.
[2] كيف اقتنى ابن سيراخ الحكمة (ع18-30) :
18فِي صَبَائِي قَبْلَ أَنْ أَتِيهَ، الْتَمَسْتُ الْحِكْمَةَ عَلاَنِيَةً فِي صَلاَتِي. 19أَمَامَ الْهَيْكَلِ ابْتَهَلْتُ لأَجْلِهَا، وَإِلَى أَوَاخِرِي أَلْتَمِسُهَا. فَأَزْهَرَتْ كَبَاكُورَةِ الْعِنَبِ. 20ابْتَهَجَ بِهَا قَلْبِي، وَدَرَجَتْ قَدَمِي فِي الاِسْتِقَامَةِ، وَمُنْذُ صَبَائِي جَدَدْتُ فِي إِثْرِهَا. 21أَمَلْتُ أُذُنِي قَلِيلًا وَوَعَيْتُ، 22فَوَجَدْتُ لِنَفْسِي تَأْدِيبًا كَثِيرًا، وَكَانَ لِي فِيهَا نُجْحٌ عَظِيمٌ. 23إِنَّ الَّذِي أَتَانِي حِكْمَةً، أُوتِيهِ تَمْجِيدًا، 24فَإِنِّي عَزَمْتُ أَنْ أَعْمَلَ بِهَا، وَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى الْخَيْرِ، وَلَسْتُ أَخْزَى. 25جَاهَدَتْ نَفْسِي لأَجْلِهَا، وَفِي أَعْمَالِي لَمْ أَبْرَحْ مُتَنَطِّسًا. 26مَدَدْتُ يَدَيَّ إِلَى الْعَلاَءِ، وَبَكَيْتُ عَلَى جَهَالاَتِي. 27وَجَّهْتُ نَفْسِي إِلَيْهَا، وَبِالطَّهَارَةِ وَجَدْتُهَا. 28بِهَا مَلَكْتُ قَلْبِي مِنَ الْبَدْءِ؛ فَلِذلِكَ لاَ أُخْذَلُ. 29وَجَوْفِيَ اضْطَرَبَ فِي طَلَبِهَا؛ فَلِذلِكَ اقْتَنَيْتُ قُنْيَةً صَالِحَةً. 30أَعْطَانِيَ الرَّبُّ اللِّسَانَ جَزَاءً؛ فَبِهِ أُسَبِّحُهُ.
ع18: صبائى : عندما كنت صغيراً.
أتيه : المقصود أسفاره، ورحلاته التى قام بها.
يبدأ هنا يشوع بن سيراخ الكلام عن الحكمة فى اتجاهين: هما كيفية اقتنائها،، ودعوة الناس للحكمة، ورتب قصيدته هذه على الحروف الأبجدية العبرية بما يساعد القارئ العبرى على عدم نسيان أى جزء من القصيدة.
فى هذا الجزء من القصيدة يُظهر لنا كيف نقتنى الحكمة، فيقول ابن سيراخ عن نفسه: أنه عندما كان شاباً صغيراً، وقبل أن يبدأ فى رحلاته الكثيرة التى استفاد منها، ونال معرفة وحكمة كثيرة، طلب من الله فى صلاته علانية، وبوضوح أن ينال الحكمة. وإذ طلبها من قلبه، أعلن اشتياقاته لله الرحيم الذى لا يبخل على أولاده، وطالبيه، فأعطاه الكثير من الحكمة.
ع19: ابتهلت : توسلت وترجيت.
وقفت أمام هيكل الرب، وابتهلت لأجل نوال الحكمة؛ طلبتها باتضاع من الرب لأنى مشتاق إليها، ومن شدة اشتياقى وجدت قلبى مستمراً فى طلبها طوال حياتى؛ لأن من يحب الحكمة يشعر بجوع وعطش مستمر إليها، ممزوج بالفرح والشبع بشكل يفوق العقل؛ لأن الحكمة هى الله، ومن يجوع إليها يشبع، ومن يعطش إليها يرتوى، ويتولد فى داخله حنين مستمر إلى الحكمة.
ولأنى طلبت الحكمة اشتقت إليها، واستمر قلبى يطلبها على الدوام، فتمتعت برؤية أزهار الحكمة، التى هى فضائلها وبركاتها اللذيذة جداً، مثل العنب الذى يظهر فى بداية الموسم، الذى هو باكورة العنب.
من هذا يُفهم أن ابن سيراخ يهتم بالصلاة، وطلب الحكمة أمام الهيكل، وبالطبع اهتم أن يصلى فى مخدعه. وهذه الصلوات لا تعطيه الحكمة فقط، ولكن تزيد أشواقه إليها، فيتمتع بعملها فى حياته، ويتلذذ بها.
ع20: درجت : صعدت درجات السلم (الدرج).
جددت : سعيت باهتمام.
إثرها : وراءها.
عندما تذوقت بركات وحلاوة الحكمة، ابتهج قلبى بها وفرح.
وهذا دفعنى إلى صعود سلم الحكمة، الذى احتاج إلى جهاد ومثابرة فى طريق الله المستقيم.
وهكذا نرى ابن سيراخ يجاهد لاقتناء الحكمة منذ شبابه، فيسعى وراء الحكمة؛ ليتعلمها بكل اهتمام. وهذا تشجيع لكل الشباب؛ حتى يسعوا فى طلب الحكمة، فيقتنوها كهبة من الله، الذى يعطيها لكل مجتهد.
ع21: أملت أذنى تعنى حسن الإنصات، وأيضاً الاتضاع. فإلى ماذا أمال ابن سيراخ أذنه؟ إلى شريعة الله، وتعلم وصاياه، وكل تعليم روحى سمعه فى هيكل الله، وإلى كل تعليم حكمة سمعه من الشيوخ السابقين له.
وكذا وعى ابن سيراخ كل ما سمعه، وتعلمه، أى أدرك وفهم ما سمعه وحفظه فى ذهنه؛ ليحيا به.
ع22: نجح : نجاح.
عندما تفهم ابن سيراخ كلام الحكمة، وجد فيها تعليماً محدداً وتأديباً يبعده عن الخطية، ويسير به فى الطريق المستقيم، فتقدم فى طريق القداسة، وحقق نجاحاً كبيراً.
ع23: أوتيه : أعطيه.
أمام محبة الله، وعطائه السخى، الذى أعطانى الحكمة، لا أجد أمامى إلا الشكر والتسبيح، والتمجيد لعظمته؛ هذا كل ما يستطيعه الإنسان أمام محبة الله التى تفوق العقل.
ع24: إذ نال ابن سيراخ الحكمة من الله، قرر بكل قلبه أن يعمل بها؛ حتى لا تكون مجرد معلومات يحتفظ بها فى عقله، بل تطبيقات وحياة، يتمتع بها هو وكل من حوله.
وهكذا أصبح ابن سيراخ، بتطبيقه الحكمة، يصنع خيراً على الدوام، وتعوَّد عليه، حتى صار حريصاً على صنع الخير كل حين، ولم يكن يخجل من فعل الخير، إذا قاومه الأشرار، والجهلاء.
ع25: متنطساً : ماهراً، مدققاً.
لم أبرح : مازلت.
من أجل حلاوة الحكمة، وعظمتها، جاهدت كثيراً لاقتنائها، بل وأكثر من هذا، كنت أغصب نفسى فى السعى للوصول إليها.
وقادنى هذا السعى أن أحرص فى كل أعمالى على طلب الحكمة، والتدقيق فى البحث عنها؛ لأكون ماهراً فى تطبيقها أثناء حياتى.
وهكذا صارت أعمالى فى حكمة كل وقت.
ع26: نرى هنا صورة أخرى لابن سيراخ المصلى، إذ رفع يديه إلى الله فى تضرع، وانسحاق؛ لأنه رأى الحكمة التى فحصته، فاكتشف خطاياه الكثيرة، وأخذ يبكى عليها فى توبة، وهذا الفعل من أهم أفعال الحكمة؛ تبكيت الإنسان عندما يحاسب نفسه، فتقوده إلى التوبة والنقاوة.
بالتالى يُفهم من هذه الآية أن الإنسان المنغمس فى الخطية، والمتمسك بها فى حماقة، لا تعمل فيه الحكمة، ولا يتوب بواسطتها؛ لأنه منشغل عنها، ومستسلم لشهواته، وكل ما يقوده الشيطان فيه.
ع27: استمر ابن سيراخ ينظر إلى الحكمة، بل يوجه نفسه إليها، كهدف واضح له، فكتشف أنه كلما حرص على الطهارة والنقاوة، تظهر له الحكمة، فيعرفها ويفهمها، وتزداد أشواقه إليها.
ع28: أخذل : أترك.
بالحكمة استطعت أن امتلك قلبى، فاضبط مشاعرى، وأخضعها لله، فصار لى قلباً طاهراً، وأصبح من السهل علىَّ أن أرى الله، فلا أخذل من الله فى شئ، بل على العكس سكن فى داخلى، وتمتعت بعشرته ومساندته.
ع29: تحرك ابن سيراخ، ليس فقط بجسده، بل بجوفه وأعماقه، فكل كيانه تحرك فى طلب الحكمة، فنالها، وهى أعظم شئ يقتنيه (يمتلكه) فى الحياة؛ لأن الحكمة هى الله، ومن اقتنى الله فى داخله، فقد اقتنى كل شئ، وعاش مطمئناً، سالكاً فى الطريق المستقيم، وساعياً نحو الملكوت السماوى.
ع30: جزاء : مكافأة.
الله أعطانى نعمة، ومكافأة من عنده؛ هى اللسان، الذى يميل إلى كلام الحكمة، فصرت فى فرح عظيم، ولم أجد أمامى إلا شكر الله، وتسبيح اسمه القدوس، الذى يعطى بسخاء، ولا يعير.
إن عرفت طريق الصلاة، وتعودتها، فقد وصلت إلى الله، ونلت الحكمة والنجاح، ليس فقط فى حياتك على الأرض، بل تنتظرك السعادة الأبدية.
(3) دعوة لاقتناء الحكمة (ع31-38) :
31اُدْنُوا مِنِّي، أَيُّهَا الْغَيْرُ الْمُتَأَدِّبِينَ، وَامْكُثُوا فِي مَنْزِلِ التَّأْدِيبِ. 32لِمَاذَا تَتَقَاعَدُونَ عَنْ هذِهْ، وَنُفُوسُكُمْ ظَامِئَةٌ جِدًّا؟ 33إِنِّي فَتَحْتُ فَمِي وَتَكَلَّمْتُ. دُونَكُمْ كَسْبًا بِلاَ فِضَّةٍ. 34أَخْضِعُوا رِقَابَكُمْ تَحْتَ النِّيرِ، وَلْتَتَّخِذْ نُفُوسُكُمُ التَّأْدِيبَ؛ فَإِنَّ وِجْدَانَهُ قَرِيبٌ. 35اُنْظُرُوا بِأَعْيُنِكُمْ كَيْفَ تَعِبْتُ قَلِيلًا؛ فَوَجَدْتُ لِنَفْسِي رَاحَةً كَثِيرَةً. 36نَالُوا التَّأْدِيبَ كَمِقْدَارٍ كَثِيرٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَاكْتَسِبُوا بِهِ ذَهَبًا كَثِيرًا.
37لِتَبْتَهِجْ نُفُوسُكُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَلاَ تَخْزَوْا بِمِدْحَتِهِ. 38اِعْمَلُوا عَمَلَكُمْ قَبْلَ الأَوَانِ؛ فَيُؤْتِيَكُمْ ثَوَابَكُمْ فِي أَوَانِهِ.
ع31: إدنو : اقتربوا.
بعد أن تمتع ابن سيراخ بلذة الحكمة، نظر بأبوة إلى كل أولاده، أى شعبه المحيط به فى أبوة عجيبة، وطالبهم أن يقتربوا إليه، ما داموا يعانون من الخطية والحماقة، لكيما يتعلموا التأديب، فليلتحقوا، ويستقروا فى منزل الحكمة، أى المدرسة التى افتتحها لتعليم الحكمة.
من هذا نفهم أن اقتناء الحكمة يحتاج إلى تلمذة لمدة طويلة، وهى ليست فقط معلومات، بل حياة كاملة، يستلمها التلميذ من المعلم، كما فعل ابن سيراخ، فقد عاش مع أولاده، يعلمهم الحكمة بسلوكه لا بكلامه فقط. وهكذا أيضاً فعل المسيح عندما تلمذ إثنا عشر تلميذاً أكثر من ثلاث سنوات، فى حياة كاملة مشتركة، واقتدى به القديس مارمرقس فى مصر، عندما أنشا مدرسة الإسكندرية اللاهوتية الأولى، التى كان يحيا فيها المدرس مع تلاميذه، مثل بونتينوس، واكليمنضس السكندرى وأوريجانوس وديديموس الضرير.
ع32: تتقاعدون : تتكاسلون.
ظامئة : عطشانة.
خاطب ابن سيراخ طالبى الحكمة بحزم، فقال لهم لماذا تتكاسلون عن اقتناء الحكمة، وأنتم فى عطش واضح إليها؟ فمن هو عطشان، فليسرع إلى الحكمة؛ ليشرب منها، ويرتوى. فهو تشجيع واضح من ابن سيراخ أن يظهر لطالبى الحكمة أمرين :
- احتياجهم الواضح إلى الحكمة.
- تكاسلهم، وتهاونهم فى السعى نحو الحكمة.
والحل هو الالتحاق السريع بمدرسة الحكمة. فهو جرئ فى كلامه؛ لأنه لا يطلب شيئاً لنفسه، بل مصلحة أولاده.
ع33: دونكم : أمامكم.
قال ابن سيراخ لطالبى الحكمة : إنى فتحت فمى أمامكم؛ لأعلن لكم أن تعليم الحكمة التى سأقوم بها فى مدرستى سيكون بلا فضة، أى بلا مقابل، فتكسبون الحكمة، وتنالونها كنعمة من الله مجانية، وذلك يحمل معنيين :
- أن ابن سيراخ لا يريد أن يتقاضى أجراً لتعليم الحكمة، باعتبارها أغلى من أن تقدر بمال.
- لكيما يعلم تلاميذه أن يقتدوا به، ويعلموا الآخرين بعد هذا. بدون أجر؛ لينشروا الحكمة بين الناس، ولا يتعطل الفقراء عن اقتناء الحكمة.
ع34: وجدانه : العثور عليه.
النير : خشبة مستعرضة تربط على رقبتى بهيمتين بواسطة حبلين، ويخرج منها خشبة متعامدة على حرف “T”، ويربط فى نهايتها آلة زراعية مثل المحراث، يقف عليها الفلاح لتحرث الأرض.
يطالب ابن سيراخ طالبى الحكمة أن يخضعوا لنيرها، أى احتمال ألم التعليم، ومتاعب تطبيق الحكمة فى الحياة، أى السلوك المستقيم، و الابتعاد عن الشر، فيسهل عليهم أن يجدوا الحكمة، ويقتنوها، بل ويفرحون بها.
ع35: يعطى ابن سيراخ نفسه مثالاً لأولاده طالبى الحكمة، فيقول لهم : لقد رأيتم فى حياتى كيف تعبت قليلاً فى طلب الحكمة، ولكنى وجدت حكمة كثيرة أشبعت حياتى، وأرشدتنى فى كل خطواتى، وأعطتنى راحة وسلام وسط كل متاعب الحياة.
قال هذا ابن سيراخ تشجيعاً لأولاده، ودفعاً لهم؛ ليسعوا لاقتناء الحكمة؛ لينالوا بركاتها الوفيرة.
ع36: نالوا : اكتسبوا.
يطالب ابن سيراخ أولاده المحبين للحكمة، أن يسعوا لنوال تأديب الحكمة، واقتنائها فى حياتهم، مهما تعبوا فى جهد، أو أية نفقات دفعوها، فهى لا تزيد عن كونها فضة، ولكنهم سينالون الحكمة، التى مثل الذهب، أى أغلى بكثير من الفضة.
والفضة ترمز إلى كلمة الله والشريعة، فبحفظ الشريعة، وتنفيذ وصايا الله، ينال الإنسان الذهب الذى يرمز للحياة السماوية، أى ينال الإنسان الملكوت السماوى.
ع37: مدحته : مدح الله وتسبيحه.
إذا اكتسبتم الحكمة، فستفرحون بنوال مراحم الله على الأرض، وفى السماء. وعندما تسبحون الله لن يستطيع الشيطان، أو أى إنسان شرير أن يخزيكم، أو يخجلكم بأية خطية، فستكونون فى قوة وثبات فى الله، الذى يحميكم من شرور كثيرة.
والخلاصة، عندما تسعى نحو الحكمة ستقتنيها وتفرح بها، فتسير فى الطريق المستقيم، وتنال رحمة الله، فتشكره وتسبحه، وهذا يحميك من فخاخ الشياطين.
ع38: دعوة أخيرة يدعو فيها ابن سيراخ محبى الحكمة أن يعملوا أعمال الحكمة قبل أن يأتى الأوان، وهو نهاية العمر، أو يوم الدينونة. وحينئذ سينالون من الله مكافأتهم الأبدية، أى السعادة السماوية فى أوانها، ابتداءً من يوم الدينونة، ثم تمتد إلى الأبد.
لا ترفض مشورة الحكمة، أو أى توجيه روحى يرسله الله لك؛ سواء من أب اعترافك، أو فى الكتاب المقدس، أو بأية طريقة يرسلها الله.