لقد مضى عام على نياحة البابا كيرلس السادس ولست أدري كيف مضى هذا العام على الآلاف والملايين من محبيه، الذين لم يكن في استطاعتهم أن ينسوا بركاته كل يوم، والذين كان صعبًا عليهم أن يُحْرَموا من شخصيته ومحبته وصلواته وقداساته. ونحنُ بعد هذا العام نقف لنلقي كلمة وفاء بسيطة، ومهما كانت هذه الكلمة فلا يمكن أن تَفي أو تَرْتَفِع إلى المقام العظيم الذي يجلس فيه البابا كيرلس السادس.
إن البابا كيرلس نَيَّح الله نفسه في فردوس النعيم، أمضى حوالي 40 عامًا في خدمة الكهنوت. وفي خلال تلك الفترة، حرص في كل يوم أن يقيم القداس الإلهي. ولا يوجد في تاريخ الكنيسة كله إنسان مثل البابا كيرلس، استطاع أن يقيم مثل كل هذه القداسات. ولقد حاولت أن أُحصي عدد القداسات التي أقامها في حياته، فوجدت أنه قد صلى ما يزيد عن 12,000 قداس (باستثناء الخمس السنين الأخيرة التي مرض فيها). وهذا أمر لم يحدث في تاريخ أي بابا من باباوات الإسكندرية أو العالم أو الرهبان، كان عجيبًا في صلواته، وكانت الصلوات تتبعه في كل مكان.
ومن محبته للصلاة اختار حياة الوحدة فعاش متوحدًا مدة طويلة، وتتلمذ على أكبر أستاذ كتب في الوحدة في تاريخ الرهبنة كلها وهو القديس مار اسحق السرياني، الذي نسخ كتبه على ضوء شمعة في مغارته، هذه الوحدة التي تعلمها من مار اسحق، هي الانسلاخ من الكل للارتباط بالواحد… لقد قرأت مئات من الكتب النسكية، فلم أجد أعظم من كتابات مار اسحق عن حياة الوحدة والسكون.
فضائل البابا كيرلس السادس:
كان البابا كيرلس رجلًا تتمثل فيه فضائل عديدة. فقد كان إنسانًا بسيطًا هادئًا وديعًا. وكان حكيمًا عميقًا في التفكير، وكان يتميز أيضًا بالبكاء في صلاته وفي قداساته بل أنني أذكر أنه عندما وقعت القرعة الهيكلية على قداسته ليكون بطريركًا جاء لزيارة وادي النطرون، وعندما أتى إلى دير السريان طُلِبَ مني إلقاء كلمة تحية للأب المختار للبابوية، فتكلمت قليلًا وإذ به يمسك منديله ويمسح عينيه من الدموع، وتأثرت كثيرًا ببكائه أمام جميع الناس.
كان طيب القلب، وإذا غضب وتضايق وظَنَّ الناس أنه في ثورة كبيرة، تجده للوقت يبتسم.. أقل كلمة تُرضيه وتُرجع الابتسامة إلى وجهه.
كان الناس يعجبون من صَفْحَهُ وهدوئه وطيبة قلبه، وكانت له ابتسامة رقيقة يشرق معها وجهه كله، ويشعر الناظر إلى عينه أنه أمام إنسان بسيط، وليس أمام شيخ في حوالي العقد السابع من عمره. لذلك كان محبوبًا من الكل وله شعبية كبيرة جدًا.. كثيرون لم يأتوا إليه لكي يعطيهم آراء عميقة أو صلاة طويلة، وإنما يكفيهم أن يقول لهم كلمة “إن شاء الله ربنا يحلها” وهذا يقنعهم أكثر من آلاف الآراء المُقْنِعَة.
كان أول بابا في جيلنا الحاضر فتح بابه لكل إنسان، كل فرد كان يستطيع أن يجلس معه ويكلمه بلا مانع ولا عائق، وهكذا استطاع بشعبيته وبمقابلته لكل واحد أن يقضي على فِكرة حاشية البطريرك، لأن كل إنسان يستطيع أن يعطيه المعلومات اللازمة في أذنه مباشرة، فيعرف حقائق الأمور بطريق مباشر وليس عن طريق آخر. لذلك كان يعرف تفاصيل التفاصيل في كنيستنا المقدسة.
لقد تميز بذاكرة قوية يندر أن يتمتع بها غيره، ذاكرة تستطيع أن تلم بأشياء يعسر على عقل بشري عادي أن يلم بها، فكان يعرف كل الخدام ومشاكلهم في دقة عجيبة، ويذكر كل الذين يقابلونه بأسمائهم ويسلم على الشخص فيسأله عن حاله بطريقة وثيقة، واهتمامه بكل واحد جعله لا يعطي راحة لجسده وفكره، ولذلك ما أن مرت عليه 8 سنوات في البطريركية إلا وتكاثرت عليه الأمراض، ولم يعد هذا الجسد قويًا كما كان في أول عهده، فالنير الشديد الذي تحمله البابا كيرلس كان عظيمًا وسط تجارب متنوعة وضيقات كثيرة.
شخصية البابا كيرلس السادس:
كان قوي الشخصية، وله هيبته عند الكثيرين.. وكان وقاره يطغى على الذين يقابلونه كما تطغى عليهم محبته. وكان قوي الإرادة عنيفًا متمسكًا فيما اعتنقه. ولا يمكن أن يتزعزع، كان إنسانًا جَمَعَ بين الوداعة والقوة.. والبساطة والحكمة.. والبكاء والحزم.. جمع بين أمور كثيرة قد يظن الناس أن بين بعضها والبعض الآخر شيئًا من التناقض.
كان البابا كيرلس رجل تعمير في كل مكان حل فيه. ففي طاحونة الهواء في مصر القديمة بنى فيها حاجزًا ومذبحًا، ومهد المكان ليعد فيه كنيسة صغيرة لحياته الخاصة.
وعندما ذهب إلى مصر القديمة بنى هناك كنيسة وبيوتًا وعمَّر المكان، وأوجد هذه الفكرة الجميلة لرعاية الطلبة الجامعيين في حضن الكنيسة، وتعميره لهذا المكان سبب تعمير المنطقة كلها.
وعندما رُسم بطريركًا اهتم بالتعمير أيضًا. فبنى هذه الكاتدرائية الضخمة التي نقف فيها الآن وبنى الكلية الإكليريكية ومنزل الطلبة الملحق بها ومبنى المطبعة ورمم الكنيسة المرقسية الكبرى. وبُني في عهده عشرات الكنائس الجديدة وبَنَى دير مارمينا في صحراء مريوط وانتهى من بناء كنيسة متوسطة الحجم وقلالي الرهبان واستراحة للضيوف. ووضع أساسًا لكاتدرائية ضخمة.
كما نشر الكرازة في خارج القطر، سَيُكتب في تاريخ الكنيسة القبطية أن أول كنيسة بُنيت في استراليا وفي كندا وفي الولايات المتحدة والكويت ولبنان وغيرها كانت في عهده.
البابا كيرلس السادس كان محباً للقديسين والملائكة وكان رجلًا يشجع كل خادم يريد أن يخدم، ومحبًا للعلم. وفي عهد بابويته أنشأ فكرة المطبعة وعندما يبني لها مكان خاص وتؤدي رسالتها في خدمة الكنيسة سيذكر الجميع فضل البابا كيرلس في إنشائها.
لقد استطاع أن يقيم أسسًا راسخة لبعض المعاني والمفاهيم الكنسية. انه أول بابا اهتم برسامة أساقفة، لا مطارنة، مؤكدًا هذه الوظيفة المعروفة من القوانين الكنسية والكتاب المقدس، فقد قدم مفهومًا جديدًا لكلمة أسقف.
كما قدم مفهومًا جديدًا لتلميذ البابا، فاختار شبابًا يتميز بالروحانية والعِلم والخدمة ليكونوا تلامذة له. وكل الذين كانوا تلاميذًا له أصبحوا رهبانًا.
أعمال بعد نياحة البابا كيرلس السادس:
ومهما تحدثنا فهناك نقطة أخرى لا ننساها، وهي الأعمال التي قام بها بعد نياحته. وهذا التعبير قد يبدو غريبًا. لقد أعَدَّ كل شيء لمشروعات عديدة، وربما تتاح لي فرصة -بصلواته- أن أقوم بهذه المشروعات، ولكني أشعر أنه هو الذي قام بها. يُذَكِّرني هذا بقصة داود النبي الذي كان يعرف أن ابنه سليمان غصن صغير، فأعد كل شيء لبناء الهيكل. وأكمل سليمان بناء الهيكل، وسُمي هيكل سليمان، والفضل لداود. هكذا فعل البابا كيرلس.
ونحن جميعاً من أبنائه الصغار نشعر بمقدار الفراغ الكبير الذي تركه في كنيستنا، ونرجو ان يذكرنا في صلواته وشفاعته، فهو يستطيع ان يخدم الكنيسة في مستقره الحالي أكثر مما كان يخدمها في الجسد.