«وَقَالَ لَهُمْ: ”هكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، مُبْتَدًأ مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذلِكَ“» (لو 24: 46 – 48).
صوم الرسل هو صوم من أجل الخدمة ونجاحها، فنحن نصوم كشعبٍ وإكليروس من أجل نجاح خدمة الكنيسة، ونشترك جميعًا في الصوم والصلاة من أجل الخُدَّام، ومن أجل كلِّ مَنْ له عمل في الكنيسة. فالكنيسة ليست هي المباني فقط، ولكنها الكيان الروحي في التاريخ وفي الزمن، والمسيح نفسه لم يبنِ كنيسة، لكنه أرسل تلاميذه ليؤسِّسوا كنائس في المسكونة.
إنَّ تلاميذ السيِّد المسيح، أو كما نُسمِّيهم رُسُلًا أو حواريين (لأنهم بدأوا التلمذة بالحوار)، كان أساس حياتهم أنهم تتلمذوا علي يد السيِّد المسيح، وتكوَّن منهم أول كيان مسيحي على الأرض، ومن التلاميذ الـ 12، والـ 70 رسولًا، وبولس الرسول، أي الـ 83؛ كوَّنوا البذرة الأولى لوجود الكنيسة المسيحيَّة عَبْر العالم كله.
وقد بدأت هذه البذرة في أورشليم. لذلك نحن نُعطي الرُّسُل كرامةً كبيرة جدًّا، ونطلب شفاعتهم بعد أُمِّنا العذراء مريم والسمائيين والقديس يوحنا المعمدان، وقبل الشهداء والقدِّيسين.
إنَّ السيِّد المسيح عندما أراد أن يختار تلاميذه، لم يذهب إلي الهيكل لكي ما يختار ذوي العِلْم والمعرفة، ولكنه اختارهم من الصيَّادين والبُسطاء والعشَّارين، أي من مِهَن بسيطة ومتواضعة!! وقد كان أهم ما في هذا الاختيار هو القلب كما يقول الكتاب: «لأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَي الْقَلْبِ» (1صم 16: 7 ). فإذا تأمَّلنا التلاميذ نجد أنهم كانوا لا يملكون شيئًا، سوى حرارة قلوبهم وإيمانهم.
إنَّ جماعة التلاميذ الـ 83 فتنوا المسكونة، وقدَّموا اسم المسيح في كلِّ مكان، وكان نصيبُنا في مصر القديس مار مرقس. فالرسل هم أعمدة الكنيسة، وجميعهم اشتركوا في ثلاثة ملامح رئيسيَّة:
أولًا – عاشوا اختبار القيامة:
إنَّ التلاميذ عاشوا أحداث الصليب والقيامة، وعاشوا هذا الاختبار الرائع الذي نُحاول نحن أن نعيشه خلال فترة أسبوع الآلام، وعيد القيامة، والخمسين المقدَّسة.
و يقول مُعلِّمنا بولس الرسول، الذي هو آخر من اختاره المسيح من الـ 83: «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلَامِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ» (في 3: 10).
فالقديس بولس عرف المسيح معرفةً حقيقيَّة، فقوَّة عمل المسيحي وخدمته، تأتي من معرفته الشخصيَّة بالسيِّد المسيح. لهذا فإنَّ كنيستنا فيها كثيرٌ من الأصوام والصلوات، لكي ما تُساعد الإنسان على ارتباطه بمسيحه.
والآباء الرُّسُل عاشوا اختبار القيامة وكرزوا به، فكانت كرازتهم ترتكز على التبشير بمجيء السيَّد المسيح، وصلبه من أجل خطايا البشر التي غَفَرَها لهم وأعطاهم الخلاص، ثم قيامته من بين الأموات. فهم يُبشِّرون بالإنجيل، وكلمة الإنجيل هُنا ليس المقصود بها الإنجيل المكتوب، ولكن المقصود البشارة، فكلمة إنجيل تعني ”بشارة مُفرحة“.
الخُلاصة: إنَّ الرُّسُل عاشوا اختبار القيامة، وكَرَزوا بالإنجيل، وقدَّموا الفرح. فالفرح هو العلامة التي تُميِّز الإنسان المسيحي، فالتلاميذ عاشوا اختبار القيامة، وتألَّموا، وهربوا، وأصابهم الخوف؛ ولكن بظهور المسيح لهم في العِلِّيَّةِ، عاد إليهم فرحهم وسلامهم: «فَفَرِحَ التَّلَامِيذُ إِذْ رَأَوْا الرَّبَّ» (يو 20: 20).
إذًا أيها الحبيب، إن أردتَ أن تقيس مقدار معرفتك بالمسيح، قِس مقدار فرحك؟! اسأل نفسك: هل أنت تشعر بالسعادة الداخلية والسلام القلبي والاطمئنان؟! هل كلامك يُفرِّح ويُسعِد مَنْ هُمْ حولك؟! هل سلوكك يُساعد الآخرين على الفرح بالمسيح؟! كما قال الكتاب: «فَلْيُضِىءْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ» (مت 5: 16).
و هذا هو الترمومتر الذي يقيس به كل إنسان علاقته بالمسيح. فالآباء الرُّسُل لم يكن لديهم أي إمكانيات: لا مال، ولا مناصب، ولا أي شيء!! كل ما قاله لهم السيِّد المسيح هو: «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مر 16: 15). وقد كانت كل أدوات كرازتهم هي حياة الفرح!! فعندما نقول: ”أعمدة الكنيسة“، فهم أعمدة فرح لكي ما تكون الكنيسة هي كيان الفرح في المجتمع.
ثانيًا – نالوا قوَّةً من الأعالي:
فالرُّسُل لم ينطلقوا للخدمة بحسب وصية السيِّد المسيح، إلَّا بعد أن نالوا قوَّةً من الأعالي، كما قال الكتاب: «فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي» (لو 24: 49)، وكان هذا في يوم حلول الروح القدس، حيث نال التلاميذ قوة وفعل الروح القدس.
وهُنا نتساءل: ما هو معنى فعل وقوة الروح القدس؟!
1- الروح القدس يحفظ في الإنسان المسيحي وصية المحبة، فيجعله يحب كلَّ أحدٍ، ومَنْ لا يستطيع أن يحب عليه مراجعة نفسه. ويقول مُعلِّمنا بولس الرسول: «لَا تُطْفِئُوا الرُّوحَ» (1تس 5: 19). فالمسيحي يحب كلَّ أحدٍ، وقلبه مفتوحٌ لكلِّ أحدٍ، مثله مثل سيِّدِهِ الذي صُلِبَ على الصليب وهو فاتحٌ ذراعيه وحضنه لجميع البشر.
وعندما يمسك الإنسان الصليب بيديه، يتذكَّر أحضان المسيح المفتوحة بالحب لكلِّ أحدٍ. وفي قصة الابن الضال، نلاحظ أنَّ أهم هدية قدَّمها الأب لابنه، بخلاف الحذاء، والخاتم، والحُلَّة و…؛ هو حضنه: «فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ» (لو 15: 20). إذًا، قوَّة الروح القدس تعني أنَّ الله يحفظ في المسيحي عمل الوصية في كلِّ وقت، وفي كلِّ مكان، وفي كلِّ زمان، مع كلِّ أحد.
2 – الروح القدس أيضًا يُنقِّي القلب حبًّا، لذلك نُصلِّي ونقول: ”قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله وروحًا مُستقيمًا جدِّد في أحشائي“، بمعنى أنَّ الروح يُحرِّك روح التوبة في الإنسان. فالتوبة ليست مرحلة وتنتهي، ولكنها مستمرة طول العمر.
3 – الروح القدس يُثمِر الفضيلة حبًّا، فمحبة الإنسان لشخص المسيح، تجعله يُمارس الفضيلة، أو ما نُسمِّيه ثمر الروح: «وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلَامٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلَاحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ» (غل 5: 22). فمحبة الإنسان للمسيح تُنْشِئْ محبةً وفرحًا للناس، وكذلك تجعله وديعًا، ومُتعفِّفًا، ويعيش الصلاح، وله إيمانٌ ثابت.
4 – الروح القدس يُعلِّم الإنسان أنَّ الخدمةَ حبٌّ. بمعنى أنَّ المسيحي ليس له دافع إلَّا الحب في خدمته، فالخدمة ليست من أجل الشهرة أو المنصب أو المسئولية. ولذلك يا إخوتي سوف نرى في السماء عجبًا. وقد نتساءل: ما الذي دفع القديس مار مرقس، أن يقطع كل هذه المسافات مع صعوبة السَّفَر، للحضور من ليبيا إلى مصر والكرازة بها؟! إنه دافعُ الحب للخدمة.
لذلك تحتفل الكنيسة بعد خمسين يومًا من قيامة الرب، بعيد حلول الروح القدس أو عيد العنصرة، الذي يملأ ويُذكِّر ويُنهِض في المسيحي عمل الروح القدس. بمعنى أنه يكون في حالة عملٍ دائم، كما يُقال في الحياة الرهبانية على الراهب الدائم العمل: إنه ”راهبٌ عمَّال“، بمعنى أنه ليس لديه أي وقت فراغ أو وقت ضائع.
وقد نرى أحيانًا شخصًا يُضيِّع حياته هباءً، في أمور لا جدوى منها! لكن الشخص العمَّال هو شخصٌ يَعِي أنَّ الحياة مهما استطالت فهي حياة قصيرة. فالرُّسُل هم الصورة البهيَّة للكنيسة المسيحيَّة، لذلك رتَّبت الكنيسة صوم الرُّسُل لكي ما تُنهِض الجميع بالتَّذْكِرة، بأنَّ عليهم واجبًا في خدمة الكنيسة. فالصوم يُنبِّه الإنسان إلى نفسه، وذلك من خلال القراءات والألحان والقدَّاسات، لكي ما يكون شعلة نشاط في خدمة الكنيسة.
ثالثًا – أسَّسوا كنائس في العالم:
فمِن أورشليم انطلق الرُّسُل وأسَّسوا الكراسي الرسوليَّة، مثل: كرسي أورشليم، وكرسي الإسكندرية، وكرسي أنطاكية، وكرسي روما، وكرسي القسطنطينية. فالروح القدس دعا القديس توما الرسول للكرارزة في الهند، والقديس متَّى للكرازة في إثيوبيا، والقديس أندراوس للكرازة في أرمينيا، والقديس مار مرقس حضر إلى مصر، والقديس بطرس والقديس بولس كرزا في أنطاكية وروما، وهكذا بدأ الروح يوزِّعهم.
فيقول الكتاب: «وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهَودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (أع 1: 8)، فالرُّسُل أسَّسوا كنائس وتلمَذوا نفوسًا كثيرة، وبدأت هذه الكنائس تنمو. ونشكر الله أنه في إفريقيا، جاء إلى بلادنا القديس مار مرقس الرسول الذي استُشهِد على أرض مدينة الإسكندرية عام 68م، فقد مرَّ على استشهاده الآن حوالي 1950 عامًا.
و منذ حوالي خمسة وخمسين عامًا، وفي حَبْريَّة القديس البابا كيرلس السادس، تمَّ إحضار رفات القديس مار مرقس، وأُنشِئَت الكاتدرائية المرقسية وتمَّ افتتاحها. لقد حضر مار مرقس إلي الإسكندرية وحده بدون أيِّ سندٍ غير عمل الروح داخله، حيث كانت الإسكندرية في هذا الوقت مدينة ذائعة الصيت، مُتعدِّدة الثقافات، عروس البحر الأبيض المتوسط.
إنَّ القديس مار مرقس لم يتخرَّج من جامعة، غير جامعة الروح القدس، ومع هذا قدَّم اسم المسيح لكلِّ أحدٍ، حتى انتشرت الكرازة على أرض مصر. وأصبحت الكنيسة القبطية المصرية، التي أسَّسها أحد تلاميذ ورُسُل السيِّد المسيح، القديس مار مرقس الرسول، هي أقدم كيان شعبي على أرض مصر.
فالكنيسة القبطية بتاريخها الطويل، قدَّمت مُعلِّمين كثيرين في اللاهوت، وقدَّمت شُهداء للإيمان، وقدَّمت نُسَّاكًا ورهبانًا في الزُّهد والتقشُّف والنصرة على العالم. وصارت كنيسة الإسكندرية لها كل الاحترام، وأيضًا هي كنيسة مرجعية للعالم المسيحي كله.
ففي أيِّ حوارٍ لكنائس العالم، يتمُّ الرجوع إلى أقوال آباء الكنيسة القبطية مثل: القديس أثناسيوس الرسولي البطريرك الـ 20، والبابا كيرلس عمود الدين البطريرك الـ 24، والبابا ديسقورس البطريرك الـ 25، وغيرهم من الآباء العِظام.
خُلاصة الأمر: الرُّسُل هم أعمدة الكنيسة، ولكن المقصود بالأعمدة ليس البُنيان المادي للكنيسة، بل الكيان الروحي. ويا لَحظ كل كنيسة لها خُدَّام وشعب وآباء يعيشون اختبار القيامة، وفرح الكرازة بالإنجيل، وينالون قوَّة عمل الروح القدس في حياتهم، ويعملون على تأسيس هيكل في قلب كلِّ إنسان.
البابا تواضروس الثاني