في اليوم الرابع والعشرون من شهر برمودة من سنة 596 للشهداء (880م)، تنيح القديس البابا شنودة الأول البطريرك الخامس والخمسون من بطاركة الكرازة المرقسية. ولد بالبتانون بمحافظة المنوفية. ترهب بدير القديس مكاريوس. وإذ تزايد في الفضيلة والعبادة رسموه قمصاً على كنيسة الدير. أُختير بعدها بطريركاً بتزكية الإكليروس والشعب ورُسم في الثالث عشر من طوبة سنة 575 للشهداء (859م). وكان عالماً حكيماً تقياً. وكان في عهده بقرية بوخنسا من قرى مريوط قوماً يقولون أن آلام السيد المسيح لم تقع على الجسد حقيقة ولكنها كانت خيالية. فقال لهم البابا: “ان السيد المسيح اتخذ جسداً من العذراء وجعله متحداً بلاهوته ولم يفترقا لحظة واحدة ولا طرفة عين، وحينما جاز السيد المسيح الآلام، تألم بجسده ولم تمس الآلام لاهوته، مع ان اللاهوت لم يفترق عن الناسوت ساعة آلامه”. وقد استعان البابا بالرمز وهو اتحاد الحديد بالنار. فالنار تظل محتفظة بطبيعتها النارية مع كونها متحدة بالحديد، كما يظل الحديد محتفظاً بطبيعته رغم انصهاره بالنار. والمطرقة حينما تنزل على الحديد لا تؤلم النار رغم اتحادها بالحديد، وهكذا رجعوا عن ضلالتهم.
وفي رحلة البابا للصعيد وصل الى البلينا. فعلم أن البعض سقطوا في بدعة مؤداها “أن المسيح مات على الصليب بلاهوته وناسوته.” فأوضح لهم اتحاد اللاهوت بالناسوت، وان اللاهوت لم يمت لإنه هو الذي أقام الناسوت في القبر.
وفي عهد عنبسة بن اسحاق، الذي تولى على مصر بعد عبد الواحد، وكان عادلاً في المعاملة مع الجميع، انتهز البابا الفرصة لتجديد الكنائس والأديرة الخربة.
وبعد أن ترك عنبسة الولاية للولاة الأتراك، عم الاضطراب الناتج عن اندفاع هؤلاء الحكام وراء نزواتهم. وفي هذه الأثناء أراد البابا أن يفعل شيئاً يعود بالمنفعة على الشعب المصري المعذب. فحفر في شوارع الإسكندرية قنوات تحمل الماء العذب لسكانها. فتحولت الأراضي الى جنات وفراديس.
وفي أيام هذا البابا اشتد الاضطهاد، وفرضت الضرائب على الرهبان ورجال الدين وأوقاف الكنائس والأديرة، وحدث نهب كثير. وحدث أن أرسل البابا رجلين الى الخليفة في بغداد لكي يصدر أمره الى عامله “بن المدبر” بأن يرفع المظالم. فأجاب الخليفة للطلب ورفع الجزية عن الكهنة والرهبان وخفضها على باقي الناس. وقد تكرر هذا الطلب أيام الخليفة المهتدي، فتأيد الأمر الأول.
وحدث أيضاً ان امتنع ماء المطر عن مريوط ثلاث سنوات، فجاء البابا الى كنيسة الشهيد مار مينا بمريوط ليصلي عيد الشهيد، فشكا له السكان من عدم وفرة المياه، فعزاهم وصبرهم. وبعد صلاة القداس حدث رعد وبرق ونزل المطر كالسيل حتى امتلأت الأراضي من المياه.
وفي سنة 866م علم البربر ان البابا عزم أن يصلي أسبوع الآلام بدير أبي مقار، فذهبوا سراً واستولوا على كنيسة أبي مقار وتوابعها ونهبوا ما فيها، وفعلوا هكذا بالأديرة الأخرى. ولما فرغ البابا من صلاة خميس العهد، فوجئ الرهبان عند عودتهم الى قلاليهم بوابل من الحجارة تلقى عليهم. عندئذ خرج البابا رافعاً الصليب ليواجه البربر بدون سلاح. وعندما رأوه خارجاً بمفرده، تراجعوا أمام شجاعته النادرة.
وقد عانت هذه الأديرة كثيراً من المصائب، فلقد ألقى الأعراب رحالهم في الصحراء، وأخذوا يرقبون خروج الرهبان للتزود بالماء، فينقضون عليهم ويأخذون ما معهم. ولما عادت السكينة اهتم هذا البابا بترميم دير أبي مقار وأحاطه بسور منيع لحماية الرهبان من الأذى بعد أن بنى لهم قلالي داخل السور. وكان هذا البابا كثير الاهتمام بأمور الكنائس والأديرة. وكان كل ما يفضُل عنه يتصدق به. ولما أكمل سعيه الصالح تنيح بسلام، بعد أن أقام على الكرسي المرقسي إحدى وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً.