الصديق والمشير
(1) الأصدقاء والمشيرون الأشرار (ع1-14):
1كُلُّ صَدِيقٍ يَقُولُ: «لِي مَعَ فُلانٍ صَدَاقَةٌ»، لكِنْ رُبَّ صَدِيقٍ إِنَّمَا هُوَ صَدِيقٌ بِالاِسْمِ. أَلاَ يُورِثُ الْغَمَّ حَتَّى الْمَوْتِ، 2كُلُّ صَاحِبٍ وَصَدِيقٍ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْعَدَاوَةِ! 3أَيُّهَا الاِخْتِرَاعُ الْمُوبِقُ، مِنْ أَيْنَ هَبَطْتَ فَغَطَّيْتَ الْيَبَسَ خِيَانَةً؟ 4رُبَّ صَاحِبٍ يَتَنَعَّمُ مَعَ صَدِيقِهِ فِي السَّرَّاءِ، وَعِنْدَ الضَّرَّاءِ يُضْحِي لَهُ عَدُوًّا. 5رُبَّ صَاحِبٍ لأَجْلِ بَطْنِهِ يَجِدُّ مَعَ صَدِيقِهِ، وَيَحْمِلُ التُّرْسَ فِي الْحَرْبِ. 6لاَ تَنْسَ صَدِيقَكَ فِي قَلْبِكَ، وَلاَ تَتَغَاضَ عَنْهُ وَأَنْتَ مُوسِرٌ. 7لاَ تَسْتَشِرْ مَنْ يَرْصُدُكَ، وَاكْتُمْ مَشُورَتَكَ عَمَّنْ يَحْسُدُكَ.
8كُلُّ مُشِيرٍ يُبْدِي مَشُورَةً، لكِنْ رُبَّ مُشِيرٍ إِنَّمَا يُشِيرُ لِنَفْسِهِ. 9الْحَذَرَ لِنَفْسِكَ مِنَ الْمُشِيرِ، وَاسْتَخْبِرْ أَوَّلًا عَنْ حَاجَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِمَا يَنْفَعُهُ، 10لِئَلاَّ يُلْقِيَ الْقُرْعَةَ عَلَيْكَ، وَيَقُولَ لَكَ: 11«سَبِيلُكَ حَسَنٌ»، ثُمَّ يَقِفَ تُجَاهَكَ يَنْظُرُ مَاذَا يَحِلُّ بِكَ. 12لاَ تَسْتَشِرِ الْمُنَافِقَ فِي التَّقْوَى، وَلاَ الظَّالِمَ فِي الْعَدْلِ، وَلاَ الْمَرْأَةَ فِي ضَرَّتِهَا، وَلاَ الْجَبَانَ فِي الْحَرْبِ، وَلاَ التَّاجِرَ فِي التِّجَارَةِ، وَلاَ الْمُبْتَاعَ فِي الْبَيْعِ، وَلاَ الْحَاسِدَ فِي شُكْرِ الْمَعْرُوفِ، 13وَلاَ الْجَافِيَ فِي الرِّقَّةِ، وَلاَ الْكَسْلاَنَ فِي شَيْءٍ مِنَ الشُّغْلِ، 14وَلاَ الأَجِيرَ الْمُسَاكِنَ فِي إِنْجَازِ الشُّغْلِ، وَلاَ الْبَطَّالَ فِي كَثْرَةِ الْعَمَلِ. لاَ تَلْتَفِتْ إِلَى هؤُلاَءِ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَشُورَةِ.
ع1، 2 : رب : ربما.
يوجد كثيرون يعلنون صداقتهم لك، ولكن بعضهم يكونون مخلصين، وأمناءً فى محبتهم، والبعض الآخر يكونون بالإسم، أى غير مخلصين، ولا يظهرون وقت الشدة، لكن لهم صورة الصداقة، وليس فعلها.
هؤلاء الأصدقاء بالاسم، يسببون الغم لك؛ لأنك لا تجدهم وقت الشدة؛ لأنهم ليسوا أصدقاءً حقيقيين، ويستمرون فى علاقتهم السطحية معك حتى الموت، إما موتك، أو موتهم، أى لا يتغيرون ويصبحون أصدقاءً حقيقيين، فتتضايق فى كل موقف صعب، إذ يتخلون عنك. مثال ذلك مثل أصدقاء الابن الضال، عندما أنفق كل ما معه، تخلوا عنه وتركوه يعمل فى رعاية الخنازير، ولا يجد ما يكفيه من الطعام.
وإذ ضممنا الجزء الأخير من (ع1) إلى (ع2)، يصبح النص هكذا : “ألا يورث الغم حتى الموت كل صاحب وصديق يتحول إلى العداوة” وهذا النص موجود بهذه الصورة فى نصوص أخرى مثل النص اليسوعى للكتاب المقدس. وهذا معناه أن بعض الأصدقاء ينقلبون إلى العداوة، وهذا يسبب الغم حتى الموت لمن حدث معه ذلك؛ لأنه غير متوقع، فيفاجأ الإنسان بمن يطعنه، وهو ما يبدو صديق، كما حدث من يهوذا الذى خان المسيح أو سلمه لليهود (لو22: 48)، وحدث أيضاً من أخيتوفل مشير داود الذى تركه، وانضم إلى ابنه أبشالوم، الذى قام عليه ليقتله (2صم15: 12).
ع3 : الموبق : المميت والمهلك.
اليبس : اليابسة والمقصود الأرض.
تتعجب هذه الآية من الخيانة؛ خيانة الصديق لصديقه، أى عندما يتحول من صديق إلى عدو، فيصف الخيانة بأنها اختراع مميت، وللأسف انتشر فى الأرض، أى أصبح متكرراً فى أماكن كثيرة.
ع4، 5: السراء : وقت الخير والرخاء.
الضراء : وقت الضيق والشدة.
يضحى : يصبح.
يجد : يجتهد.
الترس : آلة حربية يستخدمها الجندى فى الحرب، وهى قطعة من الخشب لها عروة من الخلف يدخل الجندى يده فيها، ويحركها أمام رأسه وجسده ليحمى نفسه من السهام.
قد يوجد صديق يظهر إخلاصه، واهتمامه بصديقه فى وقت الخير والرخاء، بل يشاركه أتعابه وجهاده، أى يجِّد معه لأجل مصلحته ومنفعته (بطنه) ، بل يحارب معه إذا دخل فى الحرب، ولكن إن حدثت ضيقة لهذا الصديق يتخلى عنه، أى إذا وجد صديقه يخسر ويسقط وينكسر، يهرب ويتركه.
كما حدث من أهل مدينة قعيلة الذين رحبوا بدفاع داود عنهم، وتخليصهم من الفلسطينيين الذين يهجمون عليهم، ولكن عندما علم شاول الملك بوجود داود عندهم، وقرر أن ينزل ليقبض عليهم، كانوا مستعدين أن يسلموا داود له، ولكن داود صلى، فأرشده الله، وهرب هو ورجاله من قعيلة (1صم23: 11).
ع6: تتغاضى : تهمل.
موسر : مقتدر وغنى.
إذا كان لك صديق مخلص لا تنساه، خاصة لو كان فى ضيقة، وإذا كنت أنت فى راحة وغنى، فلا تهمل صديقك إن كان يعانى من أى احتياج. كن بهذا صديقاً حقيقياً مخلصاً، كما كان يوناثان مخلصا لداود، وكما كان داود مخلصاً لابن يوناثان وهو مفيبوشث العاجز (2صم9: 3).
ع7: لا تستشر من يرصدك، أى يراقبك، وهو لا يراقبك ليعتنى بك، ولكن ليصطاد خطأً عليك، أو فرصة ليهاجمك، فهو كالوحش الذى يختبئ ليهجم على فريسته، فلا تلتجئ إلى هذا الإنسان لتستشيره، لأنه لن يعطيك مشورة مخلصة، بل توقعك فى مشاكل.
ومن ناحية أخرى، إن كان هناك إنسان يحسدك، فلا تعطيه مشورة، أو ترشده لشئ لئلا يستخدم هذه المشورة ضدك؛ لأنه عدوك.
والخلاصة، إحترس من أعدائك، لا تستشرهم، ولا ترشدهم، ولكن سامحهم عن أخطائهم، وعاملهم معاملة محدودة، وصلى لأجلهم.
وبهذا يبدأ ابن سيراخ الكلام عن المشير، بعد أن تكلم عن الصديق، فالصديق رفيق فى الطريق، ويمكن أن يكون مشيراً أحياناً، ولكن ليس ضرورياً أن يكون مشيراً، فقد يكون من سنك وليس له خبرة، فلا يصلح مشيراً، أما المشير فيلزم أن يكون مخلصاً، وبلا غرض شخصى، وله خبرة، وعلاقة قوية مع الله.
ع8، 9: جيد أن تستشير، فهذا يبين اتضاعك، واهتمامك بكلمات الحكمة التى تأخذها من فم المشيرين الصالحين، ولكن افحص وتأكد من المشير الذى ستشيره؛ لئلا يكون إنساناً غير روحانى، وأنانياً يشير عليك بما هو لمصلحته، وليس لمصلحتك. فافحص جيداً ما هو احتياج وغرض هذا المشير فى حياته؛ لتعرف هل مشورته لمصلحته، أم لمصلحتك.
والخلاصة، تأكد من أمانة وصدق من تستشيره، فتسير مطمئناً، وتسمع صوت الله، كما يستشير الإنسان أب اعترافه، فيسمع صوت الله داخل السر المقدس.
ع10، 11: يواصل ابن سيراخ كلامه عن فحص المشير، فيقول احذر ممن يلقى القرعة عليك، أى يجعلك تجرب شيئاً ما، فإذا نجحت يعمل مثلك، وإذا فشلت يحترس ويبتعد عن هذا الأمر. إن هذا المشير غير مخلص، ولكنه يجرب الأمر فيك؛ ليستفيد، ولا يرشد لمصلحتك.
ع12-14: المبتاع : المشترى.
الجافى : الغليط والحاد فى التعامل والسلوك.
الأجير المساكن : العامل الموسمى الذى يعمل فترات محددة، ثم يرحل.
البطال : الذى تعطل عن العمل ولا يعمل.
يحذرنا ابن سيراخ أيضاً فيمن نستشيره، فينبغى أن نمتنع عن استشارة هؤلاء فى موضوعات معينة، وهم :
1- المنافق فى التقوى :
المنافق هو الشرير الذى يظهر بخلاف ما فى داخله، ولا يخاف الله، فلا يمكن استشارته فى السلوك المستقيم الذى بحسب مخافة الله، أو أية ممارسات روحية، وتصرفات الأمانة التى يتصف بها أولاد الله.
2- الظالم فى العدل :
إذا كان إنساناً ظالماً، فلا يمكن أن يقول العدل والصدق؛ لأنه لم يتعوده، فلا يمكن استشارته فيما هو العدل، أو الحق فى أى أمر.
3- المرأة فى ضرتها :
توجد غيرة طبيعية بين المرأة وضرتها، وهى الزوجة الثانية التى يرتبط بها زوجها، وهذا كان مسموح به فى العهد القديم. لأن مشورة المرأة ستكون بالطبع ضد ضرتها وليس لمصلحتها، ولن تقول الصدق، أو كيفية التعامل مع الضرة.
4- الجبان فى الحرب :
الجبان بالطبع لن يكون مستعداً للحرب؛ لأنه جبان فكيف نستشيره، نحارب أم لا ؟! أو كيف نحارب ؟ بالطبع لن يفيد، إنه يميل إلى الاختفاء، أو الابتعاد عن الحرب، وإذا دخل الحرب سيشيع الخوف وسط الجنود، فلا يستطيعون أن يحاربوا.
5- التاجر فى التجارة :
لا تستشر التاجر فى أى شئ فى التجارة؛ لأنه سيفكر بأنانية فى نفسه، ويشهد لبضاعته، ويعطيها ثمناً أكبر، ويقلل من ثمن السلع الأخرى التى لا يتاجر فيها.
6- المبتاع فى البيع :
الذى يريد أن يشترى شيئاً، لا تسأله فى أمور الشراء والبيع؛ لأنه سينادى أن تكون السلعة التى يريد أن يشتريها رخيصة؛ لكى يتمكن من شرائها، أما السلع الأخرى ممكن أن ينصح برفع ثمنها لأنها لا تهمه. وإن كان هو نفسه سيبيع شيئاً ينادى بأن يكون ثمنه غالياً، فهو يبحث عن مصلحته، مثل التاجر.
7- الحاسد فى شكر المعروف :
لا تستشر حاسداً فى شكر من عمل أى معروف؛ لأن الحاسد يكره الناس، ويفكر فى نفسه، ويحسد غيره على النعمة التى هو فيها، فلا يشكر أحداً، ولا ينصح بأن يشكر الناس من يعملون معهم.
8- الجافى فى الرقة :
الإنسان الغليظ والصعب فى كلامه وتصرفاته، لا تستشره فى كيفية التعامل بلطافة ورقة، فهو لا يعجبه هذا اللطف، مع أنه ثمرة من ثمار الروح القدس، وسيشير عليك أن تتعامل بغلاظة وشدة وسخافة مع الآخرين.
9- الكسلان فى شئ من الشغل :
بالطبع الكسلان لا يريد أن يعمل شيئاً، ولا يقوم من مكانه، فكيف تستشيره فى أى عمل، إنه سيرفض، وسيقدم حججاً كثيرة معطلة للعمل، وحتى لو بدت منطقية، لكن غرضه منها ألا يعمل، بل ويهبط عزيمتك، وميلك للعمل، فيصيبك الكسل.
10- الأجير المساكن فى إنجاز الشغل :
الذى يعمل عملاً مؤقتاً، تركيزه فى أن ينال أجرته، ثم يعود إلى بيته، ولا يهمه استكمال العمل والوصول للفائدة منه، فكيف تستشيره فى كيفية استكمال أى شغل ؟! وهو سيكون قد ابتعد عن الشغل، ولا يهمه استكماله. والأجير الموسمى لا يهتم أن يتم العمل فى ميعاده، أو بالشكل المطلوب، إذ لا ينسب العمل له فى النهاية، بل لمن أتم العمل، وهو العامل المستديم.
11- البطال فى كثرة العمل :
الذى لا يعمل، كيف نستشيره فى الأعمال الكثيرة، إنه لا يريد أن يعمل، فبالطبع سيرفض العمل الخفيف، أو الكثير.
الخلاصة، كن مميزاً، ولا تستشر إنساناً غير مناسب فى شئ لا يفهمه، أو يرفضه، أو يتعارض مع مصلحته، بل ابتعد عن هؤلاء.
كن مدققاً فى اختيار صديقك، وكذلك من تستشيره؛ حتى تحيا فى هدوء، وتتحاشى اضطرابات كثيرة، وفوق الكل ضع الله صديقاً، ومشيراً تلتجئ إليه فى الصلاة كل يوم، وصورته على الأرض، أب اعترافك، الذى يرشدك لخلاص نفسك.
[2] المشورة الصالحة (15-24) :
15لكِنِ ائْلَفِ الرَّجُلَ الْتَّقِيّ؛ مِمَّنْ عَلِمْتَهُ يَحْفَظُ الْوَصَايَا، 16وَنَفْسُهُ كَنَفْسِكَ، وَإِذَا سَقَطْتَ يَتَوَجَّعُ لَكَ. 17وَاعْقِدِ الْمَشُورَةَ مَعَ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ مُشِيرٌ أَنْصَحُ مِنْهُ، 18لأَنَّ نَفْسَ الرَّجُلِ قَدْ تُخْبِرُ بِالْحَقِّ، أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةِ رُقَبَاءَ يَرْقُبُونَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ. 19وَفِي كُلِّ هذِهِ تَضَرَّعْ إِلَى الْعَلِيِّ، لِيَهْدِيَكَ بِالْحَقِّ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. 20الْكَلاَمُ مَبْدَأُ كُلِّ عَمَلٍ، وَالْمَشُورَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ.
21الْوَجْهُ يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْقَلْبِ. أَرْبَعَةٌ تَصْدُرُ مِنَ الْقَلْبِ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، وَالْمُتَسَلِّطُ عَلَى هذِهِ فِي كُلِّ حِينٍ هُوَ اللِّسَانُ. 22مِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ ذُو دَهَاءٍ، مُؤَدِّبٌ لِكَثِيرِينَ، لكِنَّهُ لاَ يَنْفَعُ نَفْسَهُ شَيْئًا. 23وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْحِكْمَةَ، وَكَلاَمُهُ مَكْرُوهٌ. فَمِثْلُ هذَا يُحْرَمُ كُلَّ قُوتٍ، 24لأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ الْحُظْوَةَ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، إِذْ لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ عَلَى شَيْءٍ.
ع15، 16: إئلف : تقرب واصنع صداقة وألفة.
الرجل التقى هو الذى يخاف الله، ويحفظ وصاياه، فيحب الله، ويراعى ذلك فى سلوكه، فيكون قلبه مفتوحاً بالمحبة لمن حوله، ويشعر بك، مثلما يشعر بنفسه، إن واجهت أية مشكلة، أو تألمت من أى أمر، يشعر بوجعك، ويسرع لنجدتك، أى يمكنك الاعتماد عليه.
ع17، 18: اعقد المشورة : استشر.
اهتم بمشاعر قلبك، فإنها صادقة لا تريد أن تخدعك، ما دمت مرتبطاً بالله، وتخافه، فتستشير قلبك قبل أن تستشير أى إنسان؛ لأن قلبك يرشدك للحقيقة أكثر من سبعة رقباء يراقبون من حولهم من مكان عالٍ؛ لأن الإنسان يشعر بمن حوله أكثر من أى شخص آخر.
واعتماد الإنسان على مشورة قلبه ترجع إلى وجود الضمير، أى صوت الله داخل الإنسان. وفى العهد الجديد يوجد ما هو أعظم، وهو الروح القدس الساكن فى الإنسان على الدوام.
وهذا ليس معناه كبرياء، أو ذات؛ لأن الذى يخاف الله يتضع أمام الكل، ويقبل الإرشاد، ويميل للتلمذة الروحية، ولكن ليس معنى هذا إهمال ما يشعر به داخله مع الصلاة المستمرة، فالله يرشد أولاده، كما يقول سليمان فى الأمثال : “قلب الإنسان يفكر فى طريقه والرب يهدى خطواته” (أم16: 9).
ع19: شرط أساسى لسماع صوت الله داخل قلب الإنسان هو الصلاة، والتضرع إلى الله، فيهدينا إلى طريق الحق، أى الطريق المستقيم الموصل إلى الملكوت.
ع20: الكلام الذى قبل كل عمل، مقصود به التفكير، الذى يصدر عنه الكلام الخارجى، أو هو الكلام الذى فى داخل الإنسان أى فكره. هذا هو الذى يخرج فى شكل أعمال وتصرفات، ومعنى هذا أنك ينبغى أن تفكر جيداً قبل أن تعمل أى شئ.
وأيضاً ينبغى أن تستشير قبل أن تعمل أى عمل كبير، فلا تندفع فى أى عمل دون تفكير كافِ ومشورة حسنة، مع صلاة وتضرع لله ليرشدك.
ع21: إن مشاعر القلب هى ناتجة من فكر الإنسان الداخلى، وهى إما تميل إلى الخير، أو الشر، وتؤدى إلى الحياة أو الموت. ويظهر ما فى داخل الإنسان، أى مشاعر قلبه وفكره فى كلامه الذى يتكلم به لسانه. ويظهر أيضاً على وجهه، ويلزم أن يصلى الإنسان قبل أن يتكلم، ويفكر جيداً قبل أن يخرج مشاعره على لسانه، أو وجهه، وبالطبع سيساعده هذا على أن تكون أعماله مستقيمة.
ع22: الدهاء هنا، مقصود به الحكمة، فقد يوجد إنسان ذو حكمة، ويعلم ويؤدب الآخرين، ويستفيدون منه، ولكنه لا ينتفع شيئاً مما يعرفه، أو يعلمه للآخرين، فهو لا يعمل ما يقوله. وهذا يؤدى إلى مخاطر هى :
- يخلص الآخرين ويهلك هو.
- ما لا يختبره الإنسان سيكون كلامه فيه سطحياً، وتأثيره ضعيف.
- لن يكون قدوة للآخرين، فيكون معثراً للناس؛ لأنه لا يطبق الحكمة فى حياته.
- هذا يغذى كبرياء المتكلم، فيشعر أنه مكتفٍ، ولا يحتاج أن يطبق مثل غيره، وقد يرفض مشورة الآخرين له؛ لأنه متكبر.
والمسيح نفسه أكد أهمية العمل بما نعلم به فقال : “أما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً فى ملكوت السموات” (مت5: 19).
وبولس الرسول تعجب من هذا الإنسان الذى لا يطبق ما يقوله، فيقول : “فأنت إذا الذى تعلم غيرك ألست تعلم نفسك” (رو2: 21).
ع23: إذا كان إنسان غير حكيم، وبكبرياء يدعى أنه حكيم، فيتكلم كلاماً غير حكيم، بالطبع سيتضايق الناس ويملوا من سماعه، ويكرهوا كلامه، وشخصيته، لأنه متكبر، ورغم أنه غير حكيم، يظن فى نفسه أنه حكيم. وهذا الإنسان سيتباعد عنه الناس، ويكرهونه، ولن يستفيد من أى تعليم يقال له؛ لأنه متكبر، فسيحرم من كل قوت، أى طعام؛ سواء طعام مادى لأنه منعزل عن الناس ولا يعمل، أو غذاء روحى ومعنوى بأنه لن يسمع، أو يستفيد من أحد لكبريائه.
ع24: الحظوة : النعمة أو المكانة.
الإنسان المتكبر لا ينال نعمة من الرب، ولا يستطيع أن يأخذ شيئاً، أو يتعلم شيئاً من الله، فيظل غير حكيم، فهو يرفض التعلم والتلمذة على أيدى الحكماء، والله لا يعطى نعمته إلا للمتضعين.
كن متضعاً أمام الله والناس، فتنال حكمة كل يوم، ويحبك الآخرون، وتحيا فى راحة وسعادة. فالتواضع بداية اقتناء الحكمة، والناس تحب المتواضع والحديث معه، فيزداد علماً كل يوم وفهماً، والله يحبه ويرشده بطرق متنوعة، وهكذا يضع الله فى قلبه محبة الحكمة، فينمو فيها، ويتمتع بها، ويمتع الآخرين أيضاً الذين حوله بها.
[3] صفات الحكيم (ع25-29):
25وَمِنْهُمْ مَنْ حِكْمَتُهُ لِنَفْسِهِ، وَثِمَارُ عَقْلِهِ صَالِحَةٌ فِي الْفَمِ. 26الرَّجُلُ الْحَكِيمُ يُعَلِّمُ شَعْبَهُ، وَثِمَارُ عَقْلِهِ صَالِحَةٌ. 27الرَّجُلُ الْحَكِيمُ يَمْتَلِئُ بَرَكَةً وَيُغَبِّطُهُ كُلُّ مَنْ يَرَاهُ. 28حَيَاةُ الرَّجُلِ أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ، أَمَّا أَيَّامُ إِسْرَائِيلَ فَلاَ عَدَدَ لَهَا. 29الْحَكِيمُ يَرِثُ ثِقَةَ شَعْبِهِ، وَاسْمُهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ.
ع25: بعض الحكماء يميلون إلى الصمت، فالإنسان الذى يفعل هذا، هو إنسان متضع وحكيم، وثمار عقله وحكمته تظهر فى كلمات فمه، ولكنها قليلة لأنه يميل للصمت. فهذا إنسان حكيم والكلمات القليلة التى يقولها تساوى كلمات كثيرة، هذه الصفة الأولى للحكيم، أنه ليس كثير الكلام، ولكنه يميل إلى الصمت، أو الكلام القليل.
ع26: الصفة الثانية للحكيم هو أنه يشعر بالمسئولية تجاه شعبه والمحيطين به، فيعلمهم الحكمة التى وهبها الله له، وكلمات فمه الناتجة من عقله الحكيم، صالحة ومفيدة، فهو ليس إنساناً أنانياً يحبس حكمته عن الآخرين، بل يعلمهم فى أبوة واهتمام.
ع27: الصفة الثالثة فى الإنسان الحكيم أنه ممتلئ بركة من الله، إذ يرون كلماته مطبقة فى حياته، والله يباركه من أجل سلوكه المستقيم، فيمدحه الناس.
ع28: الإنسان عمره محدود، وأيضاً الإنسان الحكيم له عمر محدود، ولكن كلام الحكيم يظل يتردد أياماً كثيرة بلا حدود؛ هذا هو معنى أن إسرائيل أيامه لا عدد لها، أى أن شعب الله، أو الإنسان المبارك من الله لا حدود لكلامه، أى يظل كلام الحكيم طوال الحياة على الأرض، بل وأيضاً فى الأبدية يتمتع بالوجود مع الله مصدر كل الحكمة. هذه هى الصفة الرابعة للحكيم. وكل رجال الله الأتقياء فى العهد القديم والعهد الجديد تنطبق عليهم هذه الآية، إذ لهم ذكر حسن على الأرض، والآن يتمتعون فى الفردوس، مثل يشوع بن سيراخ نفسه.
ع29: الصفة الخامسة للحكيم أنه ينال ثقة شعبه؛ لأن تكرار كلام الحكيم، وسلوكه المستقيم يجذبان أنظار من حوله، فيثقون فى كلامه، ويسرعون إلى تنفيذه، بالإضافة إلى أن اسمه يحيا إلى الأبد، أى يرددون كلامه طوال حياتهم، وفى الأبدية يجدون هذا الحكيم يتلألأ فى مجد عظيم.
ليتك تصلى قبل أن تتكلم، وتحرص على قراءة كلام الله فى الكتاب المقدس كل يوم، فتستقى الحكمة من الله، وتتمتع بسعادة وصفات كثيرة، أى فضائل تنالها من الحكمة.
[4] القناعة (ع30-34):
30يَا بُنَيَّ، جَرِّبْ نَفْسَكَ فِي حَيَاتِكَ، وَانْظُرْ مَاذَا يَضُرُّهَا، وَامْنَعْهَا عَنْهُ. 31فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْفَعُ كُلَّ أَحَدٍ، وَلاَ كُلُّ نَفْسٍ تَرْضَى بِكُلِّ أَمْرٍ. 32لاَ تَشْرَهْ إِلَى كُلِّ لَذَّةٍ، وَلاَ تَنْصَبَّ عَلَى الأَطْعِمَةِ.
33فَإِنَّ كَثْرَةَ الأَكْلِ تَهِيضُ الآكِلَ، وَالشَّرَهَ يَبْلُغُ إِلَى الْمَغْصِ. 34كَثِيرُونَ هَلَكُوا مِنَ الشَّرَهِ، أَمَّا الْقَنُوعُ فَيَزْدَادُ حَيَاةً.
ع30، 31: تدريب النفس حتى تحيا مع الله فى سعادة يلزم بعض الأمور منها :
- الامتناع عن كل شئ يضر الإنسان، وأصعب شئ يضر الإنسان هو الخطية، فيلزم قطعها والابتعاد عنها، كما يبتعد الإنسان عن الحية، أو العقرب.
- الابتعاد عن الأمور غير النافعة للإنسان؛ حتى لو كانت نافعة لغيره. فالقديس أرسانيوس كان يميل للصمت؛ لأنه منشغل بالكلام مع الله، أما القديس موسى الأسود فكان يتكلم مع الناس أكثر منه، والله يعزيه ويشجعه من خلال كلماته التى يقولها للآخرين.
- الابتعاد عما لا يناسب الإنسان، ولا يرضيه. فهناك إنسان اجتماعى يميل للوجود بين الناس، ويسأل عنهم ويخدمهم، وهذا أمر جيد. وآخر لا يناسبه كثرة الناس حوله، ويميل للهدوء والعمل الفردى، أو الأعمال الهادئة بعيداً عن الزحام. فكل إنسان يعمل ما يناسبه، أو يرضيه، ويبتعد عما لا يناسبه.
ع32-34: تشره : تأكل كثيراً.
تهيض : تتقياً.
إذا وجدت طعاماً لذيذاً، فلا تأكل منه بكثرة، ولا تلقى بنفسك على الطعام، أى تأكل منه بدون حساب.
والشره يؤدى إلى أضرار كثيرة أهمها :
- يتقيأ الإنسان الطعام الذى أكله.
- يصاب بمغص.
- على المدى البعيد يمكن أن يهلك ويموت عندما يصاب بالأمراض، بمرض السمنة مثلاً.
والخلاصة، الإنسان الذى يدرب نفسه على القناعة فى استخدام كل ما فى العالم، سواء أطعمة، أو غيرها، فإنه يحيا حياة سعيدة صالحة، وينمو فى علاقته مع الله، أى يحيا روحياً وجسدياً حياة جميلة.
إنشغل يا أخى بمحبة الله، وخدمة الآخرين، تجد نفسك تلقائياً قادراً على ضبط نفسك فى كل شئ، وتحيا متزناً، ومطمئناً، ونامياً فى محبتك لله.