هروب داود إلى “نوب” و”جت
(1) هروب داود إلى نوب (ع1-9) :
1فَجَاءَ دَاوُدُ إِلَى نُوبٍ إِلَى أَخِيمَالِكَ الْكَاهِنِ. فَاضْطَرَبَ أَخِيمَالِكُ عِنْدَ لِقَاءِ دَاوُدَ وَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا أَنْتَ وَحْدَكَ وَلَيْسَ مَعَكَ أَحَدٌ؟» 2فَقَالَ دَاوُدُ لأَخِيمَالِكَ الْكَاهِنِ: «إِنَّ الْمَلِكَ أَمَرَنِي بِشَيْءٍ وَقَالَ لِي: لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ شَيْئاً مِنَ الأَمْرِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ فِيهِ وَأَمَرْتُكَ بِهِ. وَأَمَّا الْغِلْمَانُ فَقَدْ عَيَّنْتُ لَهُمُ الْمَوْضِعَ الْفُلاَنِيَّ وَالْفُلاَنِيَّ. 3وَالآنَ فَمَاذَا يُوجَدُ تَحْتَ يَدِكَ؟ أَعْطِ خَمْسَ خُبْزَاتٍ فِي يَدِي أَوِ الْمَوْجُودَ». 4فَأَجَابَ الْكَاهِنُ دَاوُدَ: «لاَ يُوجَدُ خُبْزٌ مُحَلَّلٌ تَحْتَ يَدِي, وَلَكِنْ يُوجَدُ خُبْزٌ مُقَدَّسٌ إِذَا كَانَ الْغِلْمَانُ قَدْ حَفِظُوا أَنْفُسَهُمْ لاَ سِيَّمَا مِنَ النِّسَاءِ». 5فَأَجَابَ دَاوُدُ الْكَاهِنَ: «إِنَّ النِّسَاءَ قَدْ مُنِعَتْ عَنَّا مُنْذُ أَمْسِ وَمَا قَبْلَهُ عِنْدَ خُرُوجِي وَأَمْتِعَةُ الْغِلْمَانِ مُقَدَّسَةٌ. وَهُوَ عَلَى نَوْعٍ مُحَلَّلٌ, وَالْيَوْمَ أَيْضاً يَتَقَدَّسُ بِالآنِيَةِ». 6فَأَعْطَاهُ الْكَاهِنُ الْمُقَدَّسَ, لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خُبْزٌ إِلَّا خُبْزَ الْوُجُوهِ الْمَرْفُوعَ مِنْ أَمَامِ الرَّبِّ لِيُوضَعَ خُبْزٌ سُخْنٌ فِي يَوْمِ أَخْذِهِ. 7وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ مِنْ عَبِيدِ شَاوُلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَحْصُوراً أَمَامَ الرَّبِّ اسْمُهُ دُوَاغُ الأَدُومِيُّ رَئِيسُ رُعَاةِ شَاوُلَ. 8وَقَالَ دَاوُدُ لأَخِيمَالِكَ: «أَفَمَا يُوجَدُ هُنَا تَحْتَ يَدِكَ رُمْحٌ أَوْ سَيْفٌ, لأَنِّي لَمْ آخُذْ بِيَدِي سَيْفِي وَلاَ سِلاَحِي لأَنَّ أَمْرَ الْمَلِكِ كَانَ مُعَجِّلاً؟» 9فَقَالَ الْكَاهِنُ: «إِنَّ سَيْفَ جُلْيَاتَ الْفِلِسْطِينِيِّ الَّذِي قَتَلْتَهُ فِي وَادِي الْبُطْمِ هَا هُوَ مَلْفُوفٌ فِي ثَوْبٍ خَلْفَ الأَفُودِ, فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَهُ فَخُذْهُ, لأَنَّهُ لَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ هُنَا». فَقَالَ دَاوُدُ: «لاَ يُوجَدُ مِثْلُهُ. أَعْطِنِي إِيَّاهُ».
ع1: نوب : تقع شمال شرق أورشليم وعلى بعد 8كم من جبعة بلدة شاول، وحسبت مدينة للكهنة لأن خيمة الاجتماع انتقلت إليها بعد خراب شيلوه مع أنها ليست من مدن الكهنة التى خصصها يشوع (يش21).
كانت بلدة “نوب” هى البلدة التى انتقلت إليها خيمة الاجتماع بعد وجودها زمانًا ببلدة “شيلوه”، وبالتالى انتقل أيضًا إليها رئيس الكهنة “أخيمالك بن أخيطوب” بن “عالى” وهو نفسه “أخيا ابن أخيطوب” أو شقيقًا له (1صم14: 3، 18)، وكان “أبياثار” الكاهن ابنه يسـاعده فى الخدمة (1أى15: 11، مر2: 26).
عندما رأى أخيمالك داود تعجب وخاف من زيارته الغير متوقعة، ولكونه وحيدًا وبلا موكب من الرجال كما كان ينبغى أن يكون إذ أنه قائد حربى، واستفسر منه عن سبب زيارته المفاجئة وإتيانه وحيدًا …
وعندما يذكر سفر أخبار الأيام أو إنجيل مرقس أن داود قابل أبياثار رئيس الكهنة فى نوب، فالمقصود أنه ابن أخيمالك فقد كان معه وسيصير رئيس كهنة بعده، والمسيح لم يذكر أن أبياثار هو الذى أعطى لداود الخبز بل قال فى أيام أبياثار.
ومجئ داود إلى نوب كان لطلب صلوات أخيمالك وابنه أبياثار بالإضافة إلى طلبه منهم طعام وسلاح كما سيظهر فى الأبيات التالية.
ع2: أجاب داود أخيمالك بالكذب، إذ خاف أن يعلمه بمطاردة شاول له وطلب قتله، (وبالطبع كانت هذه نقطة ضعف بشرى ما كان ينبغى أن يقع داود فيها ولكن الله يعرض لنا صور الضعف البشرى حتى نتعلم منها أيضًا). وأخبره داود أنه مرسل من الملك فى مهمة سرية لا يستطيع الإفصاح عنها كأمر الملك، وأجابه عن الغلمان بأنه حدد لهم أماكن للاختباء فيها ما بين هنا وهناك. والله سامح داود على كذبه وعدم التجائه إليه بالصلاة أو سؤال صموئيل لأنه دائمًا يرجع إليه بالتوبة سريعًا ولا يصر على خطاياه مثل شاول، فهو بالفعل قلبه مثل قلب الله.
ع3: ماذا يوجد تحت يدك ؟! بهذا السؤال عبر داود عن احتياجه للطعام، ثم طلب من أخيمالك خمس خبزات له وللغلمان أو أى شئ متاح ومتوفر للأكل.
ع4: خبز محلل : أى خبز عادى وحلال أن يأكله أى إنسان.
خبز مقدس : المقصود به خبز مائدة الوجوه والذى لا يأكله سوى الكهنة.
أجاب أخيمالك داود بأنه لا يوجد لديه أى خبز جاهز يمكن أن يأكله الرجال، ولكن الخبز المتوفر والموجود حاليًا هو خبز مائدة الوجوه والذى لا يأكله سوى الكهنة، ولكن كنوع من المرونة وإنقاذ للموقف وإنجاح لمهمة داود والملك أشار “أخيمالك” بأن داود يمكنه أخذ الخبز وأكله مع الغلمان إذا كانوا طاهرين جسديًا ولم يمسوا زوجاتهم.
ع5: اليوم أيضًا يتقدس بالآنية : الخبز الجديد الموضوع فى الآنية على مائدة خبز الوجوه يتقدس بوضعه فيها، أى بعد أخذى الخبز المحلّل يبقى خبز مقدس فى خيمة الاجتماع.
على نوع محلل : أن الخبز رفع عن المائدة وبالتالى يمكن فى حالة الاحتياج الشديد مثل حالة داود أن يأكلوه حتى لا يخور فى الطريق هو ورجاله بشرط طهارتهم.
أكد داود لأخيمالك الكاهن بأنه ورجاله طاهرون وأنهم لم يمسوا النساء منذ يومين ومنذ خروجهم من “جبعة شاول”، وكذلك أمتعة الغلمان طاهرة لم يمسها نجس، وبالتالى يصير الأمر حلالاً لا شر فيه.
ع6: بعدما طمأن “داود” أخيمالك” الكاهن، أخذ الخبز منه وهو الخبز القديم الذى رفعه الكاهن من على المائدة ووضع عوضًا عنه خبزًا جديدًا.
? من الأمور الجميلة التى صنعها داود هى أن أول مكان قرّر اللجوء إليه هو بيت الرب وأول إنسان تكلم معه هو الكاهن، لعلنا نفعل نحن هذا أيضًا، فتكون الكنيسة أول مكان نلجأ إليه، فبركة الله فى بيته هى التى تسندك فى كل خطوات حياتك وتعطيك نعمة فى أعين كل من تقابلهم وترشدك إلى التصرف الحسن.
ع7: يذكر هذا العدد رجلاً سيكون له دور فى الأحداث فيما بعد (ص22)، وهذا الرجل كان يعمل عند شاول كرئيس لرعاة ماشيته، وتصادف وجوده فى خيمة الاجتماع إذ كان عليه نذر أو ضرورة دعته أن يتواجد هناك وهو ما عبر عنه الوحى بتعبير “كان محصورًا”. ونعلم من اسمه أن أصله كان من الأدوميين أى من نسل عيسو وتهود فهو من أتباع شاول.
ع8: بادر “داود” أخيمالك الكاهن بطلب ثانٍ وهو أن يمده بأى سلاح، وقدم عذره بعدم حمله سلاحه وهو سرعته فى الخروج بحسب أمر الملك مما جعله ينسى سلاحه.
ع9: أجاب أخيمالك داود بأنه ليس لديه أى سلاح سوى سيف جليات الفلسطينى الذى سبق وقتله، وقد احتفظ الشعب بهذا السيف فى خيمة الاجتماع كتذكار لعمل الله معهم، وقد خبأه أخيمالك فى ركن بالخيمة ووضع أمامه “الأفود” وهو من لباس الكهنة وسبق الكلام عنه مرارًا. فأخذ داود السيف وقال أنه لا يوجد مثله وذلك لأمرين :
- لأنه جيد الصنع إذ كان يستخدمه هذا الجبار جليات.
- لأنه يذكره بعمل الله وحمايته له من جليات، فيتذكر دائمًا مساندة الله له عندما يكون معه هذا السيف.
ونلاحظ أنه عندما قتل داود جليات، وهذه أكبر تقدمة يقدمها إنسان فى هذا الوقت لله لأنها بدل حياته، باركه الله وأعطاه سيف جليات بعد ذلك ليحارب به وحفظه فى كل مطاردات شاول له. فعندما يعطى إنسان شيئًا لله، يباركه الله ويعطيه أكثر وأكثر.
(2) هروب داود إلى “جت” وتظاهره بالجنون (ع10-15):
10وَقَامَ دَاوُدُ وَهَرَبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَمَامِ شَاوُلَ وَجَاءَ إِلَى أَخِيشَ مَلِكِ جَتَّ. 11فَقَالَ عَبِيدُ أَخِيشَ لَهُ: «أَلَيْسَ هَذَا دَاوُدَ مَلِكَ الأَرْضِ؟ أَلَيْسَ لِهَذَا كُنَّ يُغَنِّينَ فِي الرَّقْصِ قَائِلاَتٍ: ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رَبَوَاتِهِ؟». 12فَوَضَعَ دَاوُدُ هَذَا الْكَلاَمَ فِي قَلْبِهِ وَخَافَ جِدّاً مِنْ أَخِيشَ مَلِكِ جَتَّ.
13فَغَيَّرَ عَقْلَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ, وَتَظَاهَرَ بِالْجُنُونِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ, وَأَخَذَ يُخَرْبِشُ عَلَى مَصَارِيعِ الْبَابِ وَيُسِيلُ رِيقَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ. 14فَقَالَ أَخِيشُ لِعَبِيدِهِ: «هُوَذَا تَرَوْنَ الرَّجُلَ مَجْنُوناً, فَلِمَاذَا تَأْتُونَ بِهِ إِلَيَّ؟ 15أَلَعَلِّي مُحْتَاجٌ إِلَى مَجَانِينَ حَتَّى أَتَيْتُمْ بِهَذَا لِيَتَجَنَّنَ عَلَيَّ؟ أَهَذَا يَدْخُلُ بَيْتِي؟».
ع10: سبق وأشرنا أن “جت” هى أحد مدن الفلسطينيين الخمس الكبرى وكان ملكها هو أخيش؛ وقد ذهب إليها “داود” فى خطوة غير متوقعة، ولكنه ذهب إليها كلاجئ سياسى كالتعبير الذى نستخدمه الآن، وكان تفكير “داود” أن جت هى المكان الذى لن يبحث فيه شاول أو يهاجم هذه المدينة الكبيرة من أجل داود. وكانت شجاعة غير عادية من داود أن يهرب إلى جت لأنه معرض للموت، ولكنه قد يكون قال فى نفسه أن أخيش سيقبله نكاية فى شاول لأنه يعادى شاول وإذا رأى أن داود قد ترك شاول وانضم إليه سيكسبه بطلاً يحارب به شاول، ولكن مازال الخوف بداخله أن أخيش ربما يقبض عليه ويقتله.
ع11: نفهم من الكلام أن أخيش قبل داود للاحتماء فى مدينته أو على الأقل لم يهتم لوجوده، ولكن رؤساء شعبه ومستشاريه لم يعجبهم ذلك، فخاطبوا أخيش مذكرين إياه بأن داود هو الرجل الذى ألحق الخزى بالفلسطينيين بعد قتل جليات وهو بطل إسرائيل الذى هتفت من أجله النساء.
ع12، 13: وصل هذا الكلام إلى “داود” وخاف جدًا من تأثر “أخيش” بأعوانه وكلامهم فيقوم بقتله، ولهذا توصل إلى فكرة جديدة وهى اصطناع الجنون والخبل، فبدأ يسيل لعابه على ذقنه ويخربش بأظافره على الأبواب كالمجانين.
? نلاحظ أن داود حتى ينجو بحياته لجأ للأساليب البشرية ولم يلجأ لله القادر على نجاته من الشر، فبدأ أولاً بالكذب على الكاهن ثم الالتجاء لمدن الأعداء دون طلب رأى الله، وبفكره البشرى أيضًا ادعى الجنون لينجو بحياته ناسيًا ما قاله لجليات سابقًا أن قوته فى اسم رب الجنود … !! أخى الحبيب لا تلجأ للكذب عند الخطر أو الضغط عليك، بل إلجأ إلى الله واترك له التدبير. إثبت فى إيمانك حتى لو حاربك الفكر بأن الأمور ستتعقد، فالله قادر أن يحل كل مشاكلك إن اتكلت عليه.
ع14، 15: كان غرض الرجال من كلامهم مع “أخيش” أن يأتوا بداود إليه فيحاكمه ويصدر عليه حكم الموت، ولكن هنا نرى عمل الله من أجل حماية “داود”، إذ وضع فى قلب “أخيش” أن داود صار رجلاً مجنونًا فكيف يدخله إلى مجلسه أو إلى بيته، واستنكر هذا التصرف على نفسه أمام رجاله ورفض بالفعل عمل أى شئ مع داود.
وكان داود يصلى فى كل هذه المواقف فصلى المزمور “34”، ومن أجل هذا كان الله ينجيه رغم ضعفه البشرى بالكذب، لأنه إنسان بار ومظلوم، فالله يدافع عن أولاده الضعفاء الملتجئين إليه.