صعود إيليا واليشع يخلفه فى النبوة
إن كان الأصحاح السابق يحدثنا عن نهاية ملك شرير هو أخزيا بمرضه وموته، إذ حل غضب الله عليه، ففى هذا الأصحاح نجد نهاية نبى عظيم، هو إيليا، الذى يرتفع إلى السماء بجسده، ليحيا فى مكانة وعظمة كبيرة عند الله.
(1) إصعاد إيليا فى العاصفة إلى السماء (ع1-11):
1- و كان عند اصعاد الرب ايليا في العاصفة الى السماء ان ايليا و اليشع ذهبا من الجلجال.
2- فقال ايليا لاليشع امكث هنا لان الرب قد ارسلني الى بيت ايل فقال اليشع حي هو الرب و حية هي نفسك اني لا اتركك و نزلا الى بيت ايل. 3- فخرج بنو الانبياء الذين في بيت ايل الى اليشع وقالوا له هل اتعلم انه اليوم ياخذ الرب سيدك من على راسك فقال نعم اني اعلم فاصمتوا. 4- ثم قال له ايليا يا اليشع امكث هنا لان الرب قد ارسلني الى اريحا فقال حي هو الرب و حية هي نفسك اني لا اتركك و اتيا الى اريحا. 5- فتقدم بنو الانبياء الذين في اريحا الى اليشع و قالوا له اتعلم انه اليوم ياخذ الرب سيدك من على راسك فقال نعم اني اعلم فاصمتوا. 6- ثم قال له ايليا امكث هنا لان الرب قد ارسلني الى الاردن فقال حي هو الرب و حية هي نفسك اني لا اتركك و انطلقا كلاهما.
7- فذهب خمسون رجلا من بني الانبياء و وقفوا قبالتهما من بعيد و وقف كلاهما بجانب الاردن.
8- و اخذ ايليا رداءه و لفه و ضرب الماء فانفلق الى هنا و هناك فعبرا كلاهما في اليبس.9- و لما عبرا قال ايليا لاليشع اطلب ماذا افعل لك قبل ان اوخذ منك فقال اليشع ليكن نصيب اثنين من روحك علي.10- فقال صعبت السؤال فان رايتني اوخذ منك يكون لك كذلك و الا فلا يكون.
11- وفيما هما يسيران و يتكلمان اذا مركبة من نار و خيل من نار ففصلت بينهما فصعد ايليا في العاصفة الى السماء.
ع1: الجلجال : مدينة تقع شرق أريحا، على بعد أربعة أميال وشمال بيت إيل، على بعد 13 كم وتقع فى نصيب أفرايم وهى غير الجلجال التى حل فيها يشوع، عند دخوله أرض كنعان.
عندما قرر الرب أن ينقل إيليا فى العاصفة إلى السماء كان إيليا وأليشع تلميذه فى الجلجال وعلى وشك الخروج منها.
ع2: بيت إيل : تقع على بعد إثنا عشر ميلاً من أورشليم.
أراد إيليا أن يكون بمفرده فى هذه الرحلة، فأفهم أليشع أنه موفد من قبل الرب إلى بيت إيل، فطلب منه أن يظل فى الجلجال، فرفض أليشع وأقسم ألا يترك معلمه. وهذا يبين مدى تمسك أليشع بالتلمذة بين يدى إيليا لينال بركته ويتعلم منه، خاصة أن الله قد أعلمه بقرب نهاية حياة إيليا، كما سنفهم من الآيات التالية.
ونلاحظ أن إيليا تنقل بين البلاد، ليتفقد بنو الأنبياء الذين فيها؛ ليباركهم ويودعهم، إذ كان يعلم قرب انتقاله من هذا العالم وقد قال لأليشع أن يظل فى الجلجال، لعله كان يريد الوحدة مع الله فى نهاية حياته، أو ليمتحن مدى تمسك أليشع بالتلمذة على يديه وقد يكون السبب هو محاولة إيليا إخفاء صعوده إلى السماء كنوع من الاتضاع.
ع3: بنو الأنبياء : هم الطلبة فى مدرسة الأنبياء، التى يشرف عليها إيليا ويعلمهم فيها الحياة الروحية.
عند وصولهما إلى بيت إيل جاء بنو الأنبياء المقيمون هناك؛ للقاء أليشع وسألوه إن كان يعلم أن الرب سيأخذ منه اليوم سيده إيليا. أجابهم بأنه يعلم ذلك؛ فليلزموا الصمت؛ لأن الموضوع محزن له.
ع4: أريحا : أريحا مدينة تقع على بعد ثمانية كيلو مترًا غربى نهر الأردن وعلى بعد سبعة وعشرين كيلو مترًا شمال شرق أورشليم، وحوالى إثنتى كيلو مترًا من بيت إيل.
مرة أخرى طلب إيليا من أليشع البقاء فى بيت إيل؛ لأن الرب أوفده فى مهمة إلى أريحا. رفض أليشع، كما فعل فى المرة السابقة وصاحب معلمه إلى أريحا. وهنا يواصل إيليا تفقده لمدارس الأنبياء؛ ليطمئن عليهم ويودعهم ويشجعهم. ويواصل أيضاً أليشع تمسكه بمعلمه، ليتتلمذ عليه، حتى آخر لحظة فى حياته وهو بهذا يفوق تلاميذ المسيح، الذين ناموا فى بستان جثيمانى، مع أن المسيح أعلمهم بقرب انتقاله من هذا العالم.
يلاحظ أيضًا مدى اهتمام إيليا بافتقاد ورعاية أولاده الأنبياء، فسار مسافات طويلة بين كل بلدة والأخرى وكانت مسافة تقدر بعدة أميال وكذلك جهاد أليشع فى الالتصاق بمعلمه، فسار معه هذه المسافات الطويلة وهى ثلاثة عشر كيلو مترًا من الجلجال إلى بيت إيل، ثم اثنا كيلو مترًا كم من بيت إيل إلى أريحا، ثم ثمانية كيلو مترًا كم من أريحا إلى نهر الأردن وهى مسافات استغرقت ساعات طويلة، تساوى حوالى تسع ساعات، أو أكثر وهذا يبين مدى الجدية والاهتمام عند هذان النبيان العظيمان.
? لا تكن متكاسلاً فى صلواتك ومطانياتك فجهادك غالى جدًا عند الله، تجاوب مع محبته، فقد استهان بالآلام لأجلك على الصليب، لا تتكاسل فى افتقاد أولاده والبحث عن كل إنسان بعيد، كما سار المسيح الساعات الطويلة؛ لأجل السامرية. إنه ينتظر محبتك فلا تتباطأ.
ع5: فى أريحا تكرر أيضًا نفس ما حدث من أنبياء بيت إيل (ع3) وتكرر نفس رد أليشع عليهم.
ع6: للمرة الثالثة، أخبر إيليا تلميذه، أن الرب أوفده إلى الأردن وفى هذه المرة أيضًا رفض أليشع البقاء وانطلق مع سيده نحو الأردن.
ع7: علم بنو الأنبياء بقدوم إيليا وأليشع، فحضروا إليهما، حيث كانا يقفان على شاطئ النهر، ووقفوا قبالتهما، أى على بعد منهما، على نفس الجانب من النهر، أى الضفة الغربية للنهر. ويلاحظ أن الخمسين نبيًا كانوا من مدرسة الأنبياء بأريحا وهذا يبين كثرة عدد الأنبياء؛ لأنه إن كان هذا العدد هو بعض الأنبياء من هذه المدرسة، فكم يكون عدد الأنبياء فى جميع المدارس. وهذا يظهر مدى اهتمام إيليا بتلمذة جيل بعده من الأنبياء وأيضًا مدى بركة الله فى إعطاء النبوة لعدد كبير واهتمامهم بالتلمذة على يد إيليا، كل هذا وسط جيل شرير، يعبد الأوثان ويقودهم الملوك الأشرار، مثل آخاب.
ع8: أخذ إيليا رداءه ولفه وضرب به الماء، فانشق إلى نصفين، مما مكن إيليا وأليشع من أن يعبرا على قاع النهر، الذى كان جافًا إلى الضفة المقابلة. وهنا تظهر نعمة الله التى جففت قاع النهر؛ ليعبرا عليه بسهولة.
وتظهر هنا معجزة عظيمة تتكرر للمرة الثالثة، بعد شق البحر الأحمر على يد موسى وشق نهر الأردن على يد يشوع وقد تم هذا لما يلى :
- ليتم صعود إيليا فى هدوء إلى السماء ولا يراه إلا أليشع تلميذه، ذو المستوى الروحى العالى، فهذه المناظر الإلهية لا يحتملها إلا الروحانيين.
- شق النهر يعلن أمام الأنبياء وكل الشعب قوة إيليا؛ ليتمسكوا بتعاليمه ويرفضوا عبادة الأوثان.
- مرور أليشع مع إيليا يعلن مدى مكانته أمام الأنبياء والتى ستزداد ثباتًا، كما سيظهر فى الآيات التالية؛ فيخضعوا له كقائد لهم بعد إيليا.
- عبور إيليا نهر الأردن وسط المياه الواقفة على الجانبين يرمز إلى أن الموت ما هو إلا انتقال، كما نذكر فى أوشية الراقدين؛ لأن إيليا بعد ذلك ارتفع إلى السماء، وذلك إعلانًا أنه لا يكون موت للمؤمنين بالله.
- عبور إيليا وأليشع فى نهر الأردن يذكر الأنبياء والشعب بعبور البحر الأحمر والأردن قبلاً وكل هذا يرمز لسر المعمودية، التى تعبر بنا من العبودية وعبادة الأوثان والشر إلى الحياة الجديدة مع الله.
ع9: لما عبرا قال إيليا لأليشع : أطلب ما تريد قبل أن أتركك. فطلب أليشع أن يحل عليه ضعف ما لدى إيليا من قوة روحية. وميراث الضعف هو نصيب البكر عند توزيع الميراث، فقد طلب إليشع إذن أن يحسب كالإبن البكر لإيليا؛ لأن إيليا كان قد أختاره ليكون نبيًا من بعده (1مل19: 19)، فشعر أليشع باحتياجه الشديد وطلب قوة تسانده فى عمله النبوى العظيم وقيادته لشعب الله.
وليس معنى هذا أن أليشع يصير فى عظمة روحية أكثر من إيليا ولكن ينال قوة مضاعفة فى عمل المعجزات وقد حدث هذا فعلاً كما سنرى فى الأصحاحات التالية.
ورغم أن إيليا كان متجردًا فقيرًا، لكنه كان يملك كل شئ من خلال علاقته بالله، فقال لتلميذه ماذا أهب لك بصلاتى ؟ فأعطاه أكبر من أية عطية يعطيها إنسان غنى للآخرين.
? إنك تملك أكبر قوة فى العالم وهو الصلاة، لتشبع نفسك وتملأ احتياجات من حولك، فثق فى قوة الله التى فيك وارفع قلبك بالصلاة ولا تنظر إلى ضعفك، أو فقرك، أو كثرة خطاياك، فالتوبة تعيد لك بنوتك لله وتطلب من أبيك السماوى كل ما تريد، فيستجاب لك.
ع10: أوضح إيليا لأليشع أن مطلبه كبيرًا وصعبًا ولكن الله القادر على كل شئ سيهبه هذا، لأنه لم يطلب مجد، أو غنى، بل قوة الله، التى تساعده على خدمته ووعده بإتمام هذا الطلب فور رؤيته لانتقال إيليا من العالم، أما قبل رؤيته لذلك، فلن ينال شيئًا، فهذه قوة مرتبطة بتسلمه قيادة الخدمة. وقوله إن رأيتنى تعنى أن المناظر الروحية لا يراها إلا من يهبهم الله هذا، فجيحزى تلميذ أليشع لم ير القوات السمائية، التى تساند معلمه أليشع، إلا بعدما صلى إليشع لأجله، فانفتحت عيناه ورأى (ص6: 17)، فإن رأى أليشع منظر إيليا وهو صاعد، فهذا معناه ختم الله بأن أليشع قد ثبت اختياره ليكون قائدًا روحيًا للشعب وسمح له أن يرى هذا المنظر الروحانى وهو صعود إيليا وبالتالى ينال فى نفس الوقت القوة لمباشرة خدمته.
? النعم الإلهية وافرة والرب مستعد لمنحها لمن يطلبها من أولاده، ولكن علينا أن نطلبها بإلحاح بالصلاة المستمرة، مرتكزين على وعد السيد المسيح القائل : “أطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم” (مت7: 7) خاصة وإن كنت تشعر بكبر المسئولية التى تواجهك وحاجتك إلى مساندة الله.
ع11: بعد عبور أليشع مع معلمه إيليا نهر الأردن، سارا معًا على الضفة الشرقية لهذا النهر وأليشع يحاول أن يسأل معلمه ويستفيد منه فى آخر لحظات حياته وفيما هما يسيران، أقبلت عليهما من السماء مركبة من النار، يجرها خيول نارية وهذه المركبة وخيولها هى ملائكة، ظهرت بهذا الشكل النارى، كما تكرر ظهورها مع أليشع فى (2مل6: 17)، فخاف أليشع وتباعد جانبًا، ففصلت هذه المركبة بينه وبين معلمه إيليا؛ لتعلن أن إيليا ذا مكانة روحية عالية وسينضم إلى السمائيين، ثم ركب إيليا فى هذه المركبة النارية. وحينئذ رأى أليشع عاصفة تحمل هذه المركبة وترتفع بها إلى السماء، فى منظر عظيم ومهوب وظلت عينى أليشع معلقة بمعلمه ومركبته النارية حتى اختفى عن الأنظار.
إن صعود إيليا إلى السماء يؤكد أن اعلان الحق فضيلة عظيمة، تفرح بها السماء؛ لذا فقد ارتفع إيليا بسبب هذه الفضيلة؛ ليكون مع السمائيين وليشجع كل إنسان على إعلان الحق مهما كلفه من ثمن عظيم، حتى لو كانت حياته.
ولعل صعود إيليا فى مركبة نارية يتفق مع حياته النارية فى احساسه بوجود الله معه وقوته فى إعلان الحق.
إن صعود إيليا إلى السماء يرمز إلى قيامة المسيح وصعوده إلى السموات؛ ليعد لنا مكانًا ويصعدنا إلى الملكوت، بعد انتهاء حياتنا على الأرض.
(2) بداية خدمة أليشع (ع12-18):
12- و كان اليشع يرى و هو يصرخ يا ابي يا ابي مركبة اسرائيل و فرسانها و لم يره بعد فامسك ثيابه و مزقها قطعتين. 13- و رفع رداء ايليا الذي سقط عنه و رجع و وقف على شاطئ الاردن. 14- فاخذ رداء ايليا الذي سقط عنه و ضرب الماء و قال اين هو الرب اله ايليا ثم ضرب الماء ايضا فانفلق الى هنا و هناك فعبر اليشع. 15- و لما راه بنو الانبياء الذين في اريحا قبالته قالوا قد استقرت روح ايليا على اليشع فجاءوا للقائه و سجدوا له الى الارض. 16- و قالوا له هوذا مع عبيدك خمسون رجلا ذوو باس فدعهم يذهبون و يفتشون على سيدك لئلا يكون قد حمله روح الرب و طرحه على احد الجبال او في احد الاودية فقال لا ترسلوا. 17- فالحوا عليه حتى خجل و قال ارسلوا فارسلوا خمسين رجلا ففتشوا ثلاثة ايام و لم يجدوه. 18- و لما رجعوا اليه و هو ماكث في اريحا قال لهم اما قلت لكم لا تذهبوا.
ع12: فيما كان أليشع يرى المركبة ترتفع بمعلمه إيليا إلى السماء وتكاد تختفى عن نظره، كان ينادى معلمه بصوت عظيم ويقول له “يا أبى”، فقد ارتبط به كأب وتتلمذ على يديه سنوات طويلة، قاربت الستة عشر عامًا، رأى فيها معلمه قائدًا روحيًا قويًا، يقود بنى إسرائيل ويدعوهم للحياة مع الله، لذا ناداه بأنه مركبة إسرائيل وفرسانها، فهذه المركبة التى أعلنت نهاية حياة إيليا على الأرض هى إعلان عن خدمته، التى كان يقود فيها الشعب، كمن يركب مركبة وتتبعه جموع الشعب فى طريق الله.
وكان أليشع متألمًا جدًا من فراق معلمه له وعبر عن حزنه الشديد بشق ثيابه وهى عادة شرقية قديمة، تعملها شعوب كثيرة ومازالت حتى الآن فى صعيد مصر.
وشق الثياب معناه أيضًا إحساسه بعظم المسئولية، التى صارت له فى قيادة هذا الشعب العظيم، الذى غرق معظمه فى عبادة الأوثان.
? لتكن عيناك متعلقتان بالسماء وبالقديسين آبائك الذين يشفعون فيك، فتتلمذ على سيرهم وتتمتع بصداقتهم، فترتفع حياتك نحو السماء وتستعد للملكوت.
ع13: عند صعود إيليا فى المركبة النارية سقط رداءه عنه على الأرض وكان هذا بالطبع بتدبير الله ليأخذه أليشع، ليس فقط كبركة من معلمه ولكن لأن هذا الرداء له ذكرى فى قلب أليشع لا يمكن أن ينساها، إذ منذ ستة عشر عامًا طرحه إيليا عليه، عندما كان يحرث فى حقول أبيه ودعاه للخدمة، وظل يتتلمذ ملاصقًا لمعلمه طوال هذه المدة. والآن يبدأ ممارسة خدمته التى دعاه الله إليها، لذا أمسك بالرداء، أى بدعوة الله. وبقوة الله يستطيع أن يبدأ وليس بنفسه وهذا الرداء أيضًا، منذ ساعات قريبة شق نهر الأردن، فعبر هو وإيليا على أرض النهر الجافة، فهذا الرداء يمثل قوة الله المساندة له مثل عصا موسى التى يصنع بها المعجزات.
وعندما أمسك أليشع برداء إيليا وقف أمام نهر الأردن؛ ليصنع أول معجزاته.
ع14: أراد أليشع أن يعبر نهر الأردن؛ ليصل إلى الأنبياء الواقفين على الشاطئ الآخر، أى الغربى لنهر الأردن وإذ كان ممسكًا برداء إيليا آمن بقوة هذا الرداء، فضرب به ماء النهر لينفلق ويعبر، كما أتى قبلاً مع إيليا ولكن لم يحدث شيئًا، فشعر أن القوة ليست فى الرداء، بل فى الله العامل به، فصرخ إلى الله طالبًا معونته وكما عمل مع إيليا هو محتاج أن يعمل معه الآن؛ لذا قال أين الرب إله إيليا ؟ وحينئذ امتلأ قلبه إيمانًا أقوى ولم يتشكك، بل رفع الرداء وضرب به النهر، فانفلق إلى نصفين؛ ليعبر أليشع بينهما. وهكذا ظهر أمام الأنبياء وبالتالى كل الشعب أنه كما شق إيليا النهر هكذا أيضًا أليشع شقه، أى أن قوة الله التى كانت عاملة فى إيليا هى نفسها تعمل فى أليشع.
? كن ثابتًا فى إيمانك حتى لو لم يستجب لك الله سريعًا، فقد يتأخر الله ليعلمك أمورًا كثيرة، مثلما علم أليشع أن القوة منه وليست فى الماديات فى حد ذاتها وإن لم تفهم سريعًا قصد الله، فستفهم إن واصلت الصلاة ويستريح قلبك.
ع15: عندما رآه بنو الأنبياء الساكنين فى أريحا قادمًا نحوهم تيقنوا أن روح إيليا قد استقرت على أليشع، فجاءوا للقائه وسجدوا أمامه – سجود الاحترام والتبجيل، معترفين وموقنين أنه أخذ مكان إيليا.
ع16: بعدما سجد بنو الأنبياء لأليشع؛ لأنه صنع معجزة شق النهر ورأوه وحده دون إيليا، كانت عيونهم تتساءل عن إيليا، فأخبرهم أليشع بما رآه وكيف صعد إيليا فى المركبة النارية والعاصفة إلى السماء حتى اختفى عن نظره، فلتعلق هؤلاء الأنبياء بإيليا العظيم، ولضعفهم الروحى لم يقدروا أن يفهموا أن إيليا قد انتقل إلى السماء ولن يروه مرة أخرى، فتخيلوا أن هذه المركبة النارية يمكن أن تنقله من مكان إلى آخر، فهى مجرد إعلان لعظمة نبيهم إيليا، الذى تأتى مركبة من السماء لتنقله إلى مكان آخر، وقد فهموا أن هذه المركبة وخيولها عبارة عن ملائكة، أى أن روح الله هو الذى ارتفع به إلى السماء وظنوا أن المركبة نقلته إلى أحد الجبال، أو الأودية، فطلبوا من اليشع الذى خضعوا له كقائد جديد لهم أن يسمح لهم بالبحث عن إيليا، خاصة وأن عددهم كان كبيرًا، أى خمسين رجلاً، فرفض أليشع لثقته أن معلمه قد ارتفع إلى السماء. وقد ظن الأنبياء أن إيليا قد انتقل إلى مكان آخر؛ لأنهم تعودوا أن يختفى عنهم فترات؛ لمحبته للوحدة والصلاة طوال حياته ولم يفهموا أن هذه هى النهاية.
ع17: رغم نهى أليشع للأنبياء حتى لا يبحثوا عن إيليا لكنهم كرروا طلبهم مرات كثيرة، حتى خجل إليشع منهم وهذا يبين مدى رقة مشاعره، فهو جبار بقوة الله المساندة له، لكن مشاعره رقيقة ويخجل كإنسان من إلحاح الناس عليه، فوافق أن يذهب للبحث عن إيليا، رغم عدم اقتناعه بما يعملوه وثقته أن إيليا قد صعد إلى السموات.
سبب آخر لموافقته، حتى لا يظنوا أنه محب للرئاسة ومتعجل لقيادة الشعب ولا يريد رجوع إيليا، ليكون هو القائد.
ظلوا يبحثون عن إيليا ثلاثة أيام ولم يجدوه وكان هذا إعلانًا مؤكدًا أنه صعد إلى السموات ولم يذهب لمكان آخر على الأرض.
ع18: مكث أليشع فى أريحا ثلاثة أيام، حتى رجع بنو الأنبياء إليه وأعلموه أنهم لم يجدوا إيليا، فقال لهم أما قلت لكم لا تبحثوا عنه ! أى لماذا شككتم فيما قلته لكم ؟ وكان هذا إعلانًا إلهيًا ثانيًا – بعد شقه النهر – أنهم ينبغى أن يطيعوا أليشع فى كل شئ، لأن روح الله فيه. وأليشع هنا يرمز للمسيح، الذى يطيل أناته على المتشككين وكل من لا يطيعوه، مثلما احتمل شك توما.
(3) إبراء المياه (ع19-22):
19- و قال رجال المدينة لاليشع هوذا موقع المدينة حسن كما يرى سيدي و اما المياه فردية و الارض مجدبة. 20- فقال ائتوني بصحن جديد و ضعوا فيه ملحا فاتوه به. 21- فخرج الى نبع الماء و طرح فيه الملح و قال هكذا قال الرب قد ابرات هذه المياه لا يكون فيها ايضا موت و لا جدب. 22- فبرئت المياه الى هذا اليوم حسب قول اليشع الذي نطق به.
ع19: ردية : غير صالحة للشرب ومؤذية للصحة وقد تكون سامة.
مجدبة : غير مثمرة.
سمع المسئولون عن مدينة أريحا من بنى الأنبياء عما صنعه أليشع، بشق نهر الأردن وأنه أصبح النبى القائد للشعب، فانتهزوا فرصة وجوده فى مدينتهم؛ ليحل لهم مشكلة أساسية يعانون منها وهى أنه رغم أن موقع مدينتهم الحسن عند سفح الجبل وأمامها وادى نهر الأردن، لكن النبع الرئيسى الذى يروى المدينة كانت مياهه غير صالحة للشرب، أو الزراعة ولعلهم كانوا يشربون من أبار مياه صغيرة داخل، أو خارج المدينة، أما الزراعة فكانت شبه منعدمة؛ لعدم وجود ماء كافى للزراعة.
ع20: إهتم أليشع بمشكلتهم وتقدم ليحلها لهم حتى إذا رأوا المعجزة يؤمنوا بالله ويبتعدوا عن عبادة الأوثان. فطلب صحنًا جديدًا وهذا يرمز لتجديد السلوك والحياة مع الله، حتى يباركنا ويعمل فينا بقوة. ثم طلب أيضًا ملحًا يوضع فى الصحن. والملح ليس مادة لإصلاح الماء، بل لإفساده، فلا يصير الماء المالح صالحًا للشرب أو الزراعة ولكن ليبين أن القوة من الله وليس من المادة؛ وقد استخدم المادة لتكون مرئية لعيون الناس وملموسة؛ ليتحققوا من إتمام المعجزة، كما تستخدم الكنيسة المواد فى إتمام أسرارها السبعة. والملح يرمز للمؤمنين الذين يصلحون الأرض بسلوكهم النقى، كما يصلح الملح الطعام، فيكون مذاقه حسنًا؛ لذا قال المسيح أنتم ملح الأرض (مت5: 13).
وبالطبع قليل من الملح لا يمكن أن يصلح نبع ماء كامل ولكن المقصود هو قوة الله، التى تعمل وتستخدم مادة؛ لتطمئن قلوب الناس.
ع21، 22: أخذ أليشع الطبق والملح وخرج إلى نبع الماء وطرح الملح فيه وأعلن بإيمان أن الماء قد برئ ولم يعد فيه أية مواد غريبة تسبب موت الإنسان، أو الحيوان، أو النبات، أى صار عذبًا صالحًا للشرب والزراعة وظل هذا الماء عذبًا، حتى أيام أرميا حينما كُتب هذا السفر ويُظن أن هذا النبع مازال موجودًا حتى الآن ويسمى “نبع السلطان”.
? لا تنزعج من أية مشكلة تمر بك، بل التجئ لله وتشفع بالقديسين واطلب إرشاد الآباء الروحيين، واثقًا أن الله لن يتركك ويحل مشاكلك وهو قادر على كل شئ.
(4) سخرية الأطفال من أليشع (ع23-25):
23- ثم صعد من هناك الى بيت ايل و فيما هو صاعد في الطريق اذا بصبيان صغار خرجوا من المدينة و سخروا منه و قالوا له اصعد يا اقرع اصعد يا اقرع. 24- فالتفت الى ورائه و نظر اليهم و لعنهم باسم الرب فخرجت دبتان من الوعر و افترستا منهم اثنين و اربعين ولدا. 25- و ذهب من هناك الى جبل الكرمل و من هناك رجع الى السامرة.
ع23: بعد أن صنع أليشع معجزته العظيمة فى أريحا، ذهب إلى بيت إيل، ليفتقد مدرسة الأنبياء ويهتم بشعبها،وكانت “بيت إيل” مقرًا لعبادة العجل الذى صنعه يربعام أول من شق اليهود لمملكتين، وجعل شعبه يعبد الأوثان؛ ولعلنا نذكر أن “بيت إيل” معناها “بيت الله” وهى المدينة والمكان الذى خصصه يعقوب لإسم الله بعد أن رآه فى حلمه هناك؛ وبالطبع كان سكانها يرفضون سماع كلام الأنبياء؛ لعدم إيمانهم بالله، بل كانوا يسخرون منهم، فعندما رأى سكان بيت إيل أليشع مقبلاً من بعيد هيجوا فتيانهم، فخرجوا من المدينة بأعداد كبيرة قد تكون مئتين، أو ثلثمائة واستقبلوا أليشع بسخرية شديدة، فعيروه بأنه أقرع وكرروا ذلك أكثر من مرة استهزاءً به.
ولعلهم كانوا يقصدون بإصعد، أى إصعد إلى السماء مثل معلمك إيليا، الذى تتخيل أنه صعد إلى السماء، أى يسخرون منه؛ لأنهم لا يؤمنون بأن إيليا صعد إلى السماء، ولا بكرامة أليشع كنبى وهذا فى غاية الغرابة؛ لأنهم قطعًا سمعوا بمعجزته فى إبراء الماء فى أريحا وفرح كل شعبها بهذا.
ع24: الوعر : الأماكن المقفرة الغير مأهولة بالسكان.
نظر أليشع إلى جماهير الفتيان التى تسخر منه ولم يتضايق لأجل نفسه، لكن تضايق لأجل إصرار المدينة على رفض الله، مظهرين ذلك فى الاستهزاء بنبيه وأعلن غضب الله على المدينة، بأن لعن هؤلاء الفتيان، فخرجت دبتان من البرية وهجمت على الصبيان فقتلت منهم اثنين وأربعين صبيًا. ولأن أليشع لا يقصد غيظ شخصى ولكن مجد الله، فقد استجاب الله للعنته للأطفال، فخرجت الدبتان وقتلت عددًا منهم، لعل أهل المدينة يخافون الله ويتركون عبادة الأوثان ويرجعوا بالتوبة.
? إن الله يستخدم الحنان والحب أحيانًا، ليجتذب أولاده إليه، أو الغضب فى ضيقات شديدة؛ ليجذبهم ايضًا إليه، فهو يريد خلاص الكل ويستخدم طرقًا متنوعة لتوبة أولاده. فليتك تنتبه إلى رسائل الله سواء حنانه، أو غضبه، فتعود إليه بتوبة وتجد خلاص نفسك.
ع25: الكرمل : سلسلة جبال تكسوها الغابات المثمرة وهى قريبة من يافا، التى على ساحل البحر الأبيض المتوسط والكرمل يشرف على سهل يزرعيل.
السامرة : عاصمة المملكة الشمالية، التى تضم العشرة أسباط وهى فى مكان متوسط بين الجليل فى الشمال واليهودية فى الجنوب.
تحرك اليشع إلى الكرمل، حيث قتل إيليا أنبياء البعل، ثم منها اتجه إلى السامرة عاصمة المملكة الشمالية وهناك أقام له بيتًا (ص5: 3، 9، ص6: 32).