يهوديت فى خيمة أليفانا وحدهما
(1) صلوات وأصوام يهوديت عند أليفانا (ع1-9):
1- حينئذ أمرهم أن يدخلوها موضع خزائنه و أمر أن تمكث هناك و أوصى بما يعطى لها من مائدته. 2- فأجابته يهوديت و قالت إني لا أستطيع أن آكل مما أمرت أن يعطى لي لئلا تكون علي خطيئة و لكني آكل مما أتيت به. 3- فقال لها أليفانا إذا فرغ هذا الذي اتيت به فما نصنع بك.
4- فقالت يهوديت تحيا نفسك يا سيدي إن أمتك لا تنفق هذه جميعها حتى يصنع الله بيدي ما في خاطري فأدخلها عبيده الخيمة التي أمر بها. 5- فلما صارت في داخلها سألت أن يرخص لها ان تخرج في الليل قبل الصباح لتصلي و تتضرع إلى الرب. 6- فأوصى أصحاب مخدعه أن يأذنوا لها كما تحب في أن تخرج و تدخل لتعبد إلهها ثلاثة أيام. 7- فكانت تخرج ليلا إلى وادي بيت فلوى و تغتسل في عين الماء. 8- و بعد صعودها كانت تتضرع إلى إله إسرائيل أن يرشد طريقها لتخلص شعبها. 9- ثم تدخل و تقيم في خيمتها طاهرة إلى أن تأخذ طعامها في المساء.
ع1: بعد اللقاء الأول بين يهوديت وأليفانا، والذى نالت فيه إعجابه الشديد بجمالها، وتقديره لحكمتها، حتى أن وافقها فى كل ما تكلمت به، بل وأعلن استعداده لتبعية إلهها؛ لما رآه فيها من قداسة وتعبد لهذا الإله، الذى سيحقق له الانتصار. أمر أليفانا أن يعد لها مسكنًا فى أحسن الأماكن، بعيدًا عن خيام الجنود والضباط، بجوار مخازن نفائسه، من ذهب وفضة وأحجار كريمة، وأمر أيضًا تكريمًا لها، أن يقدم لها أفخر الطعام والشراب، مما يقدم له شخصيًا.
ع2: غير أن يهوديت، بكل قوة وثقة فى إلهها رفضت، أن تتناول طعامه وشرابه؛ لأن تناولهما يعتبر خطيئة تبعًا لشريعة إلهها. بل قررت أن تتناول ما أحضرته معها من طعام حسب شريعتها.
ليت يكون لك الإيمان والتمسك بالوصية، مهما كانت الظروف المحيطة محرجة. ولا تخف أن تعلن أن الطعام، أو الكلام، أو اللبس العالمى لا يوافقك، بل يعتبر خطية وعثرة أمام الله، رغم أن غيرك يفعل ذلك، فينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس، وثق أن الله سيعطيك نعمة فى أعينهم، فلا يمنعوك من تنفيذ الوصية.
ع3، 4: تحيا نفسك : عبارة تقال ليس فقط كدعاء بالحياة ولكن كقسم، أى “وحياتك لابد أن يتم ما أقوله” وطبعًا كانت الشريعة تسمح بالقسم فى العهد القديم.
وإشفاقًا على يهوديت، وحبًا فيها، تساءل أليفانا عما ستفعله، ومن أين ستأتى بالطعام متى فرغ ما كان معها ؟ فردت يهوديت بكل ثقة بأنه لن يفرغ، حتى يتمم الله مهمتها وما تفكر فيه. وأمام هذه الثقة والقوة ونعمة الله العاملة فيها وافقها أليفانا وسكت، ثم أدخلوها إلى خيمتها. لقد ظن أليفانا أن ما تفكر فيه هو تسليم المدينة له، أما هى فكانت تفكر فى الله الذى سيخلص شعبها على يديها. ولعل ثقة أليفانا بقداسة يهوديت وأنها نبية للآلهة جعله يخضع لكلامها الذى خرج من فمها بهدوء ولكن بقوة عظيمة.
هل لك مثل هذه الثقة فى الله الذى يحميك ويحيط بك وينقذك من أية ضيقة، مهما كانت المعوقات المادية ؟ إن قوة إيمانك تسكت الأشرار فلا يقاومونك.
ع5: وبعدما عاينت يهوديت مكان الخيمة، وما بها، شعرت أنها مناسبة لإقامتها، وإتمام عبادتها فى هدوء، ولكنها بعيدة عن عيون الماء التى تحتاجها للاغتسال قبل إتمام صلواتها، حسب الشريعة الموسوية، فطلبت من أليفانا تصريحًا بالنزول إلى الوادى أسفل الجبل الواقعة عليه مدينتها؛ للاغتسال هناك، إذ أن خيمتها وخيمة أليفانا وخيام خزائنه كانت على تل أعلى ذلك الوادى. وقد طلبت هذا التصريح لمدة ثلاثة أيام فقط كما يفهم من (ع6)، إذ كانت مؤمنة أن الله سيتدخل بعدها، ويخلص شعبه إشفاقًا عليهم، قبل الخمسة أيام التى حددوها قبلاً وذلك بحسب الإعلان الإلهى الذى أشرنا إليه (ص11: 13).
ومدة ثلاثة أيام تشير إلى عدد الثالوث المقدس، أى كمال العمل الإلهى، الذى هو أقوى وأسرع من الجهاد الإنسانى، الذى يشير إليه رقم خمسة، نسبة إلى الجهاد البشرى، والذبائح الموسوية الخمسة، فعمل الله أقوى وأسرع من تصور قلب الإنسان.
وتظهر تقوى يهوديت فى تمسكها بالصلاة ليس فقط أثناء النهار بل فى الهزيع الأخير أى القسم الأخير من الليل، ثم تواصل الصلاة طوال النهار، فهى تصلى ليلاً ونهارًا مع الصوم والنسك والتطهر بالماء بحسب الشريعة. ونلاحظ تدقيقها فى الاغتسال؛ فلم تغتسل بالمياه الموجودة عند الأشوريين، بل بمياه العيون التابعة لمدينتها، إلى هذه الدرجة كانت مدققة.
ع6: ومن عمق إعجاب أليفانا بيهوديت وإقتناعه بصلتها بإلهها وافق، دون أدنى شك فيها، بالرغم من أن عيون الماء التى ستغتسل فيها قريبة من مدينتها، كما يظهر من (ع7).
لا تخجل أن تتمسك بوصايا الله، وكل ما يتطلبه إتمام تلك الوصايا، فالله سيعطيك نعمة فى أعين الآخرين، وسيهئ لك الظروف المناسبة لتحيا معه، حتى لو اختلفت مقاصد الآخرين، وكانت أفكارهم شريرة، بعيدة عن الله.
ع7-9: وبدأت يهوديت فى اليوم التالى مباشرة الاغتسال فى الصباح الباكر فى عين الماء بوادى بيت فلوى ثم كانت تصعد إلى خيمتها، وتواصل الصلاة والصوم حتى المساء فى دموع وتذلل وتضرع لله، كأنها داخل عليتها فى بيتها تواصل حياتها التعبدية وتأكل طعامها المتقشف، ثم تصلى وتستريح أثناء الليل؛ لتستيقظ فى اليوم التالى … وهكذا واصلت عبادتها وكأنها تعيش فى دير وليس وسط معسكر الأعداء.
ما أقوى إيمانك وصلواتك يا يهوديت وتمسكك بالصوم بكل شدة، إنك تخجليننا، نحن المتهاونين، المعتذرين لله بسبب ظروف ومشاكل وضغوط الحياة.
(2) أليفانا يدعو يهوديت للمبيت معه (ع10-14):
10- و كان في اليوم الرابع أن أليفانا صنع عشاء لعبيده و قال لبوغا خصيه إنطلق الآن و اقنع تلك العبرانية أن ترضى بالإقامة معي طوعا. 11- فإنه عار عند الاشوريين أن تسخر المرأة من الرجل و تمضي عنه نقية. 12- فدخل حينئذ بوغا على يهوديت و قال لا تحتشمي أيتها الفتاة الصالحة أن تدخلي على سيدي و تكرمي أمام وجهه و تأكلي معه و تشربي خمرا بفرح. 13- فأجابته يهوديت من أنا حتى أخالف سيدي. 14- كل ما حسن و جاد في عينيه فأنا أصنعه و كل ما يرضى به فهو عندي حسن جدا كل أيام حياتي.
ع10، 11: بعد انقضاء الثلاثة أيام، التى أقامتها يهوديت فى صوم وصلوات وعبادة حارة، منتظرة إعلان الله لمشيئته، كانت المفاجأة، أن يصنع أليفانا عشاءً، أى وليمة لعبيده. وبالطبع المقصود بالعبيد هنا، ضباطه المقربون، وليس كل جيشه البالغ قوامه، مائة وخمسين ألف جنديًا. وقد أقام هذه الوليمة تعبيرًا عن فرحه بالانتصار القريب، وآملاً أن يقضى ليلته مع يهوديت، التى استولى على قلبه جمالها الأخاذ.
ويظهر الفرق واضحًا بين تفكير أولاد الله، وأولاد العالم، عند استعدادهم للأعمال العظيمة، فأولاد الله يلتجئون إليه بصلوات حارة وأصوام قوية، أما الأشرار فينهمكون فى ملذاتهم. وهكذا الضيقات تقودنا للنمو الروحى، فى حين تقود الأشرار لخطايا متنوعة.
وأرسل أليفانا خصيه المدعو “بوغا” (وهو رئيس الحرس الخاص به وكان يختار من الخصيان ويكون متمتعًا بالقوة الجسمانية، فيستطيع أليفانا أن يتمتع ويغرق فى شهواته، دون خوف منه على نسائه) وهذا تأكيد لإنهماك الأشرار وتدبيرهم المحكم لقضاء متعهم الجسدية والانغماس فى الملذات، وقد أرسله مساءً إلى يهوديت، لتوافق على قضاء الليلة فى خيمته، معه على فراشه، دون استخدام قوة، أو إجبار، إذ أنه عار وخزى عند الأشوريين أن تمضى امرأة من عندهم دون أن يضطجعوا معها.
ع12: فذهب إليها بوغا، وهو متهيب من قداستها وصلاحها، وأخبرها برغبة أليفانا، طالبًا منها أن توافق، بلا خجل أو تمنع، إذ أن هذا هو المعتاد والطبيعى عند الأشوريين.
وشجعها بأن اضطجاعها مع أليفانا يعطيها شرفاً عظيماً بأن تكون من جواريه، فتأكل وتشرب معه، أى تكون من أقرب المقربين إليه. وهكذا نرى مدى شهوة أليفانا ويقابلها عفة وقداسة يهوديت وهذا هو السبب فى هزيمة أليفانا، فقد هزم من شهوته ومن عفة يهوديت.
ما أعجب أفكار البشر، إنهم لا يسقطون فى الخطايا فقط، بل يعتبروا ذلك شيئًا عاديًا، ويفتخروا به، وأصبحت الطهارة والاستقامة خزيًا وعارًا. إلى تلك الدرجة يسيطر إبليس على حياتهم وأفكارهم، فاحترس أن تختلط أفكارك بأفكارهم؛ كيلا تتلوث، أو تفقد بعض مبادئك، فتبرر خطاياك وحينئذ تغلق على نفسك باب التوبة، إذ قد صرت مستبيحًا.
ع13، 14: جاد : يراه جيدًا.
وكان موقفًا غاية فى الصعوبة على يهوديت. هل تتمسك بطهارتها وترفض الخضوع لرغبات وشهوات أليفانا الملحة، والتى كانت بالنسبة له شيئًا منطقيًا وطبيعيًا ؟ أم توافق وتتنازل عن طهارتها ؟ … لم ينجدها فى هذا الموقف الحرج إلا صلواتها وعبادتها، على مدى الثلاثة أيام، بل وما سبق ذلك فى بيتها.
ونعتقد أن إعلان الله السابق لها بتفاصيل مهمتها السرية وأن أليفانا سيطلب منها أن تبيت معه جعلها لا تندهش من طلب بوغا، فوافقت بكل ترحيب واتضاع، معبرة عن أن ذلك شرف عظيم لها، تعتز به طوال حياتها. إنها درجة عالية من الإيمان تفوق العقل، فصارت رمزًا للعذراء مريم، التى وافقت أن تخطب لمن يختاره الكهنة؛ لتقيم فى بيته، بينما هى تشتهى أن تكون بتولاً، ومن أجل إيمانها الذى يحير العقول، وفعلاً اختار الله لها القديس يوسف النجار، المسن، الذى سيرعاها وهى محتفظة ببتوليتها.
ويلاحظ أنها قالت فى نهاية كلامها عن أليفانا “كل ما يرضى به فهو عندى حسن جدًا كل أيام حياتى” فهى ترى فى رغبة أليفانا الشهوانية الشريرة، الوسيلة التى يستخدمها الله لإتمام تدبيره لتخليص شعبه من يد الأشوريين، فتظل تمجد الله كل أيام حياتها، الذى استخدم هذه الرغبة الشريرة، فتدبير الله دائمًا حسن ويستحق التمجيد.
(3) يهوديت فى خيمة أليفانا وشربه الخمر (ع15-20):
15- ثم قامت و تزينت بملابسها و دخلت فوقفت أمامه. 16- فاضطرب قلب أليفانا لأنه كان قد اشتدت شهوته. 17- و قال لها أليفانا اشربي الآن و اتكئي بفرح فانك قد ظفرت أمامي بحظوة. 18- فقالت يهوديت أشرب يا سيدي من أجل أنها قد عظمت نفسي اليوم أكثر من جميع أيام حياتي. 19- ثم أخذت و أكلت و شربت بحضرته مما كانت قد هيأته لها جاريتها. 20- ففرح أليفانا بازائها و شرب من الخمر شيئا كثيرا جدا أكثر مما شرب في جميع حياته
ع15، 16: وبعد موافقة يهوديت لبوغا، لبست ثيابًا جميلة براقة، وتزينت بكامل زينتها، كما فعلت منذ ثلاثة أيام فى أول لقاء مع أليفانا.
وأعدت مع وصيفتها طعام عشاء لهما وذهبتا مع بوغا إلى خيمة أليفانا العظيمة، فدخل بوغا وأخبر أليفانا بحضور يهوديت إليه؛ فابتهج جدًا، ثم أدخلت إليه فى مخدعه وبقيت وصيفتها مع بعض الحراس والضباط فى حجرة الاستقبال الخارجية. وعندما رآها انبهر بجمالها وتحركت شهواته بعنف وقوة، إذ كان مشتاقًا لرؤيتها هذه الليلة.
إنها لحظات رهيبة اجتازتها يهوديت، لم يكن لها معين، إلا الله الساكن فيها، الذى سندها وأعطاها قوة، وثباتًا، وجمالاً، لا يقاوم؛ لإتمام مشيئته.
ثق يا أخى أنه عندما يتفرق عنك البشر، فإنك تشعر بمعونة الله، الذى تطلبه أكثر من أى وقت آخر، وهو يزيدك قوة، ويعطيك نعمة فى أعين الآخرين، حتى ولو كانوا يريدون الإساءة إليك.
ع17، 18: حظوة : مكانة متميزة.
وبعد إنصراف بوغا كانت يهوديت واقفة وحدها أمام أليفانا الجالس على سريره، فقال لها إجلسى الآن وكلى واشربى؛ لأنى معجب بك وقد وجدت نعمة فى عينى. فأطاعت يهوديت، بكل ثبات وثقة ولطف واتضاع، أمام أليفانا، مقدمة إياه فى البدء بالأكل والشرب، ومعلنة فرحها العميق فى هذا اليوم العظيم، الذى لم يكن مثله، فى كل أيامها، وكانت تقصد بالطبع أنها بعين الإيمان ترى خلاص الله، الذى سيتم على يديها، بإهلاك هذا الرجل وإنقاذ شعبها. أما هذا الشرير فمن فرط كبريائه لم يشك فى إعجابها به، وأنها تشعر بالفخر لمصاحبته، وقضاء الليلة معه.
إحترس من الكبرياء فإنها تعمى عينى الإنسان، فتنخدع أفكاره ويفقد حكمته، بل وكل حياته.
ع19: ثم خرجت إلى حجرة الاستقبال، وأخذت قطعًا من الصوف فرشتها على الأرض (كما ذُكر فى ترجمة الآباء اليسوعيين) ووضعت الطعام والشراب الذى هيأته لها جاريتها (كما تسمح الشريعة اليهودية)، وجلست تأكل وتشرب. وطبعًا الخمر الذى أحضرته معها كان عصير عنب، قليل التخمير، غير مسكر، ولا يفقد الإنسان وعيه، وإن كان يبدو أمام أليفانا كأى خمر.
وسمح لها أليفانا أن تأكل طعامها وشرابها، كما سبق وذكرنا، من فرط إعجابه بها، لأجل نعمة الله العاملة فيها.
ع20: إزائها : قربها ومواجهتها.
أما هو فازداد فرحًا بوجودها معه، وإذ اطمأن لطاعتها له، وأنها جالسة أمامه بمظهر وديع، تأكل وتشرب، اشتعلت فيه نيران الشهوة بعنف، ففقد اتزانه، وأخذ فى الشراب بلا وعى، بكميات كبيرة، كما لم يفعل طوال حياته، إذ كانت يهوديت جميلة جدًا، زادها الله جمالاً فى عينيه، ووضع فى قلبه الأمان من جهتها، وفقد سلطانه على نفسه واستمر فى الشراب بلا ضابط.
كيف اندفع أليفانا لشرب الخمر بهذه الدرجة ؟ وما الذى دفعه إلا شهواته الردية، وفساد قلبه غير النقى، وقد سمح الله بذلك، ليأتى شره على رأسه، وليخلص شعبه من بين يديه. إن خطيئة الخاطئ تأتى على رأسه قبل أن تصيب الآخرين، لذا فلنسرع إلى التوبة؛ لنحمى أنفسنا من الخطية وننال الغفران فى سر الاعتراف، ونحمى الآخرين من إساءتنا لهم بخطيتنا.