دورية لوجوس الصوم الكبير – مارس 2023

المقالات

شركة الآلام

قداسة البابا تواضروس الثاني

نحتفل في نهاية الصوم المقدس بأسبوع الآلام أقدس أيام السنة قاطبة، وفيه نعيش مع آلام السيد المسيح الخلاصية لأجلنا نحن البشر. وتتمتع كنيستنا بتراث دسم للغاية في القراءات والألحان والصلوات والساعات الطوال مع الأصوام والميطانيات وكل مظاهر الطقس الكنسي العميق في الروحيات والتأملات. ويُفتتح أسبوع الآلام بيوم سبت لعازر حيث نجد السيد المسيح يشارك أسرة لعازر المحبوب لديه جدًا، يشارك الأختين مرثا ومريم في الدموع والبكاء من أجل لعازر حبيبنا الذي قد نام (يوحنا11:11)، ويأتي السؤال الإنساني الخطير: هل النفوس المحبوبة لدى الله تعاني الشدائد والضيقات؟!.. ولكن يجب أن نفهم قلبيًا ونعي تمامًا أنه ليس معنى أننا نحب الله أو كوننا محبوبين عنده أن نُعفى من التجارب والآلام والشدائد. بل ربما العكس صحيح تمامًا، إذ أن محبته لنا جعلته يتألم من أجل كثرة خطايانا، حتى أن البعض يقول إن كل خطية يصنعها الإنسان هي بمثابة شوكة جديدة أو مسمار جديد في مسيحنا المصلوب لأجلنا…

إن محبته لنا تجعله شريك آلامنا، ومحبتنا لله تعطينا احتمالًا للآلام، كما قال القديس بولس الرسول: “من أجلك نمات كل النهار”.

كثيرًا ما نعاني نحن البشر آلامًا قاسية، سواء على المستوى الفردي كالمرض والفشل والخسارة، أو على المستوى الجماعي كالكوارث الطبيعية وثورات الطبيعة: كالزلازل والفيضانات والبراكين، أو الأحداث والحوادث العنيفة بكل صورها وأشكالها.

إن قضية الألم والإنسان أحد مظاهر الحياة الإنسانية. فلم يوجد الإنسان يومًا بدون ألم، والبعض يقول إن صرخة الطفل حين ولادته وبكائه دلالة على أنه أتى إلى عالم الشقاء والألم بعد أن ظل هادئًا ساكنًا آمنًا متمتعًا بخصوصية وجوده في رحم أمه بلا أدنى ألم…

ويأتي السؤال الدائم: لماذا يسمح الله بالتجارب والآلام؟!..

بالتأكيد الله محب البشر صانع الخيرات ضابط الكل، وبالتالي تكون التجارب والآلام هي لاختبارنا وتزكيتنا، أو لإظهار إيماننا وإعلان فضائلنا في حياة التسليم والصبر والاحتمال، أو لأن الله يتمجد عند انتصارنا على الآلام والتجارب.

الألم ينقي القلوب والنفوس مثلما تنقي النار الذهب والفضة، وبالألم تنسحق النفس في طريق التوبة وترك الخطية والبحث عن عهد جديد للحياة النقية.

0213 scaled

كان لعازر في القبر رمزًا للبشرية الميتة في قبور شهواتها والتي صارت بلا نور في الحياة، وصار القلب قاسيًا متحجرًا تَوَقف فيه حب المسيح، وصارت رائحة العالم لا تُطاق حتى قال أقرب الناس: لقَدْ أَنْتَنَ!! (يو11: 39).

وفي صباح يوم أحد السعف ينفرد قداس ذلك اليوم بطقس الجناز العام بعد القداس مباشرة، حيث يقوم الكاهن في نهايته برش المؤمنين بهذا الماء الذي نال بركة الصلاة، إذ لا نقيم جنازات عن أنفس المسيحيين المنتقلين خلال أسبوع البصخة المقدسة؛ لأن هذا الأسبوع مخصص لعمل تذكار آلام وصلب وموت ابن الله، حيث تعيش الكنيسة آلام عريسها ولا تنشغل بأي حزن آخر.

وصلوات التجنيز العام هي فرصة صلاة خاصة يقول فيها الإنسان لله: كمِّل لي يا رب حياتي في سلام، وأعطني النهاية الصالحة. وهذه الفرصة تمتلئ بمشاعر التوبة وطرح الخطية مع مشاعر الاستعداد للنهاية حيث يقولون “إن من لا يتخذ من الموت أهم واعظ، لن تفيده سائر المواعظ”.

والعجيب في الطقس الكنسي أن هناك مقابلة بين هدايا المجوس الثلاث وبين هذه الفترة المقدسة في السنة والتي تشمل الصوم الكبير (55 يومًا) مع الخمسين المقدسة (50 يومًا).
الذهب = رمز إلى أيام الفرح في الخمسين المقدسة
لبان = رمز إلى أيام الصوم (40 يومًا + أسبوع الاستعداد + 3 أيام يونان)
المر = رمز إلى أيام أسبوع الآلام والصليب.
لذلك “المر” الذي يرمز إلى الألم هو في صميم الحياة الإنسانية، وهو الذي جعل بولس الرسول يقول عن اختبار القيامة: «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ» (في3: 10).

إلى كل صاحب ألم، وإلى كل من يجتاز ألمًا مهما كان ظاهرًا أو باطنًا، ومهما كان جسديًا أو نفسيًا أو معنويًا.. نقول: “افرح” لأنك صرت عضوًا في هذه الشركة المقدسة، “شركة الألم” التي أسسها مسيحنا القدوس المصلوب لأجلنا، وها هو بولس الرسول يتحدث عن اختبار المعرفة الشخصية التي يؤكدها بقوله “لأعرفه” من خلال قوة القيامة المجيدة “وقوة قيامته” في شركة آلامه الخلاصية “وشركة آلامه” متشبهًا بموته.

إن كانت حبة الخردل الصغيرة تتألم وتموت في الأرض، ولكنها تطرح ثمرًا وحياة جديدة.
إننا بالثقة والإيمان العميق نواجه الآلام.
وبالتسليم والصبر الكامل نفهم الآلام.
وبالفرح والسلام الداخلي نثق في الآلام.
بقوة الله نعيش آلامنا ناظرين إلى المصلوب لأجلنا، عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا وتعزية وفرحًا لكل المتألمين.

بركة هذه الأيام المقدسة مع جميعكم.

محبة أبدية أحببتك

مثلث الرحمات نيافة الأنبا كيرلس مطران ميلانو والنائب البابوي لأوروبا
رأيته معلقًا على خشبة الصليب، فعرفت أنه محب البشر. ولكني قلت متعجبًا، كيف قام البشر، واجتمعوا معًا لصلب المسيح المحب لهم؟! وهو الذي جاء متجسدًا لأجلهم؟!
كيف صلبوا المسيح، وسمروا شمس البر الذي أشرق على الأرض والشفاء في أجنحته؟!
كيف علقوا المسيح، وربطوا أجنحة السلام، بعدما نزعوا الريش من عليها؟!
كيف طعنوا الحمل، ورفعوه عاليًا على خشبة الصليب؟!
قلت، أليست هذه الجموع هي التي أطعمها بيديه، وشفى أمراضها، وأخرج الأرواح الشريرة من بينهم، ومسح دموع المتعبين، وعزى قلوب الحزانى؟!
وسألت، هل هذه الجموع هي التي سمعت تعاليمه على جبل الموعظة؟! وأليس هو المسيح المعلم الصالح الذي فتح فاه، وعلم الجمع الغفير الجالس على مدرجات جبل الموعظة؟!
نظرت إليه وهو في عُلُوه على جبل الجلجثة وقلت، تُرى بعدما أعطى المسيح درسًا للجموع عن المحبة، هل خرج بهم، وانتقل بهم إلى مدرجات جبل الجلجثة لينظروه وهو في معمل الضيقات؟!
هل ارتفع أمام أعينهم لكي يُعرفهم المحبة الحقيقية، وأنه المعلم الصالح الذي أعماله تَصدق أقواله؟!
وتذكرت كل ما قاله للجموع الجالسة على مدرجات جبل الموعظة من تعاليم سامية، “أحبوا اعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم”، وإن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم؟
وسمعته وهو علي جبل الجلجثة فوق بوتقة الألم يصرخ قائلًا من أجل صالبيه
“يا ابتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون”.
0175 scaled
رأيت المسيح معلقا على خشبة الصليب، ولكني رأيته بصورة غير مألوفة لدى الأنظار، فسألت أين ذراعه، ويده اليمنى؟!
من الذي أنزلها من على خشبة الصليب؟! من الذي أطلقها من قبضة المسمار؟!
عدتُ أكرر نظري نحو الصليب مدققًا، فسألت نفسي مرددًا نفس التساؤل؟!
أين ذراع المسيح، وأين يمينه القوية؟! هل كسروها؟! هل قطعوها؟!، قلت مستحيل لأنه مكتوب “عظمة واحدة من عظامه لا تنكسر” (يو ١٩ :٣٦)
وتذكرت ما قاله المسيح “أبي يعمل حتى الآن. وأنا أعمل”. فتشككت في نفسي وقلت، المسيح قال إنه يعمل مادام نهار؟! ولكن هذه ساعة سلطان الظلمة، ترى ماذا يعمل؟! وكيف يعمل، وجسده مربوط بالمسامير، وأين يعمل؟!
تساؤلات كثيرة وردت على قلبي، حول محبة المسيح. وأعماله، وذراعه ويده اليمنى؟!
وبينما كنت أفكر في كل هذه الأمور، شد انتباهي الحوار الذي دار بين اللص اليمين والمسيح الذي “يُخلص كل من تعلق به” (مز ‎١٤: ٩١)
سمعت الحوار بوضوح، سمعت نبرات صوت اللص التي كانت خارجة من قلب صادق ومنسحق. وسمعت نبرات المسيح ذي القلب المتشوق لخلاص ونجاة كل أحد.
كان حوارًا فريدًا من نوعه، القلوب المتألمة والمتشوقة؟! اللص كان يصرخ متلهفًا “اذكرني يا سيدي متى جئت في ملكوتك”؟! والمسيح يرد متشوقًا “اليوم تكون معي في الفردوس.” (لو٢٣)
قلت في قلبي، هذا الحوار عجيب؟! حوار في أرض المحاكمة، لكنه بعيد عن الحُكام والأحكام التي في الأرض. حوار كان عاليًا فوق مستوى الأرض، لا تقدر أن تدخل فيه يد بشرية.
حوار لا يتخطى جملة واحدة فيها طلبة نقية من اللص، انتهت بالمصاحبة الدائمة في الفردوس؟!
وسط المحاكمة، تم الحوار الذي لم تُعقه قوانين أرضية، ولا أباطرة ولا ولاة ولا رؤساء،؟!
نظرت إلى الذين تحت الصليب، رأيتهم ينتظرون موت المسيح، بينما هو كان منشغلًا بمسيرة الحياة الجديدة مع اللص اليمين؟!
علمت أن سلطان الظلمة لا يقدر أن يقاوم عمل المسيح، هو يعمل دائمًا، لأنه هو النهار، هو نور العالم، والساكن في النور، والذي تسبحه ملائكة النور، ولا تقدر الظلمة أن تدنو منه.
وبينما أبحث وأسأل عن ذراع المسيح ويمينه القوية، رأيتها وهي تفتح الأبواب المغلقة من قديم الزمان؟!
ففرحت بالأكثر عندما سمعت أصواتًا ملتهبة تطرق على الأبواب، وتصرخ قائلة، “افتحي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد” (مز٤٢:‏ ٧)؟
وقلت، قد يكون هذا الصوت، هو الخارج من الكروبيم ذي السيف المتقلب المكلف بحراسة شجرة الحياة، من وقت سقوط آدم وحواء،؟!
قلت في قلبي: المسيح يعمل أيضًا وهو على خشبة الصليب، هو ذاهب لكي يفتح باب الفردوس. وتذكرت ما قاله المرنم داود في المزمور “يمينك صنعت قوة، يمينك رفعتني،” (مز١١)،‏ فكرت بصوت عال، هل هذا المزمور خاص باللص؟!
هل هو ترنيمته التي يقولها عندما يدخل الفردوس وعندما يتمشى ويتحرك؟!
الأبواب الدهرية المغلقة، انفتحت بذراع المسيح الرفيعة، وبيمينه القوية.
علمت أن ساعة الظلمة، لم تقدر على المسيح، حتى ولو ظلموه وربطوه وعلقوه، وثقبوا يديه ورجليه، وأماتوه على خشبة الصليب. هو القدوس الذي بضعفه أظهر ما هو أعظم من القوة.
اشتاقت نفسي أن تنظر إلي ما وراء الصليب، فرأيت يمينه القوية تدلت من على شجرة الصليب، ورأيتها عندما دخلت إلى أعماق الحية؟! ونظرتُ إليها وهي تخرج آدم وبنيه؟!
يمين آدم المائت بالخطية تعلقت بذراع المسيح آدم الثاني الطيب المعطي الحياة، وخرجَت رأس آدم وجسمه من أعماق الظلمة.
رأيت ألوفًا، وربوات خرجوا من بطن الحية. ورأيت الحية وهي تزحف سريعا على بطنها لكي تختبئ في شقوق جبال الجلجثة، ودون أن تدري وضعت رأسها تحت شجرة الصليب، فاختفت بجذورها.
رأيت شجرة الصليب أفرخت أغصانها، وأنبتت أوراقها، واستظل في حماها آدم وبنوه وبها دخلوا الفردوس الدائم؟!
رأيت الولادة الجديدة للبشرية؟! الشهوة حبلت في قلب البشرية فولدت خطية، والخطية كملت فأنتجت موتًا للجميع، والموت أصبح جنينًا في رحم الأرض. من الذي يقدر أن يحييه؟! من الذي يقدر أن يخرجه؟! ومن الذي يقدر أن يخلصه؟!
ذراع الله هي التي تقدر أن تخرجه من الظلمة إلى النور، ويمين الله هي التي تقدر أن تخلصه، وقوة العلي هي التي تقدر أن تعطيه الحياة من الموت.
شكرًا لعطايا الله، “الذي شاء وتجسد فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه” (يع١:١٨)

رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ אִ֥ישׁ מַכְאֹב֖וֹת וִיד֣וּעַ חֹ֑לִי (إش 53: 3)

إن آلام هجوئيل הַגּוֹאֵ֔ל[1] لم تكن قاصرة على الصليب ولا على الآلام السابقة له، فقد لخَّص الكتاب حياة عريس النفس بالجسد في تلك العبارة العميقة بإنه “رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ”[2]
1. لم يجد موضعا يسند فيه رأسه: “لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ”[3]
2. عُرف في وطنه بابن النجار: “أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟”[4]
3. لم يجد محبة تُماثل محبته ولا معاملة تُماثل معاملته للناس. لقد عاش وسط أشخاص “أحبوا الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً”[5]
4. “كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ”[6]
5. “جَاءَ إِلَى خَاصَّتِهِ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ”[7]
6. احتمل ظلم الأشرار القائلين عنه بِهِ شَيْطَانٌ[8] إِنْسَانَ خَاطِئٌ[9] يُفْسِدُ الأُمَّةَ[10] مُضِلَّ[11] مُخْتَلُّ[12] مَعَهُ رُوحًا نَجِسًا[13] يَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ[14]
7. ذهب إلى إحدى قرى السامرة فأغلقوا أبوابهم في وجهه ولم يقبلوه: “فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهًا نَحْوَ أُورُشَلِيمَ”.[15] أما الرب فقابل رفض كل هولاء بالحب، وظل يسعى وراءهم حتى فاز بهم: “فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدًّا بِسَبَبِ كَلاَمِهِ”.[16] لقد كان حبيبنا مضطهد منذ صباه: “إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ”.[17] لقد كانت الأوجاع والأحزان أوجاع وأحزان غيره؛ “لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ “أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا”.[18] فكلمة أوجاع في الأصل العبري تشير إلى الآلام الجسدية والنفسية التي حملها المسيح في ذاته، فهو “تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا فيَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ”[19] “فيَسُوعَ نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِد”ٍ.[20] فلا تخجل من المصلوب، بل بالحري تفتخر به قَائِلاً: خطايانا حملها وأحزاننا تحملها وبجراحاته شفينا. فدَمِهِ:
– لغفران الْخَطَايَا[21]
– للتقديس: “فيَسُوعُ لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ”[22]
– للثباث: “فمَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ”[23]
– يمنحنا حياة أبدية: “مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ”.[24]

0080 scaled

فخبز الحياة “مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا ولكن بِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا”.[25] “فالَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً صَارَ خَطِيَّةً لأَجْلِنَا لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ”.[26] صار لعنةً لا من جهة لاهوته، بل من جهة ناسوته؛ إذ هو مكتوب: اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ.[27] فعقيدة آلام المسيح الكفارية هي عقيدة كتابية وردت في كتب التراث اليهودي منها: تعلمنا [أن آباء العالم سيقومون في شهر نيسان/ أبريل، ويقولون للمسيح: بالرغم من إننا آباؤك، لكنك أنت أعظم مننا؛ لأنك حملت خطايا أبنائنا،[28] ومرَّت عليك مآسي قاسية لم تمر على الأولين ولا الآخِرين، وصرت ضحكة واستهزاءً بين أمم العالم في سبيل إسرائيل، وجلست في الظلمة والظلام وعيناك لم ترَ نورًا ولصق جلدك بعظامك، وجسدك يبس كخشب،[29] وعيناك اظلمّت من الصوم، وقوتك يبست كالفخار. فكل هذا بسبب خطايا أبنائنا].[30] [فيوجد في جنة عدن مكان يسمى مكان أبناء الأوجاع، سيدخل المسيا هذا المكان، وسيجمع كل ألم. وكل ضربات إسرائيل ستأتي وتستقر عليه، وسيحمل هذا بسرور نيابة عنهم حيث لم يقدر إنسانٌ أن يحمل ضربات إسرائيل المكتوبة في التوراة سوى المسيح، هذا الذي قيل عنه أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا].[31] [فحين خلق الله إلوهيم العالم، بسط يديه تحت عرش مجده، وحمل شخص المسيا، وقال له: “أتَشفِي وتُخلص أبنائي بعد 6000 سنة”؟ أجابه: “أريد”.  فقال له الله إلوهيم: أنت بالتالي ستحمل العقوبة كي تمحو خطاياهم كما هو مكتوب “أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا”.[32] فأجابه المسيا: “أنا أحملها بسرور”.[33] فينبغي علينا أن نتوقف للحظات قليلة كي نشرح، لماذا وضع الله إلوهيم على المسيا هذه الآلام والأوجاع بالنيابة عن إسرائيل؟ استحقت الأمة اليهودية من الله عقوبة الدينونة أكثر من التي نالتها بكثير، ولكن لم يكن لها القوة لتتحملها؛ لذا عيَّن الله عبده المختار المسيا، ليحمل خطاياها لكي لا يفنى إسرائيل.[34] فهو القائل عن نفسه إنه مريح التعابى. “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ”][35] [فالقدوس المبارك عقد اتفاقية مع المسيا، وقال له: “خطايا أولئك الذين سأغفر لهم من أجلك سيتسببون لك أن تقع تحت نير من حديد. وبسبب خطاياهم سيلتصق لسانك بحلقك، أتريد أن تتحمل كل هذا”؟ فأجابه المسيا: “يا سيد الكون بكل مسرة نفسي وفرح قلبي سأحملها عنهم، شريطة أن لا أحد من إسرائيل يهلك، ليس فقط في أيامي، ولكن أيضًا الراقدين تحت التراب يقومون من أول إنسان حتى الآن.][36]

فكان ابْنُ الإِنْسَانِ في حياته على الأرض مُجَرَّبًا في ثلاث نواحي:
1. مُجَرَّبًا من الشيطان: “ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ”.[37]
2. مُجَرَّبًا من الإنسان: “قُلْ لَنَا مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ ؟”.[38]
3. مُجَرَّبًا بالآلام والأحزان: “رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ”..[39]

فبالرغم من آلامه وأحزانه قالت عنه السولمية הַשּׁ֣וּלַמִּ֔ית “عذراء النشيد” كُله مَحّمَدِيم מַחֲּמַדִּ֑ים[40] أي في منتهى الجمال والوسامة. فكل صفه من صفاته حلوة تشتهيها النفس المتجددة، وتجد فيها لذتها. لا تنقصه صفة واحدة من صفات الكمال، وكأن السولمية شعرت بعجزها عن أن تُلِم بكل أوصافه أو تدرك كل غنى المسيح الذي لا يُستقصى، فقالت: ” كُله مُشْتَهَيَاتٌ” أي كُله حلو من رأسه حتى قدميه כולו חמוד מראשו ועד רגליו فهو أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ צַח֙ וְאָד֔וֹם[41]. فيقول الكتاب “إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ”[42] وَأَحْمَرُ “لأن إِلهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ”[43] وهو الحمل المذبوح عن العالم بثياب مُحَمَّرٌ: “مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟ قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَد فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي فَرُشَّ عَصِيرُهُمْ عَلَى ثِيَابِي فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي”[44] فأَبْيَضُ وَأَحْمَرُ المقصود بهما أنه:
1. جميل ورائع في شكله
2. “أَنْقَى مِنَ الثَّلْجِ وأَشَدَّ حُمْرَةً مِنَ الْمَرْجَانِ”[45]
3. أَبْيَضُ في بتوليته وأَحْمَرُ في الاستشهاد[46]

فهي نبوة عن قداسة وفداء المسيح.[47] وبالرغم من أنه معلق على الصليب “لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ”[48] إلا إنه “أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ”.[49] حيث يذكر ترجوم يوناثان هذه العبارة هكذا: [جمالُك أيها الملك المسيا أعظم من ذاك الذي لبني البشر שׁוֹפְרָךְ מַלְכָּא מְשִׁיחָא עֲדִיף מִבְּנֵי נְשָׁא.] ويعلق القديس أغسطينوس قَائِلاً: [إنه جميل في السموات بكونه الكلمة مع الله الآب، وجميل على الأرض. وهو متسربل بالطبيعة البشرية. جميل في الرحم، جميل بين ذراعيْ والديه، جميل في المعجزات، وجميل في جَلده بالسياط، جميل في منحه الحياة، وجميل في عدم رفضه الموت، جميل في بذل ذاته، وجميل في أخذها ثانية. جميل على الصليب، وجميل في القبر، وجميل في عودته إلى السماء. فهكذا نراه أبرع جمالاً في طبيعته؛ بكونه كلمة الله الواحد مع أبيه، والمساوي له في الجوهر. وأبرع جمالاً في عمله الخلاصي، وبَذْلِه آخِر قَطرة من دمه لأجل خلاص محبوبه الإنسان. هو أبرع جمالًا من البشر وليس الملائكة؛ لأنه أخذ طبيعتنا وليس طبيعة الملائكة.][50]

وبالرغم من أنه أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ، لكنه رُفض من خاصته بسبب:
1. كثرة معجزاته وخوف اليهود على سلطتهم وأُمتهم: “مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً إِنْ تَرَكْنَاهُ هكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا”.[51]
2. يتكلم بالحق: “لأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي”[52]
3. الشفاء في السبت: “فَأَجابَ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي السَّبْتِ”.[53]

كل ذلك أدى إلى تآمُر اليهود عليه، ومحاولة قتله مرارًا كثيرة، ولم يقدروا؛ “لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ”.[54] فاحتمل المسيح كل هذه الآلام من أجل خلاصنا كما يقول سفر التِّهيليم: “مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ غَطَّى الْخَجَلُ وَجْهِي”[55] فبسبب حُبِّه ولذته ومسرته في بني آدم، “وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ”[56] “وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا؛ لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا”.[57] فنْحنُ الذينَ أَخْطأنا وهو الذى تألمَ نْحنُ الذينَ صرْنا مَدْيونيِنَ للعَدلِ الإلهي بِذِنوبِنَا وهوَ الذى دَفَعَ الِديونَ عَنا؟ فاحْزَني يا نَفْسِي علَى خَطَاياكِ التي سَبَبَتْ لفَادِيكِ الَحَنُون هَذه الآلامَ ارسْمِيِ جَرْحَهُ أمَامَك واحتَمي فِيه عندما يَهيجُ عليكِ العَدَو، فأَعْطِنى يا مُخَلِّصِى أَنْ أعتَبِرَ عَذَابكَ كَنْزي وإكليلَ الشَّوكَ مَجْدِي وأوجاعَكَ تَنَعُمِي ومرارتكَ حلاوَتي ودمُك حَياتي ومَحبتُك فخري وشكري.[58]

المزيد
[1] الفادي
[2] (إش 53: 3)
[3] (مت 8: 20)
[4] (مت 13 : 55)
[5] (يو 3: 9)
[6] (يو 1: 10)
[7] (يو1: 11)
[8] (يو 10 : 20)
[9] (يو 9 : 24)
[10] (لو 23 : 2)
[11] (مت 27 : 63)
[12] (مر 3 : 21)
[13] (مر 3 : 30)
[14] (لو 23 : 2)
[15] (لو 9: 53)
[16] (يو 4: 39- 41)
[17] (مت 2: 13)
[18] (مت 8: 17)
[19] (عب 2: 18)
[20] (عب 2: 9)
[21] (كو 1: 14)
[22] (عب 13: 12)
[23] (يوحنا 6: 56)
[24] (يو 6: 54)
[25] (إش 53: 5- 6)
[26] (2كو 5: 21)
[27] (غلا 3: 13)
[28] (إش 53: 4-5)
[29] (مرا 4: 8)
[30] المسيح في التراث اليهودي, سلسلة آلام المسيح 1
[31] (إش 53: 4) , القمص روفائيل البرموسي, ليتقدس اسمك ج2, ص 202
[32] (إش 53: 4)
[33] القمص روفائيل البرموسي, ليتقدس اسمك ج2, ص 199
[34] القمص روفائيل البرموسي, ليتقدس اسمك ج2, ص 201
[35] (مت 11: 28)
[36] القمص روفائيل البرموسي, ليتقدس اسمك ج2, ص 204
[37]  (مت 4: 1)
[38] (مت 22: 17)
[39] (إش 53: 3)
[40] مشتهيات
[41] )نش 5: 10)
[42] (1يو 1: 5)
[43] (عب 12: 29)
[44] (أش 63: 2، 3)
[45] (مرا 4: 7)
[46] Jerom, Against Jovinianus 1.31
[47] رؤية الرابيين اليهود للمسيا, القمص كرنيليوس المقاري, ص 143.
[48] (إش 53: 2)
[49] (مز 45: 2)
[50] سفر المزامير, القمص تادرس يعقوب ملطي, كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج, ص 663.
[51] (يو 11: 47- 48)
[52] (يو 8: 45)
[53] (لو 13: 14)
[54] (يو 8: 20)
[55] (مز 69: 7)
[56] (في 2: 8)
[57] (رو 5: 8)
[58] قسمة أيها الابن الوحيد

آخر عدو يبطل هو الموت

ظهر التساؤل عن القيامة وسجل مار مَرْقُسَ: «وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ (التجلي)، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ: «مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟» (مَرْقُسَ9:9،10). وماريُوحَنَّا يقول: «فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ.» (يُوحَنَّا22:2). ثُم عّلم الرب عن القيامة العامة لجميع البشر فقال: «فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ.» (يُو28:5،29).

وأول إشارة نبوية لقيامة المسيح، وللقيامة العامة للْجِيلِ الذي عاشه يُونَانُ النبي اعلنها الرب إذ قال: «لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال. رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ». (مَتَّى40:12)، وأشار اليهود لهذه النبوءة أمام ِبيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ» (مَتَّ63:27).

وتُعتبر قيامة السيد المسيح الدليل على صدق عقيدة القيامة، كما هي دليلٌ على لاهوته إذ أقام ذاته بذاته. الأمر الذي يُثبت قدرته على إقامة الكل. فالقيامة قوة كامنه فيه ««أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ»  (يُوحَنَّا25:11،26).

وهكذا علم الآباء الرسل الإيمان بالقيامة وغلبة الموت: أظهر مار بُولُسُ الرسول الخلاف القائم بَيْنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ، حول عقيدة القيامة حينما صَرَخَ فِي الْمَجْمَعِ وقال: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ابْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ.. وَلَمَّا قَالَ هذَا حَدَثَتْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ، وَانْشَقَّتِ الْجَمَاعَةُ، لأَنَّ الصَّدُّوقِيِّينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ قِيَامَةٌ وَلاَ مَلاَكٌ وَلاَ رُوحٌ، وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَيُقِرُّونَ بِكُلِّ ذلِكَ.». (أَعْمَالُ 6:23-8). وهذا جعل الرب يكلم الصَّدُّوقِيِّينَ ليعلن لهم حقيقة القِيَامَة من أقوال موسى النبي، التي لا يؤمنون إلا بها: «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ، أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ الْقَائِلِ: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ اللهُ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ» (مَتَّى 31:22-32).

0111 scaled

ويشرح القديس بُولُسَ أهمية الإيمان بالقِيَامَةِ فيقول: «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضًا شُهُودَ زُورٍ للهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ اللهِ أَنَّهُ أَقَامَ الْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ، إِنْ كَانَ الْمَوْتى لاَ يَقُومُونَ…وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ!، إِذًا الَّذِينَ رَقَدُوا فِي الْمَسِيحِ أَيْضًا هَلَكُوا!». (كُورِنْثُوسَ14:15) ومن هنا نخرج بنتيجتين: قِيَامَة الْمَسِيح أساس الإيمان الْمَسِيحي: فبدونها إِيمَانُنا بَاطِلٌ، وَكِرَازَتُنَا بَاطِلَةٌ. قِيَامَة الْمَسِيح أساس الإيمان بقِيَامَةُ الأَمْوَاتٍ.

قيامة السيد المسيح كباكورة لقيامتنا: كان أول حديث لرب المجد عن موته وقيامته عندما أعلن مار بطرس الرسول[1]  اعترافه بلاهوت المسيح: «مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ».(متى21:16)، كما أشار ثانيةً لقيامته : فِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ابْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ، فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ».(مَتَّى22:17). ومرة ثالثة أثناء صعوده مع تلاميذه قال لهم: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». (مَتَّى18:20-19).

ولأن قيامة المسيح باكورة لقيامتنا قال مار بولس: «الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ.» (كُولُوسِّي18:1). ثُم أعطانا رُوح القيامة:

[فقال بولس الرسول «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ.» (رُومِيَةَ 11:8) فهو يحدثنا عن فاعلية القيامة إذ أن هذا الرجاء قد تأكد بالمسيح يسوع. لأنه إن كانت الأجساد المجردة من الروح القدس لا تقوم ، فكيف يقول: ينبغي لنا جميعًا أن نقف أمام منبر المسيح؟، حقيقةً أن الكل سيقومون ولكن ليس الكل إلى الحياة… فإن كانت مادة الجسم البشري ستتحلل في التراب لكن صورتها ستبقى خالدة تنتظر لتأخذ حياتها الجديدة بالقيامة ][2]

ولعل معجزات القيامة للبعض تُعطي إثباتًا للقيامة[3]  [ففي هذه الحالات تم استدعاء أرواحهم ثانيةً إليها بعد أن ماتوا، وعادت إليهم الروح والحياة. وهذا ما يتضح من فتح أعينهم، وجلوسهم، وبدأهم الحديث، وتناولهم الطعام. وأطلق الكتاب المقدس عليها قيامة من الموت، فإقامة الموتى كانت عملاً من أعمال التلاميذ والأنبياء، أُعطيّ لهم من الله حينما قال لهم: «اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا.
أَقِيمُوا مَوْتَى.» (مَتَّى8:10)][4].

بين القيامة الأولى و القيامة الثانية العامة: رغم أن مدلول القيامة العام هو عودة الحياة بعد الموت، أو قيامة جسد الإنسان بعودة الروح إليه، وهذا سيحدث لجميع البشر في القيامة العامة للأبرار والأشرار في اليوم الأخير(1تس14:4). إلا أنه يوجد معنى اصطلاحي آخر هو القيامة الأولى ونقصد قيامتنا من الموت الروحي ويحدث جوهريًا في سر المعمودية بقيامة طبيعتنا التي ماتت بالخطية، [ففي آدم الأول مات الجميع، كما يحدث مجددًا في امتداد المعمودية أي في سر التوبة، وهذا ما قال سفر الرؤيا «مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقِيَامَةِ الأُولَى. هؤُلاَءِ لَيْسَ لِلْمَوْتِ الثَّانِي سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ» (رؤيا 6:20). وقد شرح القديس أوغسطينوس النص:«تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ.» فيُحدد أنه يشير إلى القيامة الأولى].[5] وهذا علمه مار بولس الرسول: «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ»(أَفَسُسَ14:5).

وهنا نتساءل: ما طبيعة الجسد المُقام؟:

الجسم المُقام هو جسم مادي، ليس له نفس الخواص الطبيعية التي كانت له من قبل، فسيُمنح عدم الفساد، والخلود، والروحانية، ليكون مناسبًا للحياة الأبدية.

فلا يقوم الأعمى أعمى، ولا الأعرج أعرج، بل يقومون أصحاء، فالفارق بين جسد القيامة، وما قبل: كبيرٌ جدًا، فالأبرار يقومون في مجدٍ عظيم، وأجسادٍ نورانية، والأشرار يقومون بأجسام معتمة «وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ. وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ.» (دَانِيآل2:12،3).

وتبدأ فاعلية القيامة في حياة المؤمنين منذ سر المعمودية ففيه نُدفن مع المسيح ونقوم في حياة جديدة نولد مِنْ فَوْقُ ولادة روحانية، نولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ ، فتتغير طبيعتنا ونأخذ طبيعة أولاد الله  كقول المسيح لنِيقُودِيمُوسُ «اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.» (يُوحَنَّا6:3)، وتمتد فاعلية القيامة بالاتحاد بالمسيح «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، .. فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي.» (يُوحَنَّا54:6-57).

ثُم يُدشن الجسد الإنساني بسر الميرون و يتغذى بالجسد الإلهي ودم ابن الله، وباتحاده بالمسيح يأخذ إمكانيات القيامة، وحياة البر والفضيلة، ويُجاهد أن يتشبه بالمسيح حتي يتصور المسيح فيه، وقد قال الرب: «خُذُوا كُلُوا هذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي .. هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي». فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ .. وَشَرِبْتُمْ ..، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ.» (1كو23:11-26)، وتظل الكنيسة تقتات بالافخارستيا حتى تُصبح هي جسد المسيح القائم. وهذا ما قاله مار بولس «هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ» (رُومِيَةَ5:12). فالمسيح رأس الكنيسة القائمة، الرأس لجسم القيامة. «وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ.» (كُولُوسِّي18:1،19).

يقول العلامة ترتليان [يؤكد الكتاب المقدس قيامة الأموات فيُظهر مكانة الجسم في القيامة العامة، إذ قَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لآدم: «لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».(تَّكْوِينِ19:3)، وتبين أنه لم يكن موتًا وفناء، لكن كان تدميرًا مؤقتًا لأعضائنا. وهذا ما قصده السيد المسيح حينما قال: «انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ».(يُوحَنَّا 19:2)، كما يتبين أنه على الرغم من تهدمه فإنه يحفظه حتى يُقيمه ثانيةً، وليؤكد أنه يقصد جسده أكمل: «أَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ.» (يُوحَنَّا 21:2)][6].

أخيرًا فقد ذُكرت قيامة الرب كباكورة 34مرة، وقيامة المؤمنين 15مرة. وقيامته أعطتنا الرجاء في قيامتنا، وصارت أساس إيماننا بعقيدة القيامة. واتحادنا بالمسيح هو سر القيامة، وسر جسد القيامة الممجد (2كو18:3). ولذلك أكمل المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية عام 218م. قانون الإيمان وقال: وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي. آمين.][7] مثبتًا أن قيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي من أهم عقائدنا المسيحية التي نعلنها جهارًا.

المزيد
[1]خطابات بطرس الرسول الخمسة التي ألقاها في: يوم الخمسين (أع 14:2-36) ، وفي رواق سليمان (أع 12:3-26)، والمجمع بأورشليم (أع8:4-10) ، (أع29:5-32) ، ولكرنيليوس (أع 34:10-43).
[2] St. John Chrysostom ,  Nicene and Post- Nicene Fathers; Vol. 11,  P. 436.
[3]إقامة ابن أرملة صرفة صيدا (1مل21:17- 23)، إقامة ابن المرأة الشونمية (2مل32:4- 36)، إقامة رجل وضع في قبر إليشع (2مل32:4- 36)، إقامة طابيثا (أعمال9: 40- 42)، إقامة أفتيخوس (أعمال20: 9- 12)، إقامة ابن الأرملة بنايين (لوقــا7: 12- 15)، إقامة لعــازر (يو11: 40- 44) إقامة كثير من الراقدين أثناء موت المسيح (مت27: 52).
[4] Buttrick, G.A. The  Interpreters Dictionary of the Bible, Vol. 4. PP. 39 – 53.
[5]St. Augustin. Nicene and Post- Nicene Fathers; Vol. 2. Book 20 ;Chapter.6 – 7 P. 425-426.
[6]Tertullian, The Ante Nicene Fathers; Vol. 3  ; Part 2 Chapter .18, P.557 .          
[7] Nicene and Post- Nicene Fathers; Vol.14, P.163.
  • الرئيسية
  • الكنيسة القبطية
  • المجمع المقدس
  • البابا تواضروس الثاني
  • الأديرة والإيبارشيات
  • الهيئات القبطية
  • الأخبار
  • الرئيسية
  • الكنيسة القبطية
  • المجمع المقدس
  • البابا تواضروس الثاني
  • الأديرة والإيبارشيات
  • الهيئات القبطية
  • الأخبار
Facebook-f Instagram Youtube X-twitter Threads Soundcloud Bullseye