عودة داود للملك
(1) يوآب يؤنب داود على حزنه (ع1-8):
1فَأُخْبِرَ يُوآبُ: «هُوَذَا الْمَلِكُ يَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَى أَبْشَالُومَ». 2فَصَارَتِ الْغَلَبَةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَنَاحَةً عِنْدَ جَمِيعِ الشَّعْبِ، لأَنَّ الشَّعْبَ سَمِعُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْمَلِكَ قَدْ تَأَسَّفَ عَلَى ابْنِهِ. 3وَتَسَلَّلَ الشَّعْبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا يَتَسَلَّلُ الْقَوْمُ الْخَجِلُونَ عِنْدَمَا يَهْرُبُونَ فِي الْقِتَالِ. 4وَسَتَرَ الْمَلِكُ وَجْهَهُ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا أَبْشَالُومُ ابْنِي يَا ابْنِي!»
5فَدَخَلَ يُوآبُ إِلَى الْمَلِكِ إِلَى الْبَيْتِ وَقَالَ: «قَدْ أَخْزَيْتَ الْيَوْمَ وُجُوهَ جَمِيعِ عَبِيدِكَ، مُنْقِذِي نَفْسِكَ الْيَوْمَ وَأَنْفُسِ بَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَأَنْفُسِ نِسَائِكَ وَأَنْفُسِ سَرَارِيِّكَ، 6بِمَحَبَّتِكَ لِمُبْغِضِيكَ وَبُغْضِكَ لِمُحِبِّيكَ. لأَنَّكَ أَظْهَرْتَ الْيَوْمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ رُؤَسَاءُ وَلاَ عَبِيدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ الْيَوْمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَبْشَالُومُ حَيّاً وَكُلُّنَا الْيَوْمَ مَوْتَى لَحَسُنَ حِينَئِذٍ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْكَ. 7فَالآنَ قُمْ وَاخْرُجْ وَطَيِّبْ قُلُوبَ عَبِيدِكَ. لأَنِّي قَدْ أَقْسَمْتُ بِالرَّبِّ إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ لاَ يَبِيتُ أَحَدٌ مَعَكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَرَّ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ أَصَابَكَ مُنْذُ صِبَاكَ إِلَى الآنَ!» 8فَقَامَ الْمَلِكُ وَجَلَسَ فِي الْبَابِ. فَأَخْبَرُوا جَمِيعَ الشَّعْبِ: «هُوَذَا الْمَلِكُ جَالِسٌ فِي الْبَابِ». فَأَتَى جَمِيعُ الشَّعْبِ أَمَامَ الْمَلِكِ. وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَهَرَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَيْمَتِهِ.
ع1: عاد يوآب فى فرح عظيم لقتله أبشالوم وانتصاره على جيوشه تمهيدًا لرجوع داود إلى عرشه، وكان ينتظر أن يسمع مديحًا من داود، أو على الأقل شكر لقادة جيشه وجنوده على مجهودهم الكبير، ولكنه فوجئ باستغراق داود فى حزنه على موت أبشالوم والذى أثر بالطبع على كل الجيش فصاروا فى غم بدلاً من الفرح.
ع2: كان الشعب أيضًا يتوق إلى إقامة أفراح النصر احتفالاً بالانتصار الكبير الذى تحقّق، ولكنهم إذ رأوا داود يبكى حزينًا على فقدان ابنه، تحولت الأفراح إلى أحزان وتبدلت أناشيد النصر بمناحة عظيمة.
ع3: بدلاً من أن يدخل الجنود إلى مدينة محنايم، حيث كان داود، مهللين بالنصر الذى حققوه، دخلوا المدينة فى سكوت تام، خافضين الرؤوس وكأنهم جنود منهزمون.
ع4: ظل داود منطويًا على نفسه يدارى وجهه بيديه عمن حوله، كأنه لا يريد أن يرى أحدًا، مرددًا صيحة واحدة بصوت عظيم هى : يا ابنى أبشالوم .. يا أبشالوم ابنى .. يا ابنى.
ع5: لم يرضَ يوآب عن موقف الملك من النصر المحقق، فدخل البيت حيث كان الملك، وعنّفه بشدة على سلوكه تجاه شعبه واستهانته بهم وبما قاموا به من جهد لتحقيق النصر، فقد أنقذوا حياته وحياة بنيه ونسائه وسراريه من أن يقتلوا بواسطة أبشالوم إذا ما كان النصر قد تحقق له فى الحرب.
ع6: استمر يوآب فى توبيخه لداود قائلاً : أخزيت اليوم رجالك بحزنك المفرط على أبشالوم الذى أبغضك وتمرد عليك، بينما لم تقدّر ما قام به رجالك الذين أحبوك وقاتلوا من أجلك. لقد عاملت رجالك باستخفاف كأن لا اعتبار لهم، بل لعلك تصير راضيًا بموت كل جنودك وتفرح بحياة أبشالوم عدوك.
ع7: حثّ يوآب داود أن يكف عن النحيب ويخرج لاستقبال جنوده الذين جاءوا لتهنئته ويظهر لهم التقدير اللائق بهم، وأنذره بلهجة شديدة وقاسية إن لم يفعل، كذلك سيأمر جنوده بعدم حراسته، ويبيت وحده فى الخيمة فيتعرض للقتل غدرًا من أى إنسان.
ع8: أدرك الملك خطورة الأمر، فاستجاب لتحذير يوآب وتجلد وخرج إلى باب المدينة وجلس. وعلم المحاربون بخروج الملك فحضروا لتهنئته بالنصر، أما مناصروا أبشالوم فلحق بهم الخزى وهربوا إلى بيوتهم.
? لا تنغمس فى حزنك على فقدان أحد أحبائك لدرجة تؤذى من حولك، بل كن معتدلاً ولك رجاء فى الله واطلب معونته وتعزيته.
(2) كل الأسباط تطلب رجوع داود (ع9-15):
9وَكَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ فِي خِصَامٍ فِي جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ قَائِلِينَ: «إِنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَنْقَذَنَا مِنْ يَدِ أَعْدَائِنَا وَهُوَ نَجَّانَا مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَالآنَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الأَرْضِ لأَجْلِ أَبْشَالُومَ 10وَأَبْشَالُومُ الَّذِي مَسَحْنَاهُ عَلَيْنَا قَدْ مَاتَ فِي الْحَرْبِ. فَالآنَ لِمَاذَا أَنْتُمْ سَاكِتُونَ عَنْ إِرْجَاعِ الْمَلِكِ؟» 11وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ إِلَى صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ قَائِلاً: «قُولاَ لِشُيُوخِ يَهُوذَا: لِمَاذَا تَكُونُونَ آخِرِينَ فِي إِرْجَاعِ الْمَلِكِ إِلَى بَيْتِهِ، وَقَدْ أَتَى كَلاَمُ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْمَلِكِ فِي بَيْتِهِ؟ 12أَنْتُمْ إِخْوَتِي. أَنْتُمْ عَظْمِي وَلَحْمِي. فَلِمَاذَا تَكُونُونَ آخِرِينَ فِي إِرْجَاعِ الْمَلِكِ؟ 13وَقُولاَ لِعَمَاسَا: أَمَا أَنْتَ عَظْمِي وَلَحْمِي؟ هَكَذَا يَفْعَلُ بِيَ اللَّهُ وَهَكَذَا يَزِيدُ إِنْ كُنْتَ لاَ تَصِيرُ رَئِيسَ جَيْشٍ عِنْدِي كُلَّ الأَيَّامِ بَدَلَ يُوآبَ». 14فَاسْتَمَالَ قُلُوبَ جَمِيعِ رِجَالِ يَهُوذَا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ قَائِلِينَ: «ارْجِعْ أَنْتَ وَجَمِيعُ عَبِيدِكَ». 15فَرَجَعَ الْمَلِكُ وَأَتَى إِلَى الأُرْدُنِّ، وَأَتَى يَهُوذَا إِلَى الْجِلْجَالِ سَائِراً لِمُلاَقَاةِ الْمَلِكِ لِيُعَبِّرَ الْمَلِكَ الأُرْدُنَّ.
ع9: بعد موت أبشالوم، اختلف الشعب مع نفسه وأخذ كل فريق يلوم الآخر على مناصرة أبشالوم، ولكن اتفقوا جميعًا على أن داود هو الذى أنقذهم فى السابق من أعدائهم ومن الفلسطينيين، وهو الآن قد ترك عرشه هاربًا من وجه أبشالوم، فهو الملك الحقيقى للشعب.
ع10: وقد قتل أبشالوم الذى ناصروه وبايعوه ملكًا عليهم، وهكذا أصبح العرش فارغًا من داود ومن أبشالوم كلاهما، فالوضع إذًا ليس سليمًا ويجب إصلاح الأمور بأن يقوموا بدعوة داود ليملك عليهم ويعود إلى عرشه.
ع11: لم يشأ داود أن يعود إلى عرشه إلا بناء على مبايعة جديدة من الشعب. وكان قد علم بأن أسباط إسرائيل – عدا سبط يهوذا – قد أجمعوا على المناداة به ملكًا من جديد، لذا أرسل صادوق وأبياثار الكاهنين العظيمين إلى يهوذا، معاتبًا إياهم عن تأخرهم فى دعوته للعودة إلى عرشه فى أورشليم بينما الأسباط الأخرى سبقوهم فى تلك الدعوة.
ع12: كان مما قاله داود لسبط يهوذا أنهم إخوته من عظمه ولحمه، لأنه هو ذاته من سبط يهوذا، فلا يليق أن يتأخروا عن بقية الأسباط فى دعوته للرجوع.
ع13: أراد داود أن يستميل لصفه عماسا، الذى كان قائدًا لجيش أبشالوم فضلاً عن كونه قائدًا ماهرًا، فطلب من الكاهنين أن يبلغاه بأن داود يذكره بقرابته له (فداود خاله)، وبأنه أقسم أن يعينه قائدًا لجيشه مدى الحياة بدلاً من يوآب (كان داود ساخطًا على يوآب رغم إخلاصه وغيرته عليه، فقد قام ببعض التصرفات التى أغضبت داود مثل قتله لأبنير (ص3) وقتله لأبشالوم (ص18) وغلاظة تأنيبه له حين كان يبكى أبشالوم (ع5-7). وبهذا التصرف كسب عماسا وكل من يتبعه من جنود إذ شعروا بأن داود هو الملك الذى يحتضن كل شعبه ويسامحهم على أخطائهم.
وداود هنا يرمز للمسيح الذى يحول الخاضعين للشيطان “أى عماسا الخاضع لأبشالوم” إلى أناس أبرار خدام فى كنيسة الله كما حول شاول الطرسوسى إلى بولس الرسول العظيم.
ع14: استجاب رجال سبط يهوذا إلى رسالة داود، إذ رأوا أنهم رغم تخلفهم فى دعوته عن بقية الأسباط، لم يسخط عليهم بل خاطبهم باللين، فرجعوا إلى أنفسهم وتذكروا أنهم بالفعل أقرباؤه وهو ينتسب إلى سبطهم، فأجمعوا على أن يرسلوا إليه يدعونه للرجوع إلى أورشليم بصحبة جميع رجاله.
? استطاع داود بالحكمة والاتضاع والكلام اللين أن يقضى على الشر الذى سقط فيه سبط يهوذا، إذ كانوا معرضين للانقسام عن داود بقيادة عماسا، ولكن باللطف استطاع أن يكسبهم، فخضعوا له وكسب عماسا أيضًا، فليتك بالاتضاع واللطف تواجه الغضوبين فتكسر كل شر يقابلك وتكسب من حولك وتحيا فى سلام.
ع15: استعد الملك على شاطئ شرقى الأردن للعبور عائدًا إلى أورشليم، وفى نفس الوقت وصل كبار رجال يهوذا إلى الجلجال غربى الأردن فى طريقهم للعبور إلى الضفة الشرقية ليستقبلوا الملك هناك ويعودوا به إلى أورشليم عاصمة المملكة والتى تقع فى أراضى سبطهم.
(3) شمعى يعتذر لداود (ع16-23):
16فَبَادَرَ شَمْعِي بْنُ جِيْرَا الْبِنْيَامِينِيُّ الَّذِي مِنْ بَحُورِيمَ وَنَزَلَ مَعَ رِجَالِ يَهُوذَا لِلِقَاءِ الْمَلِكِ دَاوُدَ 17وَمَعَهُ أَلْفُ رَجُلٍ مِنْ بِنْيَامِينَ، وَصِيبَا غُلاَمُ بَيْتِ شَاوُلَ وَبَنُوهُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَعَبِيدُهُ الْعِشْرُونَ مَعَهُ، فَخَاضُوا الأُرْدُنَّ أَمَامَ الْمَلِكِ. 18وَعَبَرَ الْقَارِبُ لِتَعْبِيرِ بَيْتِ الْمَلِكِ وَلِعَمَلِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ. وَسَقَطَ شَمْعِي بْنُ جِيْرَا أَمَامَ الْمَلِكِ عِنْدَمَا عَبَرَ الأُرْدُنَّ 19وَقَالَ لِلْمَلِكِ: «لاَ يَحْسِبْ لِي سَيِّدِي إِثْماً، وَلاَ تَذْكُرْ مَا افْتَرَى بِهِ عَبْدُكَ يَوْمَ خُرُوجِ سَيِّدِي الْمَلِكِ مِنْ أُورُشَلِيمَ حَتَّى يَضَعَ الْمَلِكُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ.
20لأَنَّ عَبْدَكَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ، وَهَئَنَذَا قَدْ جِئْتُ الْيَوْمَ أَوَّلَ كُلِّ بَيْتِ يُوسُفَ وَنَزَلْتُ لِلِقَاءِ سَيِّدِي الْمَلِكِ». 21فَقَالَ أَبِيشَايُ ابْنُ صَرُويَةَ: «أَلاَ يُقْتَلُ شَمْعِي لأَنَّهُ سَبَّ مَسِيحَ الرَّبِّ؟» 22فَقَالَ دَاوُدُ: «مَا لِي وَلَكُمْ يَا بَنِي صَرُويَةَ حَتَّى تَكُونُوا لِيَ الْيَوْمَ مُقَاوِمِينَ؟ آلْيَوْمَ يُقْتَلُ أَحَدٌ فِي إِسْرَائِيلَ؟ أَفَمَا عَلِمْتُ أَنِّي الْيَوْمَ مَلِكٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟» 23ثُمَّ قَالَ الْمَلِكُ لِشَمْعِي: «لاَ تَمُوتُ». وَحَلَفَ لَهُ الْمَلِكُ.
ع16: حضر الكثيرون لملاقاة داود والترحيب به فى طريق عودته لعرشه فى أورشليم ومعهم شمعى بن جيرا الذى من بلدة بحوريم، وهو الذى كان يسب الملك ويقذفه بالحجارة والتراب حين كان هاربًا من أبشالوم، محاولاً بذلك أن يعتذر عن خطأه لعل الملك داود يرضى عليه (ص16: 5).
ع17: جاء شمعى لاستقبال الملك ومعه وفد من ألف رجل، كذلك جاء صيبا، الذى كان خادمًا لشاول وابنه مفيبوشث من بعده يصحبه بنوه الخمسة عشر وعبيده العشرون، وعبروا نهر الأردن فى مقدمة موكب الملك العائد.
وقد جاء صيبا لأنه علم أن الملك سيكتشف خداعه واتهامه لمفيبوشث فأراد أن يسترضى الملك.
ع18: أعد شمعى قاربًا خاصًا ليعبر فيه الملك وأهل بيته، واضعًا نفسه فى خدمته وعلى استعداد لتنفيذ طلباته، وعندما تلاقى شمعى مع الملك وجهًا لوجه سجد إلى الأرض مظهرًا الاحترام والإجلال لشخصه.
ع19: توسل شمعى إلى الملك لكى يغفر له ما سبق وارتكبه فى حقه من سب وإهانة عندما كان هاربًا من أبشالوم، وطلب منه ألا يبقى فى قلبه ضغينة نحوه.
ع20: بيت يوسف : يقصد أنه أتى أول مجموعة من أبناء راحيل وهما أسباط أفرايم ومنسى ابنا يوسف وسبط بنيامين، فقد أراد شمعى أن يظهر مدى اهتمامه فأتى بأول مجموعة من هذه الأسباط الثلاثة.
اعترف شمعى بأنه قد أخطأ فعلاً حين أساء سابقًا إلى الملك، وها هو يكفر عن خطأه بحضوره ومعه رجاله لاستقبال الملك فكان أول من حضر من بيت يوسف.
? ليتنا نتبصر الأمور بعمق أكبر حتى لا ننزلق إلى تصرفات نندم عليها فيما بعد وقد يصبح علاجها صعباً إن لم يكن مستحيلاً، فلن نصادف دائمًا شخصًا طيب القلب يغفر لمن أساء إليه مثل داود.
ع21: كان أبيشاى بن صروية مندفعًا دائمًا فى حماسه لداود وإخلاصه له، فكان يرى أن كل من يعادى داود لابد أن يقتل، وقديمًا طلب من داود أن يقتل شاول وحين كان شمعى يسب داود طلب الإذن منه أن يقتله، وهو الآن يعيد طلبه لأنه رأى أنه أهان داود مسيح الرب. بالإضافة إلى أنه شعر أن اعتذار شمعى عن خوف وليس عن محبة، ولعله يحمل نفاقًا.
ع22: رفض داود اقتراح أبيشاى، لأنه لا يليق أن يقتل أحد من شعب الله، فاليوم فرح للجميع ولا يجب أن تكون هناك مناحة فى بيت من بيوت إسرائيل، وأنّب أبيشاى على عدم وضعه فى الاعتبار يوم الفرح هذا برجوع داود إلى عرشه من جديد. بالإضافة إلى أنه عند قتله شمعى ينبغى أن يقتل أيضًا كل من عاداه وانضم لأبشالوم، وبهذا يمكن أن تقوم حرب أهلية عند قتله الكثيرين.
ع23: طمأن الملك شمعى وحلف له أنه لـن يصيبه أحد بسوء. وهذا تسامح من داود رغم أنه يعلم بعدم صدق شمعى واسـتحقاقه للعقـاب، ولكنه أجل ذلك إلى أيام سليمان ابنـه (1مل2: 8، 9)، ولعله بهذا أعطى شمعى فرصة للتوبة ولتغيير سلوكه لأن قلبه ليس مستقيمًا حتى الآن.
وتسامح داود مع شمعى هو تنازل عن حقه الشخصى نحوه، ولكن شمعى كان قد أخطأ فى حق مسيح الرب، فيلزم أن يعاقب إن لم يتب. وقد حذره سليمان حتى لا يخرج من أورشليم ولكنه خرج، فقتله سليمان. وهذا يرمز لمن يخرج خارج الكنيسة فيصير معرضًا للهلاك.
وداود هنا يرمز للمسيح على الأرض المتسامح مع المسيئين إليه، وسليمان يرمز للمسيح فى مجده عندما يدين العالم كله.
(4) استقبال مفيبوشث لداود (ع24-30):
24وَنَزَلَ مَفِيبُوشَثُ ابْنُ شَاوُلَ لِلِقَاءِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَعْتَنِ بِرِجْلَيْهِ وَلاَ اعْتَنَى بِلِحْيَتِهِ وَلاَ غَسَلَ ثِيَابَهُ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ الْمَلِكُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي أَتَى فِيهِ بِسَلاَمٍ. 25فَلَمَّا جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِلِقَاءِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «لِمَاذَا لَمْ تَذْهَبْ مَعِي يَا مَفِيبُوشَثُ؟» 26فَقَالَ: «يَا سَيِّدِي الْمَلِكُ إِنَّ عَبْدِي قَدْ خَدَعَنِي، لأَنَّ عَبْدَكَ قَالَ: أَشُدُّ لِنَفْسِيَ الْحِمَارَ فَأَرْكَبُ عَلَيْهِ وَأَذْهَبُ مَعَ الْمَلِكِ، لأَنَّ عَبْدَكَ أَعْرَجُ. 27وَوَشَى بِعَبْدِكَ إِلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ، وَسَيِّدِي الْمَلِكُ كَمَلاَكِ اللَّهِ. فَافْعَلْ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ.
28لأَنَّ كُلَّ بَيْتِ أَبِي لَمْ يَكُنْ إِلاَّ أُنَاساً مَوْتَى لِسَيِّدِي الْمَلِكِ، وَقَدْ جَعَلْتَ عَبْدَكَ بَيْنَ الآكِلِينَ عَلَى مَائِدَتِكَ. فَأَيُّ حَقٍّ لِي بَعْدُ حَتَّى أَصْرُخَ أَيْضاً إِلَى الْمَلِكِ؟» 29فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ بَعْدُ بِأُمُورِكَ؟ قَدْ قُلْتُ إِنَّكَ أَنْتَ وَصِيبَا تَقْسِمَانِ الْحَقْلَ». 30فَقَالَ مَفِيبُوشَثُ لِلْمَلِكِ: «فَلْيَأْخُذِ الْكُلَّ أَيْضاً بَعْدَ أَنْ جَاءَ سَيِّدِي الْمَلِكُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِهِ».
ع24: كان مفيبوشث بن يوناثان من بين الشخصيات التى حضرت لاستقبال داود أيضًا، وكان يبدو من مظهره أنه حزين جدًا لما تعرض له الملك من مآسى، إذ أهمل الاعتناء برجليه الضعيفتين من وضع بعض العلاجات الطبية لها، كذلك لم يهذب لحيته ولا اعتنى بثيابه. كل تلك المظاهر تكذب الوشاية التى ادعى فيها صيبا أنه شمت لِمَا أصاب الملك من أحداث مأساوية (ص16: 3).
ع25: فلما جاء مفيبوشث إلى أورشليم وقابل الملك، عاتبه الملك على عدم مصاحبته إياه ضمن الشعب الذى خرج معه من أورشليم حين قامت الفتنة.
ع26: أجابه مفيبوشث أنه كان بالفعل يعتزم الخروج مع الملك، وطلب من خادمه صيبا أن يجهز حمارًا ليركبه لكونه أعرج لا يقدر على السير مسافات طويلة، لكن خدعه خادمه صيبا، إذ لم يجهز له الحمار، وذهب هو إلى الملك بمفرده دون أن يصحبه معه.
ع27: لم يكتفِ صيبا بذلك، بل افترى علىّ بما يهيج الملك ضدى. وأنا أعلم يا سيدى الملك أنك كملاك من عند الله قادر على التمييز بين ما هو حقيقى وبين ما هو ادعاء كاذب، وحكمك سيكون سديدًا، فاحكم بما ترى.
ع28: أنا أعلم قدر عدلك ورأفتك، إذ كان بإمكانك أن تقتل جميع الباقين أحياء من بيت شاول حين توليت الملك، كما يفعل الملوك بنسل من سبقهم من ملوك، لكنك لم تفعل هكذا بل أكرمتنى ودعوتنى إلى مائدتك كواحد من أفراد أسرتك، فلا يحق لى بعد كل هذا الذى فعلته بى من إحسان وإكرام أن أطمع فى ملك أو سلطان، لأن اتهام داود لمفيبوشث يعنى أنه بقى فى أورشليم طمعًا فى الملك بعده.
ع29: طلب منه الملك أن يكف عن الحديث فى أمور تخصه، فقد علم بحقيقة الأمور من قبل وسبق وقام بتصحيح للأوضاع، إذ أمر أن يأخذ مفيبوشث نصف الأرض ويأخذ صيبا النصف الآخر، لأن داود كان قد أعطى الأملاك كلها لصيبا والآن يصحح الوضع بإعادتها لمفيبوشث أما صيبا فيأخذ نصف المحصول مقابل زراعته وعنايته بأملاك مفيبوشث. ولم يكن داود قاسيًا فى معاقبة صيبا فى كذبه على داود فى أمر مفيبوشث، لأن صيبا فعل أمرًا حسنًا وهو عدم اتباع أبشالوم بل عضّد داود بالأطعمة.
ع30: لم يبدِ مفيبوشث أيّة لهفة لاستعادة الأرض إذ أوضح لداود أن هذا لا يعنيه كثيرًا حتى لو آلت كلها لصيبا، ففرحه الحقيقى هو بعودة الملك إلى كرسيه بسلام.
(5) وداع برزلاى لداود (ع31-43):
31وَنَزَلَ بَرْزِلاَّيُ الْجِلْعَادِيُّ مِنْ رُوجَلِيمَ وَعَبَرَ الأُرْدُنَّ مَعَ الْمَلِكِ لِيُشَيِّعَهُ عِنْدَ الأُرْدُنِّ. 32وَكَانَ بَرْزِلاَّيُ قَدْ شَاخَ جِدّاً – كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَهُوَ عَالَ الْمَلِكَ عِنْدَ إِقَامَتِهِ فِي مَحَنَايِمَ لأَنَّهُ كَانَ رَجُلاً عَظِيماً جِدّاً. 33فَقَالَ الْمَلِكُ لِبَرْزِلاَّيَ: «اعْبُرْ أَنْتَ مَعِي وَأَنَا أَعُولُكَ مَعِي فِي أُورُشَلِيمَ». 34فَقَالَ بَرْزِلاَّيُ لِلْمَلِكِ: «كَمْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي حَتَّى أَصْعَدَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَى أُورُشَلِيمَ؟ 35أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. هَلْ أُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالرَّدِيءِ، وَهَلْ يَسْتَطْعِمُ عَبْدُكَ بِمَا آكُلُ وَمَا أَشْرَبُ، وَهَلْ أَسْمَعُ أَيْضاً أَصْوَاتَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ؟ فَلِمَاذَا يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضاً ثِقْلاً عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ؟ 36يَعْبُرُ عَبْدُكَ قَلِيلاً الأُرْدُنَّ مَعَ الْمَلِكِ. وَلِمَاذَا يُكَافِئُنِي الْمَلِكُ بِهَذِهِ الْمُكَافَأَةِ؟ 37دَعْ عَبْدَكَ يَرْجِعُ فَأَمُوتَ فِي مَدِينَتِي عِنْدَ قَبْرِ أَبِي وَأُمِّي. وَهُوَذَا عَبْدُكَ كِمْهَامُ يَعْبُرُ مَعَ سَيِّدِي الْمَلِكِ فَافْعَلْ لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ».
38فَأَجَابَ الْمَلِكُ: «إِنَّ كِمْهَامَ يَعْبُرُ مَعِي فَأَفْعَلُ لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ، وَكُلُّ مَا تَتَمَنَّاهُ مِنِّي أَفْعَلُهُ لَكَ». 39فَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ الأُرْدُنَّ، وَالْمَلِكُ عَبَرَ. وَقَبَّلَ الْمَلِكُ بَرْزِلاَّيَ وَبَارَكَهُ فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ. 40وَعَبَرَ الْمَلِكُ إِلَى الْجِلْجَالِ وَعَبَرَ كِمْهَامُ مَعَهُ، وَكُلُّ شَعْبِ يَهُوذَا عَبَّرُوا الْمَلِكَ، وَكَذَلِكَ نِصْفُ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ. 41وَإِذَا بِجَمِيعِ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ جَاءُونَ إِلَى الْمَلِكِ، وَقَالُوا لِلْمَلِكِ: «لِمَاذَا سَرِقَكَ إِخْوَتُنَا رِجَالُ يَهُوذَا وَعَبَرُوا الأُرْدُنَّ بِالْمَلِكِ وَبَيْتِهِ وَكُلِّ رِجَالِ دَاوُدَ مَعَهُ؟» 42فَأَجَابَ كُلُّ رِجَالِ يَهُوذَا رِجَالَ إِسْرَائِيلَ: «لأَنَّ الْمَلِكَ قَرِيبٌ إِلَيَّ. وَلِمَاذَا تَغْتَاظُ مِنْ هَذَا الأَمْرِ؟ هَلْ أَكَلْنَا شَيْئاً مِنَ الْمَلِكِ أَوْ وَهَبَنَا هِبَةً؟» 43فَأَجَابَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ رِجَالَ يَهُوذَا: «لِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ فِي الْمَلِكِ، وَأَنَا أَحَقُّ مِنْكَ بِدَاوُدَ. فَلِمَاذَا اسْتَخْفَفْتَ بِي وَلَمْ يَكُنْ كَلاَمِي أَوَّلاً فِي إِرْجَاعِ مَلِكِي؟» وَكَانَ كَلاَمُ رِجَالِ يَهُوذَا أَقْسَى مِنْ كَلاَمِ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ.
ع31: روجليم : مدينة فى أرض جلعاد عاش فيها برزلاى. مكانها اليوم “وادى الرجيلة” بالقرب من أربد.
كان برزلاى أحد الشخصيات الهامة التى استضافت داود أثناء هروبه من وجه أبشالوم وجاء ليودعه عند نهر الأردن عند عودته إلى عرشه.
ع32: كان عبور الأردن عمل شاق بالنسبة لبرزلاى الذى كان قد بلغ الثمانين من عمره، ولكنه تحمل ذلك إكرامًا لداود، وقد سبق وأظهر محبة كبيرة للملك إذ عندما كان داود فى محنايم قدم هدايا وطعامًا له ولمرافقيه وعالهم مدة إقامتهم.
ع33: خلال عبورهم الأردن، عرض عليه الملك الذهاب معه إلى أورشليم ليعيش بجواره فيرد له جميله ويكرمه كما أكرمه برزلاى وهو فى محنايم.
ع34، 35: اعتذر برزلاى لأنه رجل مسن بلغ الثمانين ولم يعد يستطعم أنواع الطعام ولا الشراب ولا يستمتع بأصوات المغنيين والمغنيات الذين يغنون فى بيوت الملوك. وهو لا يريد أن يكون عبئًا على الملك، فهو يحتاج إلى رعاية خاصة مما يلزم المسن عمومًا، كأن يراعى أنواعًا معينة من الطعام ونمط حياة منتظم بسبب الضعف والمرض الذين هما من سمات الشيخوخة.
ع36: طلب من الملك أن يودعه بعبوره الأردن معه ولو لمسافة قصيرة ثم لا داعى لمكافأة أخرى له، فيكفيه هذا الشرف.
ع37: طلب الإذن ليعود بعد ذلك إلى مدينته، وحين يحين موعد الرحيل من هذا العالم يدفن فى قبر أبيه وأمه، وإن كان لابد من المكافأة فليعبر ابنه كمهام مع الملك فيأخذه معه ويكرمه كما يشاء عوضًا عنه.
ع38: رحب الملك باقتراح برزلاى باصطحاب كمهام معه، ووعد بمكافأته بقدر ما يتمنى له برزلاى ويفعل له ولبرزلاى نفسه كل ما يطلبه. ويقال أنه أصبـح حاكمًا لبيت لحم (أر41: 17)، ويقول التقليد اليهودى أن فى بيته ولد المسيح حين تجسد.
ع39: ودع الملك برزلاى مقبلاً إياه قبلة المحبة وطلب له البركة من الرب، فانصرف راجعًا إلى مدينته فى جلعاد وأكمل الشعب عبور الأردن مع الملك.
? كان برزلاى مثالاً يُحتَذى به فى الوقار والحكمة وليس مثل بعض المسنين الذين يتصرفون بطياشة تماثل تصرفات الأحداث الصغار، فمن كان منا فى سن متقدمة فليكلل شيخوخته بالصلاح ولتتسم تصرفاته بالاتزان والعقل، فيتجرد عن الماديات ويستعد بحياة روحية للأبدية.
ع40: عبر الملك نهر الأردن من الشرق إلى الغرب ووصل مدينة “الجلجال” القريبة من أريحا، وكان كمهام فى صحبة الملك كما كان فى صحبته أيضًا رجال سبط يهوذا ونصف أسباط إسرائيل (تأخر النصف الآخر عن الحضور فى الوقت المناسب ربما لبعد المسافة بين مكان إقامة تلك الأسباط ومنطقة “الجلجال” وهى الأسباط التى سكنت شمال فلسطين).
وبهذا اصطحب داود أنواعًا كثيرة من شعبه، فهو يرمز للمسيح الذى يقبل الجميع :
- سبط يهوذا : الذى يرمز لكل الكنيسة.
- عماسا : الذى يرمز للأشرار والمتمردين الذين يغيِّرهم الله بالتوبة فيعودوا إليه.
- شمعى وصيبا : الذى يرمز للخطاة الذين يحاولون التوبة.
- مفيبوشث : الذى يرمز للنفوس المحطمة والمظلومة.
- برزلاى : الذى يرمز للاتقياء المنشغلين بالأبدية.
- كمهام : الذى يرمز للنفوس الحديثة الإيمان.
ع41: لماذا سرقك إخوتنا : استأثر رجال يهوذا بالملك فى احتفالهم بعودته.
لما وصلت بقية الأسباط بعد عبور الملك غربًا احتجوا على سبط يهوذا الذى – حسب قولهم – استأثر بالاحتفاء بالملك وعبروا الأردن مع الملك ومع أهل بيته دون أن ينتظروهم ليشاركوا فى الاحتفاء.
ع42: احتد سبط يهوذا فى اجابته على اعتراض الأسباط، بدعوى أن الملك من سبطهم وتوجد بينه وبينهم صلة قرابة، وأنه لا يحق للأسباط أن يغضبوا من عبور يهوذا مع الملك، وقالوا نحن لم نستأثر بعطايا أخذناها من الملك ولم ننل منحة خاصة حرمتم أنتم منها.
ع43: لم يسكت رجال الأسباط وردوا على رجال يهوذا بأنهم أغلبية، فهم يمثلون عشرة أسباط ويهوذا سبط واحد، وبالتالى فلهم الحق الأكبر فى إرجاع الملك، فردّ رجال يهوذا على رجال الأسباط بكلام قاسٍ، أى حدثت مشادة بينهم فى الكلام.