في اليوم السابع من شهر بشنس من سنة 89 للشهداء (373م)، تنيح القديس العظيم البابا اثناسيوس الرسولي البطريرك العشرون من بطاركة الكرازة المرقسية. وُلد بالإسكندرية نحو سنة 297ميلادية، واشتاق للمسيحية بعد أن تأثر بأخلاق المسيحيين. عمّده البابا ألكسندروس وبعد قليل رسمه شماساً واتخذه تلميذاً. تتلمذ أيضاً رهبانياً على يد القديس انطونيوس ابي الرهبان. أظهر نبوغه المبكر في كتابيه (ضد الوثنيين)، و(تجسد الكلمة).
حضر الشماس أثناسيوس مع البابا ألكسندروس المجمع النيقاوي سنة 325م، وتغلب فعلاً على آريوس، وفي الثامن من شهر بشنس سنة 44 للشهداء (328م)، رُسم بطريركاً بعد نياحة معلمه البابا ألكسندروس والذي أوصى بذلك قبل نياحته، وكان أثناسيوس شاباً في الثلاثين من عمره. قاد الكنيسة سبع سنوات في جو من الهدوء، رسم أثناءها فرومنتيوس أسقفاً على أكسوم بإثيوبيا نحو سنة 330م كأول أسقف لها. قام البابا أثناسيوس بزيارة رعوية للصعيد التقى فيها بالقديس باخوميوس أب الشركة، الذي هرب حتى اطمأن إنه لن يُرسم كاهناً. بدأت المتاعب تطارد البابا بعد أن أصدر الإمبراطور قسطنطين أمره بقبول أريوس في الشركة، حيث كان قد إدعى توبته وكتب قانون الإيمان بصيغة ملتوية، وقد رفضه البابا، فنفاه الإمبراطور. جدير بالذكر أن يوسابيوس النيقوميدي كان قد بذل محاولات شاقة لفرض رأيه جبراً لعودة اريوس لشركة الكنيسة. فأدى ذلك الى مرارة نفس ألكسندروس بطريرك القسطنطينية عندما ألزموه بقبول أريوس. وكانت نهاية هذا المبتدع وخيمة إذ انه لقى حتفه في مرحاض عام وهو ذاهب الى الكنيسة. وبعد مرور عام تقريباً، إذ كان قسطنطين على فراش الموت أوصى بعودة أثناسيوس، فعاد إلى كرسيه مُكرماً. ولم يهدأ هجوم أعداء أثناسيوس، فنزل القديس الأنبا أنطونيوس ليساند البابا المتألم. وفي سنة 338م أمر الامبراطور قسطنطيوس بعقد مجمع في أنطاكية أصدروا فيه قراراً بعزل أثناسيوس، وعين الامبراطور جوارجيوس الأنطاكي أسقفاً ووالياً للإسكندرية. عندئذ أرسل القديس أنطونيوس رسائل الى الأسقف الدخيل وبعض الضباط يؤنبهم فيها على تصرفاتهم، كما أرسل القديس باخوميوس أفضل راهبين عنده، وهما زكاروس وتادرس لمساندة المؤمنين بالإسكندرية أثناء غياب البابا وفي سنة 339م سافر أثناسيوس لصديقه يوليوس أسقف روما، ومنذ ذلك الوقت دخلت الرهبنة الغرب. وفي سنة 342م التقى البابا بإمبراطور الغرب قسطانس في ميلان وأقنعه بعقد مجمعـ واتفق مع امبراطور الشرق على عقد المجمع في سرديكا سنة 343م.
جاء الأريوسيون من الشرق ورفضوا حضور المجمع بسبب مشاركة اثناسيوس وجماعته فيه، وعندما انعقد المجمع حرم أحد عشر أسقفاً أريوسياً، فأثار ذلك الأريوسيين فحاولوا عرقلة عودة أثناسيوس للإسكندرية، إلا أن الإمبراطور امر بعودة جميع المنفيين وأرسل ثلاثة خطابات لأثناسيوس يعلن فيها شوقه لرؤياه. وأعقب ذلك أن اثناسيوس التقى بالإمبراطور ثم عاد الى بلاده عام 346م ليستقبله شعبه بفرح. وقد انتهز الأريوسيين فرصة مقتل قسطانس صديق اثناسيوس، فاتهموا البابا ان له علاقة سرية بالقاتل. وإذ تخلص الإمبراطور قسطنطيوس إمبراطور الشرق والغرب من القاتل تفرغ لمقاومة البابا لكراهيته له، وألزم أساقفة الشرق والغرب بعقد مجمعين في آرل بفرنسا سنة 353م وميلان سنة 355م لعزل البابا ونفيه. وفي سنة 356م هاجم الجند كنيسة القديس ثيئوناس بينما كان البابا يصلي، فظل البابا في الكنيسة ولم يغادرها إلى أن خرج منها آخر شخص، إلا أن الكهنة ألزموه بالهرب. وكان أثناسيوس في منفاه الاختياري ينتقل من دير الى دير بقلبه الملتهب بحب الله وشعبه، يرعى أولاده من خلال كتاباته العميقة. كتب سيرة القديس أنطونيوس، ودفاعه عن هروبه، وارسل خطابات الى أساقفة مصر وليبيا والى الرهبان المصريين، وأربع مقالات ضد الاريوسية، وخمس رسائل عقائدية لسرابيون أسقف تمي، وخطابات عن الروح القدس، وكتاب المجامع. وفي سنة 362م، عاد البابا بعد موت قسطنطيوس وتولى بعد الإمبراطور يوليانوس وعقد البابا مجمعاً بالإسكندرية دعي “مجمع القديسين والمعترفين”. فشعر يوليانوس بخطورة اثناسيوس على الوثنية، فأرسل رسالة لوالى الإسكندرية لكي يطرد اثناسيوس، فاضطر البابا للاختفاء في مقبرة أبيه ستة شهور. وإذ شدد الإمبراطور الخناق على الوالي، اضطر أثناسيوس أن يتجه الى الصعيد في قارب لحق به قارب الوالي، فسأله الجند عن أثناسيوس، أما هو فقال لهم: “إنه ليس ببعيد عنكم”، فأسرعوا الى الصعيد، أما البابا فعاد إلى بحري، وأخذ يتنقل بين الأديرة في الصعيد واستقر في أخميم.
انتهت فترة النفي الرابع بمقتل يوليانوس وتولى جوفيان الذي أرسل خطاباً للبابا يدعوه للعودة. رجع البابا الى الإسكندرية حيث عقد مجمعاً كتب فيه خطاباً يحوي قانون الإيمان النيقاوي، ثم انطلق لمقابلة الامبراطور الذي قابله بالترحاب وأعاده الى الإسكندرية سنة 364م.
مات جوفيان وتولى فالنتيان في الغرب وسلم الشرق لأخيه فالنس الأريوسي، الذي بعث بمنشور يقضي بعودة جميع الأساقفة الذين سبق نفيهم في حكم يوليانوس إلى أماكن نفيهم. فاضطر البابا أن يغادر الإسكندرية للمنفى الخامس في بيت ريفي سنة 365م. وتحت ضغط الشعب رجع البابا الى كرسيه بعد تسعة شهور سنة 366م، فامتلأت الإسكندرية فرحاً، وكان البابا قد بلغ آنذاك السبعين تقريباً من عمره. وعاد ليمارس رعايته لشعبه بروح متقدة بالغيرة خاصة في تطهير إيمان الكنيسة من كل فكر أريوسي. وفي سنة 369م عقد مجمعاً بالإسكندرية من تسعين اسقفاً، للاهتمام بالفكر الإيماني المستقيم. وبقى البابا نشطاً روحياً ولاهوتياً حتى بلغ السادسة والسبعين من عمره ليسلم للأجيال وديعة الإيمان المستقيم بلا انحراف. وتنيح بسلام بعد أن قضى على الكرسي المرقسي خمساً واربعين سنة.