دعوة إبرام لكنعان ثم ذهابه إلى مصر
(1) دعوة إبرام (ع1-5):
1وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. 2فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً. 3وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ». 4فَذَهَبَ أَبْرَامُ كَمَا قَالَ لَهُ الرَّبُّ وَذَهَبَ مَعَهُ لُوطٌ. وَكَانَ أَبْرَامُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ. 5فَأَخَذَ أَبْرَامُ سَارَايَ امْرَأَتَهُ وَلُوطاً ابْنَ أَخِيهِ وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ.
ع1، 2: إبرام : إسم معناه أب عظيم أو مكرم.
دعوة الله لإبرام كانت أولاً فى أور الكلدانيين كما ذكرنا وتعطلت بسبب تعلق تارح أبيه به الذى فضل الإقامة فى حاران مدة حوالى 14 سنة، ثم جدد الله الدعوة لإبرام مرة ثانية للخروج من المكان الذى يقيم فيه. وهذا يظهر طول أناة الله ومحبته لإبرام، الرجل الوحيد فى العالم الذى يعبد الله هو وساراى امرأته ولوط ابن أخيه المتعلق به، أما باقى العالم فكان يعبد الأوثان. فالتمس الله العذر لإبرام الذى خجل من معارضة أبيه وحرم نفسه من الإقامة مع الله فى الأرض الجديدة مدة ليست بقصيرة، وإذ كرّر له الدعوة أطاع فى هذه المرة، وهذه الدعوة تشمل الآتى :
- من أرضك : وهى أور الكلدانيين أو حاران التى تقع شمالها ليبتعد عن عبادة الأوثان، وترمز روحيًا إلى ترك التعلقات الأرضية الفانية من أجل الله.
- من عشيرتك ومن بيت أبيك : أى كل أقربائه الذين تعلق بهم عاطفيًا ويمثلون حماية وطمأنينة له لأنهم مرتبطون بعبادة الأوثان وبقاؤه معهم يعطله عن عبادة الله.
- إلى الأرض التى أريك : لم يحدد له مكانًا يقيم فيه بل يكفى أن يكون مع الله فى أى مكان يختاره له، وهذا هو الإتكال على الله.
? إن كنت تؤمن بالله، فلا تخاف من المستقبل أو تنزعج من أى شئ غريب يمر بك، بل اترك الله يدبر حياتك حسبما يرى فهو يعرف خيرك أكثر منك ويختار لك الصالح.
- أجعلك أمة عظيمة : رغم أن ساراى كانت عاقرًا وبلغ عمر إبرام 75 عامًا إلا أن الله وعده ليس فقط بالإنجاب بل أن يصير نسله كثيرًا جدًا ويكون أمة عظيمة. فعلى قدر طاعة الإنسان لوصايا الله التى تبدو صعبة، يعطيه بركة عظيمة لا توصف ويعينه على تنفيذ وصاياه لأن الله غنى ولا يمكن أن يكون مديونًا لأحد.
- أباركك وأعظم اسمك : لا يكن إبرام شخصًا عاديًا بل مباركًا من الله فى صحته وممتلكاته وكل من معه يتمتع بسلامه بل يكون عظيمًا فى أعين كل من حوله، هذه هى نعمة الله لأولاده المطيعين له.
- تكون بركة : ليس فقط يكون مباركًا من الله بل بركة لمن حوله، فكل من يلتصق به ينال بركة، كما وعد المسيح أولاده أن يكون نورًا للعالم (مت5: 14).
ع3: 7- أبارك مباركيك : من بركة الله لإبرام أن كل من يتعامل معه حسنًا ويمتدحه ويقتدى بسيرته يباركه الله، لأن إبرام هو صورة لله بين الأمم ليتعلموا منه فيباركهم الله، كما أن كل إنسان مسيحى صورة لله وسط المجتمع.
- لاعنك ألعنه : من الناحية الأخرى يعد الله بالغضب والإنتقام من كل من يعادى أو يسئ إلى إبرام إذ يعطيه مهابة فى أعين كل من حوله فيخشوا أن يسيئوا إليه لئلا يحل بهم الغضب الإلهى فتكون مخافته فى قلوب الكل.
- تتبارك فيك جميع قبائل الأرض : يصير إبرام بركة للعالم كله وهذا يتم فى المسيح الآتى من نسله فيعطى خلاصًا للعالم كله لكل من يؤمن به.
ع4، 5: أطاع إبرام كلام الله رغم صعوبته، فترك المدن الحصينة والأهل والأحباء ليذهب إلى مكان مجهول ويعيش وسط أناس لا يعرفهم ولكنه سيتمتع بوجود الله معه وهذا يفوق كل متعة فى العالم، إنه الفردوس على الأرض. وأخذ إبرام معه امرأته ساراى ولوط ابن أخيه الذى أحب عمه وتعلق به وأخذ معه مقتنياته الخفيفة مثل الثياب والخيام وكذا أيضًا عبيده وتحرك مع الله الذى قاده إلى أرض كنعان، فعبر نهر الفرات ليدخلها.
(2) إبرام فى كنعان (ع6-9):
6وَاجْتَازَ أَبْرَامُ فِي الأَرْضِ إِلَى مَكَانِ شَكِيمَ إِلَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ. 7وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الأَرْضَ». فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ. 8ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيلٍ وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ إِيلَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَايُ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ. 9ثُمَّ ارْتَحَلَ أَبْرَامُ ارْتِحَالاً مُتَوَالِياً نَحْوَ الْجَنُوبِ.
ع6: شكيم : هى نابلس الحالية وتبعد نحو 41 ميلاً شمال أورشليم وخمسة أميال ونصف جنوب شرق السامرة، وهى وادى يمتد شمالها جبل عيبال وجنوبها جبل جرزيم. وقد أقام فيها يعقوب أيضًا واشترى فيها قطعة حقل، وأخطأت دينة ابنة يعقوب مع شكيم بن حمور فيها فقتل رأوبين وشمعون ابنا يعقوب رجال قبيلة شكيم؛ وقد دفن فيها يوسف.
بلوطة مورة : منطقة تكثر فيها أشجار البلوط الضخمة ومورة تعنى المعلم. ويبدو أن معلمًا كان يجلس فى هذا المكان ويأتى إليه الناس.
الكنعانيون : تميزوا بالمدنية وبناء البيوت والمدن وكانوا أشرارًا منغمسين فى شهوات كثيرة.
وصل إبرام إلى منطقة تسمى شكيم فى أرض كنعان أقام فيها مدة ثم انتقل إلى منطقة أخرى تسمى بلوطة مورة (خريطة 5 ، 6).
ع7: ظهر الله مرة ثالثة لإبرام عندما وصل إلى أرض كنعان وأعلن وعده له أن يعطيه أرض كنعان التى يسكن فيها، فشكر إبرام الله وعبَّر عن شكره بإقامة مذبح لله هناك وقدم ذبائح شكر له. وهكذا تباركت أرض كنعان لأول مرة بصلاة وعبادة مرفوعة لله بدلاً من عبادة الأوثان وقدمت ذبيحة لله ترمز للمسيح الذى سيأتى فى ملء الزمان بأرض كنعان ليفدى البشرية كلها.
? لا تترك مكانًا تمر به طوال حياتك دون أن ترفع صلاة لله، فيتقدس المكان بالصلاة وتشعر بوجود الله معك ويبارك أيضًا الموجودين فيه، وإن لم تستطع أن تقف للصلاة فعلى الأقل إرفع قلبك لله الذى يراك ويفرح بصلواتك.
ع8: بيت إيل : معناها بيت الله وتقع شرق أورشليم فى منتصف المسافة بينها وبين نابلس (شكيم) واسمها القديم لوز.
عاى : تعنى كومة خراب وتقع شرق بيت إيل.
انتقل إبرام إلى بيت إيل فسكن غربها وكانت مدينة عاى تقع شرقه. وهكذا تحرك من شكيم نحو الجنوب، وذلك يعلن أنه غريب فى الأرض يتنقل بخيمته من مكان إلى مكان ولم يتأثر بسلوك الكنعانيين الأشرار المحيطين به، ولكنه اهتم بعلاقته مع الله فأقام مذبحًا جديدًا بجوار بيت إيل وقدم ذبائح ورفع صلوات فقدس هذا المكان أيضًا.
ع9: استمر إبرام فى ارتحاله بخيمته نحو جنوب فلسطين، وفى كل مكان يذهب إليه ينصب خيمته ويقيم مذبحًا، فهاتان هما العلامتان الواضحتان فى حياة إبرام طوال عمره، الخيمة والمذبح، أى غربة العالم ومحبة الله.
(3) إبرام فى مصر (ع10-20):
10وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيداً. 11وَحَدَثَ لَمَّا قَرُبَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَايَ امْرَأَتِهِ: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ. 12فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. 13قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ». 14فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَأَوُا الْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدّاً. 15وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ فَأُخِذَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ 16فَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْراً بِسَبَبِهَا وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ. 17فَضَرَبَ الرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ امْرَأَةِ أَبْرَامَ. 18فَدَعَا فِرْعَوْنُ أَبْرَامَ وَقَالَ: «مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتَ بِي؟ لِمَاذَا لَمْ تُخْبِرْنِي أَنَّهَا امْرَأَتُكَ؟ 19لِمَاذَا قُلْتَ هِيَ أُخْتِي حَتَّى أَخَذْتُهَا لِي لِتَكُونَ زَوْجَتِي؟ وَالْآنَ هُوَذَا امْرَأَتُكَ! خُذْهَا وَاذْهَبْ!». 20فَأَوْصَى عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ رِجَالاً فَشَيَّعُوهُ وَامْرَأَتَهُ وَكُلَّ مَا كَانَ لَهُ.
ع10: كانت أرض كنعان تعتمد إلى حد كبير على الأمطار فى الزراعة، فيبدو أن الأمطار قد قلت فتأثرت المحاصيل وحدث جوع. لم يفكر إبرام فى العودة إلى ما بين النهرين بلده الأصلى لأن الله أمره بتركها ولكنه فكر فى الذهاب إلى مصر المعروفة بغناها وكثرة محاصيلها لوجود نهر النيل بها، ولكنه لم ينتظر إرشادًا من الله بالذهاب إليها. ويظهر هنا ضعف إبرام الذى لم يحتمل ضيقة الجوع، مع أنه لم يذكر عنه أنه جوع شديد كما يذكر الكتاب فى أيام يعقوب (ص43: 1) أو فى أيام يوسف (ص47: 20)، ورغم علمه أن المصريين شهوانيون وأشرار إذ خاف أن يقتلوه ويأخذوا منه امرأته الجميلة سارة، أى أنه ذهب إلى الشر بنفسه وتعذب قلبه عندما أخذوا امرأته منه.
? إحتمل الضيقات التى تمر بك واطلب معونة الله فيسندك ولا تضطرب فتندفع فى تصرفات تبعدك عن الله أو تعتمد على طرق ملتوية لإنقاذ نفسك فتسقط فى متاعب كثيرة.
ع11-13: استمر إبرام فى ضعفه، ففيما هو مسافر فى طريقه إلى مصر ومعه ساراى امرأته ولوط ابن أخيه وزوجته وعبيده خاف من المصريين الأشرار عندما يرون امرأته الجميلة ساراى، رغم أن عمرها وقتذاك كان يقترب من السبعين عامًا أو على الأقل تجاوز الخامسة والستين، ولكن لانغماسهم فى الشهوة يمكن أن يأخذوها منه ويقتلوه فقال لها “قولى أنك أختى” حتى لا يقتلوننى. ورغم أنها أخته من أبيه أى ليست شقيقته (ص20: 12) ولكن الخطأ واضح هنا فهو يكذب لأنه يريد أن ينفى أنها امرأته حتى لا يقتلونه، وهى ليست فقط خطية كذب بل أنانية إذ فكر فى المحافظة على حياته ولم يفكر فى ساراى التى سيأخذها المصريون ويفعلوا بها ما شاءوا، وهى أيضًا خطية تنازل عن رجولته وشهامته إذ أنه مستعد أن تؤخذ منه امرأته وتتزوج بآخر ولا يغير عليها ليحميها.
ع14، 15: يظهر هنا أن جمال ساراى كان عظيمًا جدًا حتى أن كل المصريين أعجبوا بها، ووصل الخبر إلى قصر الملك وامتدحها الرؤساء مشيروا فرعون فأخذوها إلى قصره لتنضم إلى نسائه.
ع16: أعجب فرعون بجمالها وفرح بها كزوجة له وقدم لأخيها إبرام مهرًا كبيرًا كما هو معتاد من أى عريس نحو أهل عروسه، ولأن هذا هو الملك نفسه فقد أعطى دوابًا كثيرة لإبرام إذ علم أن عمله هو الرعى.
ع17: إذ رأى الله عجز إبرام فى الدفاع عن نفسه بل ورأى أيضًا ضعفه الروحى، التمس له العذر بأبوته، لأن إبرام هو الرجل الوحيد فى العالم الذى يعبد الله، فمن أجل إيمانه ستر عليه وتدخل بأن ضرب فرعون وكل من معه بأمراض شديدة وأعلمه بعد ذلك بأن هذا بسبب أخذه امرأة إبرام. وكان هذا التدخل الإلهى سريعًا قبل أن يلمس ساراى حتى لا يتعذب إبرام طوال حياته بسبب ضعفه وتهاونه … إنه الحنان الإلهى الذى يفوق كل عقل.
ع18، 19: خاف فرعون جدًا من إله إبرام الذى ضربه ووبخه واحترم إبرام جدًا، فأسرع يستدعيه ويعاتبه على عدم توضيحه أن ساراى امرأته وطلب منه أن يأخذ امرأته ويرحل عن مصر لأنه خاف منه لقوة إلهه.
ع20: لم يأخذ فرعون الهدايا التى قدمها لإبرام كمهر لساراى واهتم أن يرسل عبيده ليودعوه بإكرام عظيم وهو راجع من مصر إلى كنعان. وهكذا تحدث الله مع إبرام عن طريق فرعون الذى أرجعه إلى كنعان حيث أمره الله أن يقيم، مع أن إبرام عندما كان يطيع الله فى بساطة كان يحدثه مباشرة وليس عن طريق الناس، ولكن على كل حال تظهر محبة الله الذى يعيد أولاده للحياة معه مهما سقطوا فى الطريق وابتعدوا عنه.