صلاة يهوديت قبل خروجها من المدينة
(1) تذكير الله بأعماله فى إنقاذ شعبه (ع1-8):
1- و بينما هم ذاهبون دخلت يهوديت معبدها و لبست مسحا و ألقت رمادا على رأسها وخرت أمام الرب و صرخت إلى الرب قائلة. 2- أيها الرب إله أبي شمعون الذي أعطاه سيفا لينتقم من الغرباء الذين بنجاستهم فضحوا و كشفوا عذراء للخزي. 3- فجعلت نساءهم غنيمة و بناتهم سبيا وكل سلبهم مقتسما بين عبيدك الذين غاروا غيرتك أتوسل إليك أيها الرب إلهي أن تعينني أنا الأرملة. 4- فإن لك الأفعال الأولى و أنت قدرت بعضها في عقب بعض و ما أردته كان. 5- فإن طرائقك جميعها مهيأة و قد أقمت أحكامك بعنايتك. 6- فانظر الآن إلى معسكر الأشوريين كما تنازلت فنظرت إلى معسكر المصريين حين كانوا يسعون في إثر عبيدك بسلاحهم متوكلين على مراكبهم و فرسانهم و على كثرة رجال حربهم. 7- حينئذ نظرت إلى معسكرهم فزعجتهم الظلمة.
8- التزقت أقدامهم بالعمق و غطتهم المياه.
ع1: معبدها : عليتها التى تتعبد فيها.
بعد انصراف الشيوخ من بيت يهوديت، صعدت إلى عليتها حيث أقامت، واعتادت أن تقدم الصلوات الكثيرة، لكيما تطرح نفسها أمام الله فى تذلل، فلبست مسوحًا أكثر مما كانت تلبسها، خشوعًا وتذللاً؛ ليرحمها الله، بل ووضعت رمادًا على رأسها. أى عفرت رأسها وشعرها وهو تاجها بتراب الأرض، انسحاقًا أمام الرب، وكان هذا فى وقت المساء، وقت تقدمة ذبيحة المساء فى أورشليم – كما تخبرنا ترجمة الآباء اليسوعيين – لترتفع صلواتها مع الدخان الصاعد من الذبيحة إلى السماء، والتى تشير إلى المسيح الفادى، والذى فيه تقبل كل الصلوات.
وسجدت أمام الرب فى خضوع وفتحت قلبها وصرخت من أعماقها إليه بصلاة حارة؛ لأنه ليس لها ملجأ ومعين إلا هو.
وهذا يؤكد اعتماد يهوديت الكامل على الله وليس على مواهبها، وثقتها وإيمانها بقوته القادرة على كل شئ.
ليتنا فى المحن والشدائد نتعلم من يهوديت. أن نطرح أنفسنا أمام الله فنجد قوتنا الكاملة، واضعين تحت قدميه كل الإمكانيات، التى وهبها لنا إن أراد أن يستخدمها.
ع2، 3: وتضرعت فى بداية صلاتها إلى الله إله آبائها، المتميز بقدرته فوق كل قوة بشرية، الذى أعطى أباها شمعون بن يعقوب قوة فى حادثة اغتصاب شكيم ابن حمور لأخته دينة (تك34)، فقتل الزانى وأباه وكل رجال المدينة، وكان هذا عقابًا سمح به الله لهذا الزانى وعشيرته، رغم أن شمعون وأخاه لاوى كانا مندفعين فى غضبهما، ووبخهما أبوهما يعقوب بشدة، ولكن هنا تركز يهوديت على قوة الله المنتقم من الخطاة، الذين دنسوا عذراءه دينة بنت يعقوب، والآن يريدون أن يدنسوا عذراءه، أى مدينته بيت فلوى، بل كل مدن إسرائيل بقتلهم ونهبهم وتدميرهم.
وهكذا حول الله الشر على من عمله أى على مدينة شكيم، فكما اغتصبوا دينة أصبحت نساؤهم وبناتهم سبايا لبنى يعقوب وهكذا أيضًا كل ممتلكاتهم. وطلبت منه يهوديت باتضاع أن يعينها أمام الأعداء الأقوياء وهى الأرملة الضعيفة؛ لأنه الإله القادر أن يعمل بأضعف الضعفاء.
إنك باتضاعك تستطيع أن تستدر مراحم الله وتتغلب على كل قوى العالم، ويتحول بهذا شر الأشرار على رؤوسهم، وتنجو أنت بسهولة كالعصفور من فخ الصياد.
ع4، 5: طرائقك كلها مهيأة : تدابيرك كلها معدة.
ثم تنسب لله تدابير الكون فهو خالقه ومدبره منذ بدايته وهو ضابط الكل، القادر بحكمته على تدبير الأمور؛ لتؤدى إلى خير أولاده؛ ليتمم عنايته بهم، فهو الأزلى الأبدى الخالق والمدبر لكل الخلائق، ولذا فهى تخضع لتدابير الله، الذى سمح بهجوم الأشوريين وحصارهم لمدينتها، ولكن – فى نفس الوقت – إن الله يحول كل هذا لخيرهم.
إنها طمأنينة عجيبة التى يتمتع بها أولاد الله؛ لثقتهم أن الله ضابط الكل، وكل طرقه مستقيمة وهدفها العناية بأولاده.
ع6-8: زعجتهم : أزعجتهم.
التزقت : التصقت.
وذكرت يهوديت الله بمساندته لشعبه، الذى كان يقوده موسى قديمًا، وهم هاربون من مصر، مقبلون على البحر الأحمر، وخرج وراءهم فرعون أعظم ملوك العالم، فى هذا الوقت، بجيشه الجبار ومركباته وفرسانه، وكيف أطل عليهم الله بقوته، بعمود النار، الذى فصل بينهم وبين شعبه، وأزعج خيلهم وفرسانهم، ومن شدة وهج النار لم يروا شيئًا وكأنها ظلمة، ثم شق البحر الأحمر، وعبر بنو إسرائيل على اليابسة إلى الشاطىء الآخر، أما المصريين، فعندما دخلوا إلى جوف البحر، لصقت أقدامهم بباطنه وغطاهم الماء، فصاروا فى ظلمة شديدة وماتوا كلهم.
(2) طلب النصرة على الأعداء (ع9-11):
9- يا رب فليكن مثلهم هؤلاء المتوكلون على كثرة عددهم و مراكبهم و حرابهم و تروسهم وسهامهم المفتخرون برماحهم. 10- و هم لا يعلمون أنك أنت إلهنا الذي يمحق الحروب منذ البدء وأن اسمك الرب. 11- فارفع ذراعك كما فعلت من البدء و احطم قوتهم بقوتك و لتسقط بغضبك قوة الذين يطمعون أنفسهم في ابتذال أقداسك و تنجيس مسكن إسمك و هدم قرن مذبحك بسيفهم.
ع9: وطلبت يهوديت أن يعامل الله الأشوريين كما عامل المصريين قديمًا ويهلكهم، مهما كانت قدرتهم وتكبرهم بقوتهم وسلاحهم.
ع10: يمحق : يسحق ويبيد.
ما خفى عن أعدائنا هو عدم معرفتهم بك، أنت الإله العظيم الذى ليس سواك، وأنك أنت هو إلهنا الخاص، الذى تحامى عنا، وأنك أنت السيد والرب لكل الأرض، فكيف تجاسروا على محاربتنا، إلا لأنهم لا يعرفوك ويجهلون قوتك. أنت الذى تسحق قوة الأعداء فى الحروب وتنتصر عليهم مهما كانت قوتهم.
ع11: والآن قد جاء الوقت يا إلهنا أن ترفع يدك وتحطم قوة الأعداء، الذين يبغون مهاجمة شعبك ومدينتك أورشليم وهيكلك ومذبحك العظيم، حيث أنت كائن.
ومن المعروف أن بنى إسرائيل كانوا متمسكين بهيكل الله ويعظمونه ومستعدين للدفاع عنه حتى الموت، فيزعجهم جدًا أن يصيبه أى أذى.
(3) طلب قوة الله لتقتل أليفانا (ع12-15):
12- إجعل يا رب كبرياءه تقطع بنفس سيفه. 13- ليصد بفخ نظره اليَّ و اضربه بعذوبة الكلام الخارج من شفتي. 14- و هبني ثباتا في قلبي حتى أزدريه و قوة حتى أهلكه. 15- فيكون هذا ذكرا لاسمك إذا أهلكته يد امرأة.
ع12: تنتقل يهوديت من الكلام على العدو عمومًا، أى الجيش الأشورى، إلى الكلام عن رئيس هذا الجيش وهو أليفانا والذى يمثله ويقوده، فتطلب من الله أن يحطم كبرياءه ويقطعه من على الأرض، إذ كيف يتكبر إنسان على الله الذى يحمى شعبه. وإمعانًا فى إذلاله طلبت أن يقتله الله بسلاحه وليست بأسلحة بنى إسرائيل؛ ليظهر له ضعفه أمام قوة الله.
ع13: ليصد : يُصطاد ويقع كالفريسة فى شبكة.
بدأت يهوديت تكشف عن خطتها السرية فى صلاتها لله، وهى الإيقاع بأليفانا نفسه، أكبر رأس للجيش؛ فتستطيع أن تهزم الجيش كله.
واستغلت فى هذا شر أليفانا الكائن فيه؛ كإنسان أممى آلهته هى شهواته، فهى امرأة جميلة جدًا، ولأنه شرير، فيصطاد بنظره الشرير إلى جمالها المادى، وليتحول من قائد عظيم إلى عبد ذليل تحت قدميها، وهكذا أيضًا كلماتها الرقيقة تسلبه إرادته وتفقده كل قواه.
قد يتساءل البعض عن أسلوب يهوديت فى خداع وجذب أليفانا بجمالها وأن هذا لا يتفق مع قداستها وتعففها؛ فنجيب بأن الخداع مسموح به فى الحرب، كما أعلن الله ذلك فى قصة الانتصار على عاى أيام يشوع بعمل الكمين (يش8: 1-9)، فيهوديت ستتمسك بطهارتها ولكن لأجل شهوة أليفانا لم يحتمل جمال يهوديت. وكان أليفانا ورؤساء الأشوريين معروف عنهم الانغماس فى الشهوات الجنسية كما جاء فى (ص12: 11).
ليتنا نحترس لئلا نسقط من ضعفنا، فإبليس ليس له سلطان علينا، ولكننا نصطاد بشباكه، إذا كانت الشهوة مسيطرة علينا.
فهل تجذبنا المناظر الجميلة والكلمات الناعمة، أم الله المختفى وراء كل جمال أرضى ؟ هل نبحث عن الله أم الشهوة ؟
ع14: وفى نفس الوقت كانت تشعر يهوديت بضعفها، فطلبت من الله أن يحميها كإنسانة ضعيفة، حتى لا يتأثر قلبها بقوته وعظمته، وما دام الإنسان قوى من الداخل بالله الساكن فيه، يثبت أمام كل الإغراءات والظروف الصعبة التى يتحتم عليه اجتيازها فى حياته.
بل وطلبت قوة من الله لتزدرى الشر، أى تصير عظمة ومجد هذا القائد مرفوضة ومكروهة أمام عينيها، ثم تطلب معونة أخرى حتى تستطيع أن تهلكه.
إذا شعرت بمضار الخطية ستكرهها وتصير الشهوة المبهجة للعيون البشرية مرذولة منك، فحينئذ تستطيع بسهولة، بقوة الروح القدس الساكن فيك، أن تقهر كل قوة العدو الشيطان.
ع15: وعندما يتمجد الله بأرملة ضعيفة – والأرملة هى التى ليس لها رجل – لو شعر الإنسان روحيًا أنه هو هذه الأرملة سيكون الله هو رجل هذه الأرملة، أى قوته؛ فيسحق كل قوى الشر أمامه، وحينئذ يكون كل المجد لله وليس للإنسان الضعيف.
قدم ضعفك أمام الله كأرملة محتاجة، فيتمجد الله بكل قوته فيك.
(4) قوة الله للمتضعين (ع16-19):
16- لانها ليست قوتك بالكثرة يا رب و لا مرضاتك بقدرة الخيل و منذ البدء لا ترضى من المتكبرين بل يسرك دائما تضرع المتواضعين الودعاء. 17- يا إله السماوات خالق المياه و رب كل خليقة استجبني أنا المسكينة المتضرعة و المتوكلة على رحمتك. 18- و اذكر يا رب ميثاقك و اجعل الكلام في فيّ و ثبت مشورة قلبي ليثبت بيتك في قدسك. 19- فيعرف جميع الأمم أنك أنت الإله وليس آخر سواك
ع16: ثم تختم يهوديت صلاتها العميقة بالتأكيد على أن قوة الله للضعفاء الملتجئين إليه، الذين يشعرون بضعفهم أمامه، واعتمادهم عليه وليس على سلاحهم وقوتهم وكثرتهم.
ع17: وإذ أكدت هذه الحقيقة شعرت بعظمة الله المتعالى فى السماء وخالق كل الأشياء وخالق المياه التى أخرج منها كل الموجودات. وحيث أنه خالق المياه، فهو القادر أن يسد عطش أولاده فى بيت فلوى بأن يمطر من السماء أمطارًا غزيرة ولأيام كثيرة، فسلاح الأعداء الذى يحاربون به شعب الله وهو المياه، هو أيضًا فى يد الله ضابط الكل. وفى نفس الوقت، شعرت بضعفها ومسكنتها أمام عظمته؛ فطلبت استجابة صلاتها وأن يشملها بمراحمه.
ع18، 19: فى فىَّ : فى فمى.
وذكرته بمواعيده للآباء، أى رعاية شعبه، بشفاعة الآباء البطاركة القديسين إبراهيم وإسحق ويعقوب، وكذلك موسى وكل الأنبياء، ليعطيها حكمة فى الكلام، بل يضع كلامه، الذى لا يقاوم فى فمها، ويثبت فى قلبها ما عزمت عليه ويسندها؛ لتهزم رئيس جيوش الأشوريين، فإذ يهزم الله الأشوريين يعلن بوضوح لكل العالم أنه هو الله وحده فوق كل آلهة الأمم، الذين هزموا من الأشوريين.
من هذه الآية الأخيرة تظهر أشواق يهوديت للتبشير باسم الله لكل الأمم، فهى تريد أن الكل يؤمنون بالله ويحيون تحت رعايته. هل هدفك هو تمجيد الله عندما تطلب معونته أم تمجيد ذاتك ؟ ليتك تختفى، فيظهر الله فيعمل فيك بحرية ويهزم كل الشرور داخلك ويرفعك فوق الكل، وتصير دون أن تشعر نورًا للأمم وملحًا للأرض.