إيمان يهوديت وتوبيخها للشيوخ
(1) شخصية يهوديت (ع1-8) :
1- و لما سمعت هذا الكلام يهوديت الأرملة و هي بنت مراري بن ايدوس ابن يوسف بن عزيا بن الاي ابن يمنور بن جدعون بن رفائيم بن احيطوب بن ملكيا ابن عانان بن نتنيا بن شالتيئيل بن شمعون بن راوبين. 2- و كان بعلها منسى و قد مات في أيام حصاد الشعير. 3- لانه كان يحث رابطي الحزم في الحقل فصخد الحر رأسه فمات في بيت فلوى مدينته و قبر هناك مع آبائه.4- وكانت يهوديت قد بقيت أرملة منذ ثلاث سنين و ستة أشهر. 5- و كانت قد هيأت لها في اعلى بيتها غرفة سرية و كانت تقيم فيها مع جواريها و تغلقها. 6- و كان على حقويها مسح و كانت تصوم جميع أيام حياتها ما خلا السبوت و رؤوس الشهور و أعياد آل إسرائيل. 7- و كانت جميلة المنظر جدا وقد ترك لها بعلها ثروة واسعة و حشما كثيرين و أملاكا مملوءة بأصورة البقر و قطعان الغنم. 8- و كانت لها شهرة بين جميع الناس من اجل أنها كانت تتقي الرب جدا و لم يكن أحد يقول عليها كلمة سوء.
ع1: يقدم لنا الكتاب المقدس هنا شخصية يهوديت – ومعناها يهودية – فيحدثنا عن نسبها، فهى من سبط شمعون، كما يتأكد ذلك من بداية الأصحاح التاسع (ص9: 2-3). فهى تتحدث عن أبيها شمعون، الذى قال عنه يعقوب أبوه أنه غضوب، وفى غضبه هو ولاوى ثارا من أجل اعتداء شكيم على أختهم، وقاموا وقتلوا كل رجال المدينة (تك49: 5-7).
وهى تفخر بانتسابها إلى شمعون، الذى يتميز بالشجاعة ولا تقصد اندفاعه وتهوره، وقد كانت يهوديت شجاعة مثل جدها شمعون. أما ذكر رأوبين فقد يكون لاعتباره بكر يعقوب وفى الترجمة اليسوعية لهذا السفر لم يذكر اسم رأوبين.
ويلاحظ ذكر نسب يهوديت إلى جدها شمعون ويشمل خمسة عشر جيلاً، وذلك لأن اليهود – حتى ميلاد المسيح – كانوا يهتمون بأنسابهم وذلك ليعلن الله تنفيذ وعده بأن المسيح يأتى من نسل داود ومن نسل يهوذا.
ومن نعم الله أن هذه المرأة العظيمة – كما سيتضح مما يلى – لم تكن تعيش بجوار الهيكل فى أورشليم، بل فى المملكة الشمالية لليهود، التى عاصمتها السامرة، حيث انتشرت عبادة الأوثان، ومع هذا ظلت متمسكة بإيمانها، بل كان إيمانها قوياً جداً، كما تظهر شخصية طوبيا العظيم فى محبته وإيمانه وهو أيضاً من المملكة الشمالية. فالله قادر أن يحفظك وينمى إيمانك مهما كانت الظروف المحيطة بك سيئة، إن كنت تظل متمسكاً به.
ع2، 3: يحث : يشجع ويحمس العاملين للعمل بنشاط.
صخد : أى صهد، ومعناها أنه ارتفعت درجة حرارته نتيجة حرارة الشمس الشديدة على رأسه.
وقد تزوجت يهوديت ومات زوجها – كما يبدو – فى سن صغيرة، بعد زواجها بفترة قصيرة، إذ كان منسى زوجها يعمل فى الحقل أثناء الحصاد بنشاط، مستهينًا بالتعب لأنه شاب، فضربه الحر الشديد ومات. فهو كرجل غنى صاحب أملاك كان يشجع العاملين فى حقوله لاستكمال الحصاد وضربته الشمس لأن حصاد الشعير يكون فى شهر مايو تقريبًا وتكون الحرارة فيه شديدة.
وضربه الشمس قديماً كان من الصعب علاجها وتنهى حياة الإنسان، كما حدث مع ابن الأرملة الشونمية الذى أقامه أليشع النبى (2مل4: 18-20).
ع4: وبعد موت زوج يهوديت احتفظت بترملها، رغم أنها صغيرة السن وجميلة جدًا وغنية، وهذا دليل على تعففها.
لقد مات زوجها فقبلت الضيقة كفرصة لتحيا مع الله، إنها تمثل النفس البشرية التى تقبل تدابير الله بشكر، بل تنتهز الضيقة لتقترب إلى الله، وتكرس قلبها له.
وفترة ثلاث سنين ونصف، هى التى أغلق فيها إيليا السماء؛ ليتوب الشعب ويرجع إلى الله، ثم بعد هذا نزل المطر الشديد (يع5)، وهى أيضًا ترمز لفترة الضيقة فى نهاية الأيام، التى حدثنا عنها سفر الرؤيا (رؤ12) التى يحتملها أولاد الله، أو الثلاثة أيام ونصف التى تظل فيها جثتـى النبييـن على شارع المدينة العظيمة ملقاة، ثم يقوما (رؤ11) والتى تنبأ عنها دانيال (دا12). هكذا بعد ترمل ثلاثة سنوات ونصف فرحت يهوديت بخلاص الله على يديها لكل شعبها ومات أليفانا، الذى يرمز للشيطان وهزمت كل جنوده. إذ أن فترة الثلاث سنوات والنصف ترمز للضيقات المؤقتة التى نحتملها فى الحياة وبعدها تنفرج الأزمة.
ولم تحتاج يهوديت للزواج من شقيق زوجها – كما تقضى الشريعة – لأنها كانت تود البتولية والله ساعدها على ذلك بالترمل، فعاشت حياتها كلها متعبدة لله فى تعفف ونسك، مثل حنة النبية بنت فنوئيل (لو2: 36-38).
حقًا إن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله (رو8: 28). فالله يدبر حياتك حتى لو لم تفهم، فهو يسمح بالضيقة لكى ما يتمجد فيها ويعمل فى الضعف أكثر من القوة البشرية، كما قال بولس الرسول “حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى” (2كو12: 10).
ع5-8: حقويها : وسطها فما أسفل وهى المنطقة من الجسم التى تغطيها الملابس الداخلية.
مسح : ملابس خشنة تُشبه الخيش.
رؤوس الشهور : كان اليهود يعيدون فى رؤوس الشهور.
حشمًا : العبيد والجوارى الخصوصيون الذين تمتلكهم.
يشهد الكتاب المقدس أن يهوديت كانت غنية جدًا، بل ويشرح ممتلكاتها الكثيرة من قطعان البقر والغنم، ومع هذا تركت عنها كل هذه التنعمات الكثيرة وتركت عنها ما تهتم به كل امرأة، أى جمالها، رغم أنها كانت تتمتع بجمال رائع. والغريب أنها تركت أيضًا التمتع بقصرها الكبير وعاشت فى حجرة علوية؛ لتحيا حياة الوحدة فى صلوات وعبادات كثيرة.
وهكذا عاشت الفقر الاختيارى فهى مثال واضح من العهد القديم عن أهمية الوحدة والخلوة التى ظهرت كنظام رهبانى فى العهد الجديد.
وتجدر الإشارة إلى تأثير يهوديت الحسن على وصيفاتها اللاتى يعملن فى منزلها، إذ أحببن هن أيضًا الصلاة والعبادة، فصارت عليتها بيتًا للعذارى. ولعل القديسة دميانة والأربعين عذراء احتذين مثالها، عندما عشن فى القصر الذى بناه مرقص الوالى لدميانة ابنته.
وكانت تتميز فى وحدتها بالنسك الشديد، إذ تركت عنها ثياب الأغنياء الناعمة، ولبست المسوح، أى الثياب الخشنة كتطبيق للتقشف الشديد وصامت طوال السنة، ما عداأيام الفرح الطقسية التى توصى بها الشريعة.
وعندما هربت يهوديت من مباهج العالم وشهرته جرت وراءها الكرامة، فشعر كل أهل بيت فلوى بتقواها وكان الكل يغبطها ويعظمها.
وأنت ما الذى تنازلت عنه من الماديات والشهوة من أجل الله ؟ وكم هو مقدار سعيك للاختلاء بالله والتمتع بالصلوات والتأملات ؟ وكم من النفوس تأثرت بك واجتذبتها لمحبة المسيح ؟
(2) عتاب شيوخ المدينة (ع9-13) :
9- فهذه لما سمعت أن عزيا وعد بأن يسلم المدينة بعد خمسة أيام أنفذت إلى الشيخين كبري وكرمي. 10- فوافياها فقالت لهما ما هذا الأمر الذي وافق عليه عزيا أن يسلم المدينة إلى الأشوريين إذا لم تأتنا معونة إلى خمسة أيام. 11- من انتم حتى تجربوا الرب. 12- ليس هذا بكلام يستعطف الرحمة و لكنه بالأحرى يهيج الغضب و يضرم السخط. 13- فإنكم قد ضربتم أجلا لرحمة الرب وعينتم له يوما كما شئتم.
ع9: أنفذت : أرسلت.
أرسلت يهوديت إلى كبار شيوخ المدينة، وهما الشيخان كبرى وكرمى، ولعلهما المساعدان لعزيا رئيس، أو شيخ المدينة. وقد أرسلت إليهما؛ لأنها لا تريد أن تخرج من وحدتها، وتسير فى شوارع المدينة، ولم تستدع عزيا رئيس المدينة، إما احترامًا وتقديرًا لمقامه، أو لم ترد أن تعطله عن قيادة جموع الشعب الثائرة الحزينة، فدعت معاونيه فقط.
ع10: وافياها : وصلا إليها.
استجاب الشيخان لدعوة يهوديت، نظرًا لمكانتها الروحية الكبيرة فى المدينة.
وعندما حضر الشيخان، عاتبتهما بكل جرأة ووداعة عما أعلنه عزيا، ووافقه عليه الشيوخ، إذ رضخوا لضغط الشعب، حيث طلب منهم عزيا امهال الله خمسة أيام، وإن لم ينقذهم، يسلموا المدينة للأشوريين.
وهذا الرأى، وإن كان أفضل من رأى الشعب، الذى كان يريد تسليم المدينة فى الحال، إلا أنه خطأ كبير فى نظر يهوديت، التى يبدو أن لها قامة روحية أعلى من كل الباقين.
ع11-13: يضرم : يشعل.
السخط : الغضب الشديد.
أجلاً : مدة أو نهاية الوقت المحدد.
وقد أوضحت يهوديت خطأ ما أعلنه عزيا فى أمرين :
- إن هذا ضعف إيمان وشك فى الله، بل وتجربة له، فعزيا يعطى مهلة لله أن يتمم عمله فى وقت محدد، وإلا فسوف يسلم المدينة للأشوريين، وهذا لا يليق إطلاقًا. فالله قادر على كل شئ وينبغى انتظاره بلا حدود، فليس لنا سواه.
- ليس من الأدب، أو التواضع أن نضع شروطًا لله، لكيما ينقذنا، بل طلب رحمته يكون بالخضوع له وتسليم حياتنا بالكامل، فينقذنا فى الوقت الذى يراه هو، فهو يحبنا ويعرف مصلحتنا أكثر منا. ونبهتهم أن تحديد مهلة ليعمل فيها الله يثير غضبه عليهم؛ لأن تحـديـد مدة يعنى تجربة الله وهذا شئ يضايق الله جدًا كما فى
(خر17: 2-7، مت4: 7).
وهناك فرق بين اللجاجة وتحديد مدة لعمل الله، لأن اللجاجة وطلب تدخل الله السريع يعنى إيمان وتشبث بالله وانتظار لتدخله مع الإلحاح الدائم عليه. وهو بالطبع غير تحديد مدة، وإن لم يفعل الله خلالها نتركه ونبحث عن حلول أخرى.
ليتك تتكل على الله بإيمان كامل وتثق أنه لا ينساك، حتى لو زادت الضيقات عليك وحاربك اليأس، تشدد وواصل صلواتك، لتغلب الأفكار الشريرة ، فتتمتع بمراحم الله دائمًا.
(3) دعوتهم للتوبة (ع14-29) :
14- و لكن بما أن الرب طويل الأناة فلنندم على هذا و نلتمس غفرانه بالدموع المسكوبة. 15- إنه ليس وعيد الله كوعيد الإنسان و لا هو يستشيط حنقا كابن البشر. 16- لذلك فلنذلل له أنفسنا و نعبده بروح متواضع. 17- و لنسأل الرب باكين أن يؤتينا رحمته بحسب مشيئته لنفتخر بتواضعنا مثلما اضطربت قلوبنا بتكبرهم. 18- فإنا لم نجر على خطايا آبائنا الذين تركوا إلههم وعبدوا آلهة غريبة. 19- فاسلموا من اجل ذلك الإثم إلى السيف و النهب و الخزي بين أعدائهم لكنا نحن لا نعرف إلها غيره. 20- فنترجى بالتواضع تعزيته و هو ينتقم لدمنا عن إعنات أعدائنا لنا و يذل جميع الأمم الواثبين علينا و يخزيهم الرب إلهنا. 21- و الآن يا أخوتي بما إنكم انتم شيوخ في شعب الله و بكم نفوسهم منوطة فانهضوا قلوبهم بكلامكم حتى يذكروا أن آباءنا إنما ورد عليهم البلاء ليمتحنوا هل يعبدون إلههم بالحق. 22- فينبغي لهم أن يذكروا كيف امتحن أبونا إبراهيم و بعد أن جرب بشدائد كثيرة صار خليلا لله. 23- و هكذا اسحق و هكذا يعقوب و هكذا موسى و جميع الذين رضي الله منهم جازوا في شدائد كثيرة و بقوا على أمانتهم. 24- فأما الذين لم يقبلوا البلايا بخشية الرب بل أبدوا جزعهم و عاد تذمرهم على الرب. 25- فاستأصلهم المستأصل و هلكوا بالحيات. 26- و أما نحن الآن فلا نجزع لما نقاسيه. 27- بل لنحسب أن هذه العقوبات هي دون خطايانا ونعتقد أن ضربات الرب التي نؤدب بها كالعبيد إنما هي للإصلاح لا للإهلاك. 28- فقال لها عزيا والشيوخ جميع مقالك حق و لا عيب في كلماتك. 29- فالآن صلي عنا لأنك امرأة قديسة متقية لله.
ع14-17: يستشيط : يشتعل ويشتد غضبه.
حنقًا : غيظًا وغضبًا شديدًا.
طمأنت يهوديت الشيخين بأن الله ليس مثل البشر، مندفع فى غضبه، أو انتقامه، فهو لن يسرع بتأديب الشعب عما اعتزموا عمله، فهناك إذن فرصة للتوبة. ونصحتهما بالتذلل أمام الله باتضاع ودموع وصلوات وعبادات منسحقة مع الشعب فيسامحهم الله عما قالوه، ويرحمهم، وينقذهم من الأشوريين حسبما يرى، وفى الوقت الذى يحدده، لأن مشيئته هى الصالحة، فينتصروا بهذا على أعدائهم، ويفتخروا بهذا الاتضاع الذى جلب عليهم مراحم الله، بدلاً من الاضطراب الذى هز قلوبهم؛ لتكبر وجبروت أعدائهم.
إن الاتضاع هو سبيلك لكسب كل المعارك ضد إبليس والتمتع بكمال عمل القوة الإلهية فيك.
ع18، 19: نجر : نسلك.
مما يطمئنا ويشجعنا، أننا لم نترك إلهنا ونعبد آلهة غريبة، بل نعبد الله وحده؛ لأن آباءنا عندما تكبروا وعبدوا الآلهة الغريبة، تركهم الله وتعرضوا لعدوان الأعداء المحيطين بهم بالقتل والنهب، فصاروا فى خزى عظيم، كما حدث فى أيام القضاة والملوك الأشرار عندما اعتدى عليهم جيرانهم وأذلوهم.
ع20: إعنات : أى تعنت ومعناه ظلم واستبداد.
الواثبين علينا : القافزين علينا، أى المهاجمين لنا.
بإيماننا بالله واتضاعنا أمامه نطلب مراحمه، فينقذنا من أعدائنا، الذين يظلموننا ويخزيهم ويذلهم وينتقم منهم، فينجى نفوسنا.
لنثبت فى الإيمان، ونتقرب إلى الله باتضاع، مترجين إياه كل حين، فيرفع عنا الشرور.
ع21: منوطة : تحت مسئوليتكم.
أنهضوا : شجعوا.
وواصلت يهوديت حديثها مع الشيخين، ويبدو أن خبر استدعائها للشيخين قد وصل إلى رئيس المدينة عزيا، فمن تقديره لهذه السيدة العظيمة يهوديت، شعر بأهمية الأمر، فأسرع باتضاع بنفسه إلى بيتها، ليعرف ماذا تريد فى هذه المحنة الشديدة التى تمر بها مدينتهم؛ بيت فلوى، ولعله انتهزها فرصة؛ لنوال البركة من هذه المرأة التقية، وانضم إلى الشيخين، ليستمع إلى إرشادات وتعاليم هذه القديسة التى بتقواها وحكمتها، قادت شعبها فى طريق الله، وحققت له النصرة.
فقالت لهم حيث أنكم مسئولون عن نفوس هذا الشعب، فعليكم أن تنبهوه إلى مبدأ روحى هام وهو أن الله يسمح بالضيقات لامتحان أولاده، فإن أطاعوه وتمسكوا به، تزكوا ونالوا بركة عظيمة.
يلاحظ أن يهوديت لم تكلم الشعب مباشرة؛ لتقديرها لمركز ووظيفة الشيوخ المسئولين عن تعليم الشعب، وهم يرمزون لدور الكهنة والشمامسة فى العهد الجديد. فلا يصح أن تعلم المرأة الشعب، فيما عدا تعليم النساء والأطفال.
ع22، 23: وأعطتهم أمثلة كأبينا إبراهيم، الذى اختبره الله بترك مدينته، وخروجه للبرية (تك32: 1) وتقديمه اسحق ابنه ذبيحة (تك22)، فتزكى إيمانه وصار أبًا لكل الشعب اليهودى. وتمت فيه مواعيد الله. وأيضًا الآباء القديسين اسحق (تك22، 25: 21) ويعقوب (تك29-31) وموسى (تك34: 1-4) وكل من أرضوا الرب واحتملوا الضيقات ثابتين فى إيمانهم.
ع24، 25: استأصلهم المستأصل : أبادهم الله.
أما الذين رفضوا الإيمان بالتذمر، مثل شعب إسرائيل، الذين تذمروا فى برية سيناء، بعد خروجهم من أرض مصر عدة مرات، منها مثلاً عندما تذمروا على المن، طعامهم السماوى واشتهوا اللحم والبصل والكرات، الذى كان فى أرض مصر، أو عندما تذمروا على قلة الماء، أو عندما خافوا من دخول أرض الميعاد، بسبب سكان الأرض، فحرموا من دخولها ومات الخائفون فى البرية وعندما تذمروا على المن والسلوى، فلدغتهم الحيات.
إذن الضيقة بركة يسمح بها الله، فلا نتذمر عليها؛ لئلا نخسر بركاتها ويتخلى الله عنا ونتعرض لضيقات أكبر ويغضب الله علينا.
ع26، 27: نجزع : نخاف.
دون خطايانا : أقل مما تستحقه خطايانا.
ثم لخصت يهوديت ما ينبغى أن يسلك فيه أهل بيت فلوى أمام هذه الضيقة العظيمة فيما يلى :
- عدم الاضطراب من صعوبة الضيقة، بل الثبات فى الإيمان والاطمئنان لرعاية الله وحمايته لنا.
- النظر إلى خطايانا، أى محاسبة أنفسنا والتوبة، وحينئذ نشعر إننا نستحق ضيقات أكثر كثيرًا من هذه الضيقة لكثرة خطايانا، أى تقودنا الضيقة لتوبة عميقة.
- الثقة، رغم صعوبة الضيقة، التى تظهر ضعفنا كعبيد ضعفاء لا سادة عظماء، إنها تتحول لخيرنا وتصلح الكثير من عيوبنا وتقربنا إلى الله.
ليتك تتأمل بركات الضيقات التى مرت بك فى حياتك وتشكر الله عليها، فتكون وقاية لك من أى اضطراب يهاجمك إذا حلت بك ضيقة جديدة.
ع28، 29: ما أعظم اتضاع عزيا، والشيوخ كبرى وكرمى، أمام يهوديت. وما أقوى مهابة وتأثير كلام القديسين فيمن يسمعونهم. فقد شعروا بخطئهم فيما أعلنوه للشعب ووافقوا يهوديت، فيما أرشدتهم إليه فى عظتها الروحية الجميلة.
وشعروا أيضًا إنهم أمام قديسة عظيمة، فطلبوا منها الصلاة من أجلهم ومن أجل كل الشعب.
على قدر ما تحيا مع الله فى عبادة مقدسة وتتمتع بعشرته فى الصلوات والتأملات، على قدر ما يكون تأثيرك الروحى فيمن حولك وتصير خدمتك ناجحة وتكسب نفوسًا كثيرة.
(4) مهمتها السرية (ع30-34) :
30- فقالت لهم يهوديت كما انكم عرفتم ان ما تكلمت به هو من قبل الله. 31- فاعلموا عن خبرة ان ما عزمت عليه هو من قبل الله و صلوا حتى يؤيد الله مشورتي. 32- ففي هذه الليلة تقفون انتم على الباب و انا اخرج مع وصيفتي و صلوا ان ينظر الرب الى شعبه اسرائيل خمسة ايام كما قلتم. 33- و انا لا احب ان تفحصوا عن قصدي و من الان حتى اعلمكم به لا تصنعوا شيئا غير الصلاة عني الى الرب الهنا. 34- فقال لها عزيا امير يهوذا اذهبي بسلام و ليكن الرب معك في الانتقام من اعدائنا و انصرفوا راجعين
ع30، 31: ختمت يهوديت حديثها مع الشيوخ، بأنهم إن كانوا قد وثقوا فى إيمانها وتعليمها الذى وافقوا عليه، طلبت منهم أن يثقوا فيما ستعمله، فهى بخبرتها وعشرتها مع الله تثق أن تصرفها سليم، وطلبت صلواتهم ليتمم الله عمله معها لإنقاذ شعبه.
ع32: ثم سألت يهوديت الشيوخ أن يقفوا عند باب المدينة فى هذه الليلة؛ ليودعوها ويباركوها وهى تخرج مع جاريتها؛ لتقابل الأعداء وكررت طلبها أن يصلوا من أجلها؛ لينقذ الله شعبه خلال الخمسة أيام المقبلة.
ورغم رفضها لتحديد مدة لعمل الله، ولكنها تثق أن الله بمحبته سيتنازل وينقذهم قبل انقضاء هذه المهلة، رأفة بشعبه، ملتمسًا لهم العذر فى ضعف إيمانهم.
ع33: وطلبت منهم أمرين :
- عدم السؤال عن نوع مهمتها وتفاصيلها.
- الصلاة من أجلها، كى يتمم الله إنقاذ شعبه على يديها.
لقد تحملت يهوديت وحدها مسئولية إنقاذ شعبها، ولم تخبر أحداً بتفاصيل مهمتها، لأنها أشفقت على من حولها؛ لئلا يهتز إيمانهم بمعونة الله لها، بالإضافة إلى أن إشفاقهم عليها، قد يدفعهم لمنعها من أداء مهمتها.
عندما تجد من حولك فى ضعف، بدلاً من أن تلومهم على ضعفهم، تحمل المسئولية بدلاً منهم، وساعدهم وأنقذهم بقوة الله من أتعابهم.
ع34: وعندما سمع الشيوخ هذه المفاجأة، أى مهمة يهوديت السرية، خضعوا لكلامها وتحدث باسمهم عزيا، رئيس المدينة، ويسميه الكتاب المقدس هنا “أمير يهوذا”، باعتبار أن هيكل الله فى أورشليم التابع لسبط يهوذا، ومدينة بيت فلوى تؤمن بالله الساكن فى الهيكل فى أورشليم، فبهذا يكون رئيسهم مدعوًا أمير يهوذا … وقال لها أن تمضى بسلام الله؛ لتتمم مهمتها، رافعًا الصلوات من أجلها؛ ليعينها الله وينقذ شعبه على يديها.
وانصرف الشيوخ الثلاثة من بيتها، ولعلهم ذهبوا إلى المجمع، أو إلى إحدى البيوت واجتمعوا للصلاة من أجل يهوديت، ثم ذهبوا، لينتظرونها عند باب المدينة ووقفوا للصلاة هناك منتظرين خروجها فى هذه الليلة، كما أخبرتهم؛ لتتمم مهمتها. ومشاعرهم كلها خشوع ورهبة؛ لصعوبة مهمتها واشفاقًا عليها من صعوبة الموقف، وفى نفس الوقت كان يدب فى قلبهم ثقة بقداستها وقوة الله المساندة لها ويعذبهم الشعور بذل الشعب من العطش واقترابهم من الموت، ملتمسين من الله سرعة استجابته وتحننه عليهم. إنه الاحساس بالمسئولية مع الشعور بالضعف أمام صعوبة الموقف؛ فتذللوا أمام الله انتظارًا لخلاصه.