في اليوم الثالث والعشرين من شهر طوبة من سنة 1577 للشهداء ( 1861م ) تنيَّح البابا كيرلس الرابع البطريرك العاشر بعد المائة من بطاركة الكرازة المرقسية، والمعروف بأبي الإصلاح. وُلِدَ هذا القديس ببلدة الصوامعة شرق التابعة لأخميم سنة 1815م، واهتم والده بتعليمه العلوم الكنسية. فنما على حب الفضيلة والتقوى، واشتاق إلى حياة الرهبنة، فذهب إلى دير القديس الأنبا أنطونيوس وصار راهباً باسم داود الأنطوني، ولما ذاع صيت عِلْمه وفضائله رسمه البابا بطرس الجاولي البطريرك (109) قساً ثم عَيَّنه رئيساً للدير، فأحسن تدبيره واعتنى بتعليم الرهبان، ثم أرسله البابا بطرس الجاولي إلى الحبشة لفضّ النزاع بين المطران والشعب، وأثناء وجوده هناك تنيَّح البابا بطرس الجاولي سنة 1852م، وبعد خلاف دام نحو عام بخصوص إقامة بطريرك للكنيسة، قام الأساقفة برسامة الراهب القس داود الأنطوني مطراناً عاماً في أبريل 1853م باسم الأنبا كيرلس. ولما أحسن رعاية شئون الكنيسة أجلسوه بطريركاً سنة 1854م. فاهتم بنشر التعليم، وأقام المدارس للبنين والبنات، كما اهتم باللغة القبطية وألحان الكنيسة، واشترى مطبعة لنشر الكتب. كما قام بتجديد الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية بالقاهرة، واهتم بكافة شئون الكنيسة وقام بسيامة بعض الآباء الأساقفة. كذلك زار الحبشة لافتقاد الكنيسة هناك. وبعد جهاد شاق رقد في الرب، فحزنت عليه الأمة كلها، ودُفن بالكنيسة المرقسية بالقاهرة، بعد أن جلس على الكرسي المرقسي نحو سبع سنوات، ولكثرة أعماله لقبته الكنيسة بأبي الإصلاح.
لأنه قام بجهود اصلاحية كبيرة في الربع الثالث من القرن التاسع عشر. ومنها انشاء المدارس، وقد أفتتح أول مدارسه للتعـليم بالأزبكية 1855م أى بعـد رسامته بطريركاً بعام واحد. ولما رأى أن هناك تلاميذ يأتون لمدرسة الأزبكية من مناطق بعيدة عنها، فإنه أهتم بأن ينشأ لهم مدارس في منطقـتهم، فأنشأ كنيسة ومدرسـتين بحارة السقايين، واحدة منهما للبنين والأخرى كانت لتعـليم البنات، كما أنه أفتتح مدرسة أخرى للبنات بالأزبكية.
ويعـتبر هو أول مصرى يؤسس مدارس أهلية لتعليم البنات فى تاريخ مصر الحديثة. وبهذا يعـد من الرواد الذين اهتموا بتعـليم المرأة، بما يحمله ذلك من أهمية كبيرة للأسرة والمجتمع. وللنهوض بشان المرأة أيضاً، أهتم بأن يتم الزواج بالرضا التام من الطرفين، ومنع الزواج بالإكراه، وبضرورة أن يكون سن المراة مناسباً عند الزواج، ومنع الزواج قبل بلوغ سن الرشد. ورتب عمل عـقـد الخطوبة قبل الزواج حتي يستطيع الطرفين دراسة مدي التوافق بينهما قبل إتمام الزواج.
وقد كانت أبواب مدارسه مفتوحة للجميع من المسيحيين والمسلمين بدون تمييز. وكان لمدارسه دور هام فى التنوير ونشر العلم والثقافة فى ارجاء أرض مصر. وأهتم كذلك بتعليم اللغات لتلاميذ مدارسه ومنها: الانجليزية والفرنسية (لغات أوربية حديثة)، والإيطالية (لغة التجارة وقتذاك)، والقبطية (لغة الصلاة)، والعربية (لغة الوطن)، والتركية (لغة الباب العالى وقتذاك)، إلى جانب العلوم الحديثة والفنون. وأستعان بخبرة المدرسين من جنسيات متعددة: من المصريين والسوريين واللبنانيين والإيطاليين والإنجليز وغيرهم. ومن نوابغ خريجى مدرسة حارة السقايين أربعة من رؤساء وزراء مصر هم : بطرس غالى، ويوسف وهبة، وعبد الخالق ثروت، وحسين رشدى .
وأهتم باللغة القبطية والألحان الكنسية وتكوين خورس للشمامسة، وكان لهم ملابس خاصة يرتدونها أثناء أداء الصلوات الكنسية. ورتب للكهنة اجتماعاً أسبوعـياً يوم السبت، لتثقيفهم وللبحث فى الأمـور الـدينية، ولإعـدادهم للإضطلاع بمسئوليات الرعاية الروحية والكنسية. وتعتبر محاولته هذه هى اللبنة الأولى لإنشاء المدرسة الإكليريكية (الكلية الإكليريكية)، التى تأسست بعد ذلك فى سنة 1893م فى عهد البابا كيرلس الخامس البطريرك 112 (1874 – 1927م) . وكان يشجع الكهنة على صلاة القداس باللغة القبطية. وكان يحث الرهبان على القراءة والمطالعة وعلى الدرس والبحث، وأهتم بتنظيم الأوقاف القبطية، وأنشأ سجلات لحصر جميع الأوقاف والأملاك والأطيان من واقع الحجج الرسمية، والحفاظ عليها من أيدى العابثين بها. وأهتم بإدارة شئون البطريركية،
وأنشئ الديوان البابوى، وقام بتقسيم الإدارة فيه إلى قسمين : الأول يهتم بالأمور الدينية، والآخر يختص بالأوقاف والمكاتبات الرسمية. وأهتم كذلك بإحضار مطبعة لنشر الكتب، واستوردها من انجلترا بواسطة شخص يدعى رفـلة عبيد، وأختار أربعة من شباب الأقباط لتعلم الطباعة بمطبعة بولاق حتى يتمكنوا من تشغيل المطبعة التي احضرها، ولما وصلت المطبعة كان البابا فى دير الأنبا أنطونيوس بالصحراء الشرقية، فأرسل لوكيل البطريركية يطلب منه استقبال المطبعة باحتفال كبير يلبس فيه الشمامسة ملابسهم الكنسية وهم يرددون الألحان الكنسية، ولما كانت المطبعة قد وصلت حوالى سنة 1860م أى فى أواخر حياته، لذلك لم ينتفع بها فى حياته، ولم تبدأ المطبعة عملها فعلاً إلا سنة 1870م، أى بعـد رحيله بحوالى تسع سنوات. وفى اطار العـمل المسكونى اهتم بالتعاون مع العـديد من الكنائس المسيحية من بينها الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، والكنيسة الأرمنية وغـيرها