عقاب التذمر – المن والسلوى
(1) التذمر الأول (ع1-3): 1وَكَانَ الشَّعْبُ كَأَنَّهُمْ يَشْتَكُونَ شَرّاً فِي أُذُنَيِ الرَّبِّ. وَسَمِعَ الرَّبُّ فَحَمِيَ غَضَبُهُ فَاشْتَعَلتْ فِيهِمْ نَارُ الرَّبِّ وَأَحْرَقَتْ فِي طَرَفِ المَحَلةِ. 2فَصَرَخَ الشَّعْبُ إِلى مُوسَى فَصَلى مُوسَى إِلى الرَّبِّ فَخَمَدَتِ النَّارُ. 3فَدُعِيَ اسْمُ ذَلِكَ المَوْضِعِ «تَبْعِيرَةَ» لأَنَّ نَارَ الرَّبِّ اشْتَعَلتْ فِيهِمْ.
ع1: يشتكون شرًا : أى يتذمرون وبدأ تذمرهم واضحًا فى كلامهم أو أعمالهم.
أذنى الرب : تعبير بلاغى يفيد أن كل ما كان يشتكون منه بروح التذمر كان أمام الرب.
لا نعلم هنا ولم يذكر سبب التذمر .. ربما كان بسبب الإرهاق أو بعض المتاعب لصعوبة الحياة فى الصحراء، ولكنه كان يعنى أن الشعب نسى كل ما صنعه الله معهم ولهذا كان هذا التذمر شرًا، فحلَّ غضب الله على هذا الشعب الناكر لكل الخير، فسمح بأن تشتعل نار، بصرف النظر عن أسبابها، وأحرقت الأطراف الخارجية للمحلة. ولا نعلم عدد الناس التى أهلكتها أو مقدار خسارة البهائم أو الخيام ونلاحظ أن التذمر بدأ فى طرف المحلة. أى بين الساكنين بعيدًا عن خيمة الاجتماع، أى أن الاقتراب من الكنيسة يحيمنا من خطايا كثيرة.
ع2: فهم الشعب وشعر بأن ما حدث هو عقوبة إلهية أتت عليهم، ولهذا ذهبوا إلى موسى صارخين وطالبين شفاعته لدى الله حتى يرفع غضبه عنهم، وبالفعل تقدم موسى إلى الله وترجاه طالبًا منه رفع العقاب فاستجاب الله وأخمد النيران.
ع3: وحتى يصير ما حدث تذكارًا عبر الأجيال، دعا موسى والشعب اسم هذا المكان “تبعيرة” والتى تعنى اشتعال، حتى يتذكروا أن التذمر يغضب صانع الخيرات وربما يعاقب الإنسان بتذمره بعقاب لا يحتمله ويصرخ صراخًا بعد ذلك لرفعه عنه.
? أيها الحبيب إن حياة الشكر الحقيقية هى التى تنجى الإنسان من الوقوع فى التذمر وتجنبه عقوبات كثيرة .. أشكر كل يوم إلهك على صنيعه معك واشكره أيضًا على الشر الذى منعه عنك.
(2) التذمر على المن (ع4-6):
4وَاللفِيفُ الذِي فِي وَسَطِهِمِ اشْتَهَى شَهْوَةً. فَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيل أَيْضاً وَبَكُوا وَقَالُوا: «مَنْ يُطْعِمُنَا لحْماً؟ 5قَدْ تَذَكَّرْنَا السَّمَكَ الذِي كُنَّا نَأْكُلُهُ فِي مِصْرَ مَجَّاناً وَالقِثَّاءَ وَالبَطِّيخَ وَالكُرَّاثَ وَالبَصَل وَالثُّومَ. 6وَالآنَ قَدْ يَبِسَتْ أَنْفُسُنَا. ليْسَ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ أَعْيُنَنَا إِلى هَذَا المَنِّ!»
ع4، 5: اللفيف : هم الدخلاء (الأجانب) على الشعب وكانوا معظمهم من المصريين الذين خرجوا معهم من مصر.
كان مصدر التذمر هذه المرة هم القلة المصرية التى رافقت الشعب فى ارتحاله، ولكن سرعان ما سرى التمرد والتذمر فى شعب إسرائيل كله وأعلنوا اشتياقهم إلى أكل الأطعمة المختلفة مثل اللحم والسمك والخضراوات مثال الكرات والبصل والثوم والفاكهة مثل البطيخ، ووقعوا بذلك فى مغالطة كبيرة إذ قالوا “مجانًا” بالرغم من أنهم كانوا عبيدًا مسخرين لخدمة فرعون.. هكذا تفعل الشهوة فى الإنسان عندما تتملكه… فتنسيه الله تمامًا وكل إحساناته ولا يعود يذكر سوى احتياجه وما ينقصه من رغبات جسدية.
ع6: عبَّر الشعب عن تذمره بقوله “يبست أنفسنا” أى ضعفت أجسادنا وذهبت نضارتنا وقد مللنا من تكرار أكل المن الذى سئمناه ولا ترى أعيننا سواه.
? إذا اشتقت يومًا لشئ لماذا لا تطلبه بلطف من أبيك السماوى الذى يعطى الجميع ولا يعير..!! ولكن إحذر التذمر على النعم الإلهية المفاضة عليك… فهناك فى العالم كثيرون يترجون فتات الخبز المتبقى عنك. إحذر التبطر … إحذر التذمر … حتى لا ترتفع نعمة الله عنك، فليست عطية بلا زيادة إلا التى بلا شكر كما قال مار إسحق السريانى.
(3) وصف المن (ع7-9):
7وَأَمَّا المَنُّ فَكَانَ كَبِزْرِ الكُزْبَرَةِ وَمَنْظَرُهُ كَمَنْظَرِ المُقْلِ. 8كَانَ الشَّعْبُ يَطُوفُونَ لِيَلتَقِطُوهُ ثُمَّ يَطْحَنُونَهُ بِالرَّحَى أَوْ يَدُقُّونَهُ فِي الهَاوَنِ وَيَطْبُخُونَهُ فِي القُدُورِ وَيَعْمَلُونَهُ مَلاتٍ. وَكَانَ طَعْمُهُ كَطَعْمِ قَطَائِفَ بِزَيْتٍ. 9وَمَتَى نَزَل النَّدَى عَلى المَحَلةِ ليْلاً كَانَ يَنْزِلُ المَنُّ مَعَهُ.
ع7: بذر الكزبرة : حبوب صغيرة لونها ما بين الأصفر والأخضر قليلاً.
المقل : نوع من الصمغ الأصفر المائل للبياض وله رائحة طيبة يستخدم كالبخور ويكون على شكل قشور.
حتى يبين لنا الوحى الإلهى مدى خطأ شعب بنى إسرائيل فى تذمرهم يوضح لنا ما هو المن، فهو العطية الإلهية المجانية من الله المحب لشعبه، وكان منظره مثل حبوب صغيرة صفراء تشبه بذور الكزبرة وقشور المقل.
ع8، 9: ملات : أى خبز ملة وهو الخبز الغير مختمر الذى يعمل على الحجر الساخن فى الصحراء (تك18: 6).
كان الله ينزله ليلاً مع الندى، أى قبل الفجر، ولم يزرعه الشعب أو يتعب فيه بل كل ما كان يفعله هو أنه يجمعه باكرًا، وكانوا يطحنونه فيصير مثل الدقيق ويمكن طبخه أو صناعة خبز منه. وكان طعمـه حلوًا إذ يشبه طعم القطائف الملتوتة بالزيت، وطعمه أيضًا كرقاق بعسل (خر16: 31) والمعنى أنه بسبب بركة الله كان الطعام مجانًا وطعمه كأنه موضوع عليه زيت وعسل.
(4) شكوى موسى ورد الله عليها (ع10-17):
10فَلمَّا سَمِعَ مُوسَى الشَّعْبَ يَبْكُونَ بِعَشَائِرِهِمْ كُل وَاحِدٍ فِي بَابِ خَيْمَتِهِ وَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ جِدّاً سَاءَ ذَلِكَ فِي عَيْنَيْ مُوسَى. 11فَقَال مُوسَى لِلرَّبِّ: «لِمَاذَا أَسَأْتَ إِلى عَبْدِكَ وَلِمَاذَا لمْ أَجِدْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ حَتَّى أَنَّكَ وَضَعْتَ ثِقْل جَمِيعِ هَذَا الشَّعْبِ عَليَّ؟ 12أَلعَلِّي حَبِلتُ بِجَمِيعِ هَذَا الشَّعْبِ أَوْ لعَلِّي وَلدْتُهُ حَتَّى تَقُول لِي احْمِلهُ فِي حِضْنِكَ كَمَا يَحْمِلُ المُرَبِّي الرَّضِيعَ إِلى الأَرْضِ التِي حَلفْتَ لِآبَائِهِ؟ 13مِنْ أَيْنَ لِي لحْمٌ حَتَّى أُعْطِيَ جَمِيعَ هَذَا الشَّعْبِ. لأَنَّهُمْ يَبْكُونَ عَليَّ قَائِلِينَ: أَعْطِنَا لحْماً لِنَأْكُل.
14لا أَقْدِرُ أَنَا وَحْدِي أَنْ أَحْمِل جَمِيعَ هَذَا الشَّعْبِ لأَنَّهُ ثَقِيلٌ عَليَّ. 15فَإِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ بِي هَكَذَا فَاقْتُلنِي قَتْلاً إِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلا أَرَى بَلِيَّتِي». 16فَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «اجْمَعْ إِليَّ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيل الذِينَ تَعْلمُ أَنَّهُمْ شُيُوخُ الشَّعْبِ وَعُرَفَاؤُهُ وَأَقْبِل بِهِمْ إِلى خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ فَيَقِفُوا هُنَاكَ مَعَكَ. 17فَأَنْزِل أَنَا وَأَتَكَلمَ مَعَكَ هُنَاكَ وَآخُذَ مِنَ الرُّوحِ الذِي عَليْكَ وَأَضَعَ عَليْهِمْ فَيَحْمِلُونَ مَعَكَ ثِقْل الشَّعْبِ فَلا تَحْمِلُ أَنْتَ وَحْدَكَ.
ع10، 11: إذ ازداد تذمر الشعب وتملكتهم شهوة الأكل، بلغ بهم الأمر لدرجة البكاء كالأطفال أمام خيامهم، أى جهرًا، وسرى التذمر من شخص لآخر حتى شمل الكل، أما موسى الخادم والراعى فقد تعبت نفسه جدًا وتمررت من حال الشعب إذ شعر بحسه الروحى أن ما يصنعه الشعب إنما يغضب الله جدًا ويجرحه؛ وإذ فاضت نفس موسى وزادت آلامه اتجه إلى الرب رافعًا شكواه ومعاتبًا إياه قائلاً “لماذا أسات إلى عبدك“، وهو تعبير غير لائق لأن الله لا يسئ أبدًا لأحد من أبنائه ولكنه الفاحص للقلوب كان يفهم جيدًا ما يريد موسى قوله فكان تعبير موسى معناه أن ثقل المسئولية فى رعاية هذا الشعب المتذمر فوق احتماله.
لم أجد نعمة فى عينيك : لم تعفنى من مسئولية قيادة الشعب ولم تعطنى من يساعدنى.
ع12: يستمر موسى فى صلاته الشاكية إلى الله، مسترسلاً فى أنينه، معبرًا عن تعبه من شعبه فيعاتب الله قائلاً لماذا تلزمنى بعبء الأب والأم المسئول عن حمل ابنه إلى أرض الميعاد وأنا لم ألد هذا الشعب.
ع13، 14: إنهم يتذمرون ويبكون إلىّ طالبين منى لحمًا فمن أين لى أن أوفر لهم لحمًا يكفيهم، لقد صار هذا الشعب حملاً ثقيلاً لا أستطيع أن أحمله وحدى.
ع15: مع ازدياد تعب موسى النبى، ضاقت نفسه جدًا حتى أنه وصل لدرجة من درجات اليأس والاكتئاب تمنى فيها الموت، وعبر عن ذلك بطلبه من الله “اقتلنى قتلاً” واعتبر موسى أن موته هو جميل يصنعه له الله إذ يضع بموته حدًا لبليته وتعبه الغير محتمل.
نستطيع أن نخرج ببعض الدروس الروحية من موقف موسى (ع10-15) :
- كان موسى أكثر الناس حلمًا بشهادة الله ولكن قساوة الشعب وتذمره مع حجم المسئولية الكبيرة جعله يضعف ويهتز، والدرس المستفاد هنا أن كل انسان معرض للضعف البشرى مهما كانت قداسته.
- التجاء موسى لله يعلمنا أن لا سبيل لحل مشاكلنا النفسية والروحية إلا بالصلاة لله.
- بالرغم مما حملته صلاة موسى من ضعفات وكلمات غير متوقعة لكننا نتعلم أيضًا أنه كان يتكلم مع الله بصراحة وكانت صلاته تحمل كل مشاعره النفسية الحقيقية ولهذا استجاب الله فورًا لصلاته كما سنرى.
? إلتجئ إلى الله فى كل مشاكلك مهما كانت صعبة وثق فى محبته فهو قادر أن يريحك ويرشدك فتسلك مطمئنًا وناجحًا بقوته.
ع16: لم يعاتب الرب موسى ولم يغضب عليه، فالله يعلم تمامًا خلفيات الأمور ويقدر أيضًا ما جاء عن ضعف بشرى وخاصة أن الله نفسه شهد لموسى أنه أكثر حلمًا من كل الناس (ص12: 3)، وهذا معناه أنه لو كان أى إنسان آخر قائدًا لهذا الشعب، لما احتمل وصار تعبه وغضبه أكثر من موسى مرارًا.
ولكننا نجد أن الله أراد أن يحل المشكلة لموسى إيجابيًا بتعيين معاونين ومستشارين يساعدوه فى قيادة الشعب فطلب منه أن يختار سبعين رجلاً ويأتى إلى خيمة الاجتماع. ونلاحظ أن الله ترك لموسى الاختيار ولكنه حدد له أيضًا أن يكون هؤلاء السبعون من الشيوخ الحكماء والمعروفين من الشعب؛ ونلاحظ أيضًا أن هذا التقليد قد ظل مع اليهود بعد استقرارهم فنعلم أن مجلس السنهدريم كان من سبعين رجلاً، والمسيح أيضًا اختار مع الاثنى عشر تلميذًا سبعين رسولاً…
ع17: فأنزل أنا : تعبير بشرى استخدمه الله للدلالة على أن ما سوف يأتى من أحداث هو إرادة الله نفسها.
يكمل الله كلامه لموسى ويقول له عند اجتماعك مع السبعين أمام خيمة الاجتماع سوف أتحدث معك أمامهم وسوف أعطيهم من روحى القدوس كما أعطيتك، فيصيروا مؤهلين هم أيضًا لمشاركتك فى قيادة هذا الشعب الثقيل.
? إن كنت خادمًا أو مسئولاً، إهتم أن تشرك آخرين معك، فتوزيع المسئوليات يخفف الكثير من الأعباء عليك وينشئ جيلاً قياديًا بعدك ولكن عليك اختيار الأفضل كما أمر الرب موسى.
(5) الوعد باللحم وحلول روح الله على الشيوخ (ع18-29):
18وَلِلشَّعْبِ تَقُولُ: تَقَدَّسُوا لِلغَدِ فَتَأْكُلُوا لحْماً. لأَنَّكُمْ قَدْ بَكَيْتُمْ فِي أُذُنَيِ الرَّبِّ قَائِلِينَ: مَنْ يُطْعِمُنَا لحْماً؟ إِنَّهُ كَانَ لنَا خَيْرٌ فِي مِصْرَ! فَيُعْطِيكُمُ الرَّبُّ لحْماً فَتَأْكُلُونَ. 19تَأْكُلُونَ لا يَوْماً وَاحِداً وَلا يَوْمَيْنِ وَلا خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَلا عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلا عِشْرِينَ يَوْماً 20بَل شَهْراً مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَنَاخِرِكُمْ وَيَصِيرَ لكُمْ كَرَاهَةً لأَنَّكُمْ رَفَضْتُمُ الرَّبَّ الذِي فِي وَسَطِكُمْ وَبَكَيْتُمْ أَمَامَهُ قَائِلِينَ: لِمَاذَا خَرَجْنَا مِنْ مِصْرَ؟» 21فَقَال مُوسَى: «سِتُّ مِئَةِ أَلفِ مَاشٍ هُوَ الشَّعْبُ الذِي أَنَا فِي وَسَطِهِ وَأَنْتَ قَدْ قُلتَ: أُعْطِيهِمْ لحْماً لِيَأْكُلُوا شَهْراً مِنَ الزَّمَانِ. 22أَيُذْبَحُ لهُمْ غَنَمٌ وَبَقَرٌ لِيَكْفِيَهُمْ أَمْ يُجْمَعُ لهُمْ كُلُّ سَمَكِ البَحْرِ لِيَكْفِيَهُمْ؟» 23فَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «هَل تَقْصُرُ يَدُ الرَّبِّ؟ الآنَ تَرَى أَيُوافِيكَ كَلامِي أَمْ لا». 24فَخَرَجَ مُوسَى وَكَلمَ الشَّعْبَ بِكَلامِ الرَّبِّ وَجَمَعَ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ شُيُوخِ الشَّعْبِ وَأَوْقَفَهُمْ حَوَاليِ الخَيْمَةِ. 25فَنَزَل الرَّبُّ فِي سَحَابَةٍ وَتَكَلمَ مَعَهُ وَأَخَذَ مِنَ الرُّوحِ الذِي عَليْهِ وَجَعَل عَلى السَّبْعِينَ رَجُلاً الشُّيُوخَ. فَلمَّا حَلتْ عَليْهِمِ الرُّوحُ تَنَبَّأُوا وَلكِنَّهُمْ لمْ يَزِيدُوا. 26وَبَقِيَ رَجُلانِ فِي المَحَلةِ اسْمُ الوَاحِدِ أَلدَادُ وَاسْمُ الآخَرِ مِيدَادُ فَحَل عَليْهِمَا الرُّوحُ. وَكَانَا مِنَ المَكْتُوبِينَ لكِنَّهُمَا لمْ يَخْرُجَا إِلى الخَيْمَةِ. فَتَنَبَّئَا فِي المَحَلةِ. 27فَرَكَضَ غُلامٌ وَأَخْبَرَ مُوسَى وَقَال: «أَلدَادُ وَمِيدَادُ يَتَنَبَّئَانِ فِي المَحَلةِ». 28فَقَال يَشُوعُ بْنُ نُونَ خَادِمُ مُوسَى مِنْ حَدَاثَتِهِ: «يَا سَيِّدِي مُوسَى ارْدَعْهُمَا!» 29فَقَال لهُ مُوسَى: «هَل تَغَارُ أَنْتَ لِي؟ يَا ليْتَ كُل شَعْبِ الرَّبِّ كَانُوا أَنْبِيَاءَ إِذَا جَعَل الرَّبُّ رُوحَهُ عَليْهِمْ!».
ع18: أمر الله موسى أن يأمر الشعب بالتقديس، والتقديس كان روحيًا بالتوبة وجسديًا بغسل ملابسهم وأجسادهم، وكان هذا التقديس دائمًا يسبق الوقوف أمام الرب أو استقبال شئ عظيم من عنده.
وكان الحدث اللاحق للتقديس هو أن الله سوف يعطيهم لحمًا ليأكلوه، فقد سمع تذمرهم “بكيتم فى أذنى” واعتقادهم أن العبودية فى مصر كانت أفضل لهم، ولهذا سوف يعطيهم الله ما طلبوه وهو أكل اللحم.
ع19، 20: سيكون أكل اللحم ليس ليوم واحد أو عدة أيام بل لمدة شهر كامل، ويأكلون منه بشراهة حتى يخرج من مناخرهم أى تخرج رائحته من أنوفهم نتيجة امتلاء الجوف من هذا اللحم، وبعد ذلك يسأمونه ويعافونه من كثرة أكلهم منه لرفضهم المن وتذمرهم على الله وشهوتهم فى أكل اللحم.
ع21، 22: تعجب موسى من كلام الله الذى بدا غريبًا عليه وصعب التنفيذ، وعبّر أيضًا عن دهشته بأسلوب يبدو لنا غير متوقع من موسى .. إذ خاطب الله قائلاً من أين ؟ وكيف؟ فعدد الرجال المشاة المعدودين للحرب يبلغ ستمائة ألف بخلاف باقى الشعب، فيكون إجمالى عدد الشعب أكثر من مليونين، فهل يكفيهم كل سمك البحر وكل الغنم والبقر المتاح وكيف يكون ذلك ولمدة شهر كامل ؟!!
ع23: احتمل الله ضعف موسى البشرى وتعب نفسه ولكنه وبخه أيضًا لعله يستيقظ ويراجع نفسه، هل نسى كل ما صنعه الرب قبل ذلك فى مصر وأثناء العبور وعند استلام لوحى الشريعة ؟! فيسأله “هل تقصر يد الرب؟” أى هل يوجد هناك شئ لا أستطيع أن أقوم به .. هل تعجز قدرتى عن شئ ؟! ولكنك سوف ترى عن قريب قدرتى العظيمة وعندئذ سوف تدرك أتتحقق وعودى أم لا ؟!..
? ما أطول أناتك يا إلهى على أبناءك.. فما قاله موسى غير معقول ومع هذا تتضع وتتبسط فى الحديث معه وتحاوره وتعاتبه وتوبخه ولكن بطول أناة وحب. وهكذا تفعل معنا نحن أيضًا فى كثير من الأحيان .. فسامحنا يا إلهى على جهلنا وأدم علينا مراحمك.
ع24، 25: انتهى المشهد الأول وهو كلام وشكوى موسى للرب ونحن هنا أمام مشهد جديد نفهم منه أن موسى بالفعل قد اختار السبعين شيخًا واجتمعوا حول الخيمة. وعند تجمعهم تجلى مجد الرب فى شكل عمود سحاب وبدأ حديثه مع موسى، وأعطى الرب الإله السبعين شيخًا من المواهب المقدسة وكعلامة لحلول روح الله عليهم تنبأوا، والتنبؤ هنا معناه أنهم نطقوا بكلمات وأشياء لا دراية لهم بها قبلاً سواء أمور مستقبلية أو تعاليم ووعظ للشعب لم يكونوا قادرين عليه قبلاً.
لكنهم لم يزيدوا : أى لم تعط لهم مواهب أخرى كالمعجزات التى صنعها موسى بل الموهبة قاصرة على إظهار اختيار الله لهم فتنبأوا فقط.
ع26: تخلف شيخان يدعان “ألداد وميداد” من السبعين ولم يحضرا أمام الخيمة مع باقى الشيوخ، ولا نعلم سبب عدم المجئ ولكنه ربما يكون شعورهما بعدم الاستحقاق، وبالرغم من عدم حضورهما وبقائهما فى المحلة وسط الشعب، حلَّ عليهما روح الرب وكانت العلامة لذلك أنهما تنبئا مثل باقى السبعين.
ع27، 28: شاع خبرهما فأتى غلام مبلغًا موسى بأنهما يتنبآن فى المحلة كباقى السبعين. وعند سماع “يشوع بن نون” خادم موسى الأول وتلميذه الألصق أخذته الغيرة على كرامة موسى وشعر أن ما حدث مع “ألداد وميداد” ما كان ينبغى أن يحدث لهما وهما المتخلفان عن دعوة الله وموسى لهما؛ فسأل يشوع موسى هل يذهب إليهما ليمنعهما ولو بالقوة عن التنبؤ.
ع29: أما قلب موسى فكان مختلفًا، فعاتب تلميذه يشوع “هل تغار على كرامتى فى أن هذين الشيخين لم يسمعا كلامى ؟!… فأنا (موسى) كنت أتمنى أن يحل روح الرب على كل الشعب ويصيروا كلهم أنبياء. وهذا الموقف يوضح لنا اتساع قلب موسى الذى تميز عن قلب تلميذه الأضيق، فالإنسان الروحى الحقيقى يفرح بامتلاء كنيسة الله بالمواهب ولا يقاومها بحرب الغيرة الخاطئة.
(6) إرسال السلوى وعقوبة التذمر والشهوة (ع30-35):
30ثُمَّ انْحَازَ مُوسَى إِلى المَحَلةِ هُوَ وَشُيُوخُ إِسْرَائِيل. 31فَخَرَجَتْ رِيحٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ وَسَاقَتْ سَلوَى مِنَ البَحْرِ وَأَلقَتْهَا عَلى المَحَلةِ نَحْوَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ هُنَا وَمَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ هُنَاكَ حَوَاليِ المَحَلةِ وَنَحْوَ ذِرَاعَيْنِ فَوْقَ وَجْهِ الأَرْضِ. 32فَقَامَ الشَّعْبُ كُل ذَلِكَ النَّهَارِ وَكُل الليْلِ وَكُل يَوْمِ الغَدِ وَجَمَعُوا السَّلوَى. الذِي قَلل جَمَعَ عَشَرَةَ حَوَامِرَ. وَسَطَّحُوهَا لهُمْ مَسَاطِحَ حَوَاليِ المَحَلةِ. 33وَإِذْ كَانَ اللحْمُ بَعْدُ بَيْنَ أَسْنَانِهِمْ قَبْل أَنْ يَنْقَطِعَ حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلى الشَّعْبِ وَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدّاً. 34فَدُعِيَ اسْمُ ذَلِكَ المَوْضِعِ «قَبَرُوتَ هَتَّأَوَةَ» لأَنَّهُمْ هُنَاكَ دَفَنُوا القَوْمَ الذِينَ اشْتَهُوا. 35وَمِنْ قَبَرُوتَ هَتَّأَوَةَ ارْتَحَل الشَّعْبُ إِلى حَضَيْرُوتَ فَكَانُوا فِي حَضَيْرُوتَ.
ع30، 31: بعد نهاية كلام الله مع موسى عاد هو والشيوخ إلى المحلة، وبعدها هبت ريح شديدة من الجنوب أى من جهة البحر الأحمر وأتت هذه الريح بأعداد هائلة من طائر “السلوى” وألقت بها على الشعب الجالس فى المحلة …ولمعرفة حجم أسراب هذه الطيور التى أرسلها الله لشعبه، استخدم الوحى تعبير “مسيرة يوم من هنا ومسيرة يوم من هناك” ومسيرة اليوم الواحد هى حوالى 35 كيلومترًا، لأن الإنسان يسير حوالى 5كم فى الساعة ويسـير حوالـى 7 ساعات فى اليوم فيكون مسيرة اليوم = 5 × 7 = 35 كم أى مساحة عرضها 35كم بالمحلة من جميع الجوانب، وهذه المساحة ضخمة جدًا فتحوى أسرابًا من السلوى تكفى وتفيض أكثر بكثير من حاجة الشعب.
ومن عناية الله أيضاً أنه جعل ارتفاع هذه الأسراب لا يزيد عن متر واحد فوق سطح الأرض “ذراعين” حتى يستطيع الشعب الإمساك بها واصطيادها .. وفى الغالب طائر السلوى هو طائر السمان المهاجر والذى يمر بالفعل على صحراء سيناء.
ع32: أخطأ الشعب خطأً عظيمًا فبالرغم من وعد الله للشعب بأن اللحم لن ينقطع لمدة شهر وسيكون هناك ما يفى أكثر من احتياجهم .. إلا أن الشعب المندفع بشهوته وعدم اتكاله على وعود الله استمر طوال النهار والليل وحتى صباح اليوم الثانى فى صيد وتجميع السلوى بلهفة وشهوة مبالغ فيها جداً .. حتى أن من لم يجمع كثيراً جمع من الطيور ما يوازى حمولة عشرة حمير، فلم يأخذوا كفايتهم فقط بل أخذوا الأكثر من أجل التخزين و”سطحوها” أى ملحوها ونشروها حول المحلة.
عشرة حوامر : الحومر هو مكيال يقدر بـ230 لترًا تقريبًا وكان يقدرون الحومر بحمل حمار أى ما يستطيع أن يحمله الحمار الواحد.
ع33، 34: كان النهم والشراهة وعدم تصديق كلام الله والإسراع للتخزين بكميات كبيرة وراء غضب الله الكبير على شعبه، فبدلاً من الصلاة وشكر الله على صنيعه معهم، فتحوا أفواههم الشرهة للأكل وملأ البطون.
أتت ضربة الله قوية، فقبل أن ينتهوا من أكلهم، أى وبقايا اللحم مازالت بين أسنانهم، عاقبهم الله بضربة عظيمة جدًا يرى معظم المفسرين أنها كانت وباءً مؤلمًا ذهب الكثيرون من الشعب ضحية له .. ولعلم الشعب أن هذه العقوبة هى عادلة وعرفوا أن سببها هو الشهوة الردية التى تملكتهم وجعلتهم يتذمرون على الله، أسموا المكان الذى دفنوا فيه ضحاياهم “قبروت هتأوة” أى قبور الذين اشتهوا.
? ما أسوأ خطية الشهوة وما تجلبه على الإنسان، فقد أسقطت داود وأضاعت قوة شمشمون وكم كانت أيضًا عقوبة الله لهما .. إحذر أيها الحبيب شهوة الجسد التى أذلت كثيرين.
ع35: ومن مكان دفن ضحايا شهوة الجسد إرتفعت السحابة مرة أخرى فى إشارة إلهية بوجوب الارتحال جديدًا، ووقف العمود فى مكان يدعى حضيروت شمال جبل سيناء، فنزل الشعب هناك ونصبوا خيامهم
https://en.wikipedia.org/wiki/Pope_Tawadros_II_of_Alexandria