يُعتبر الإنسان تاج الخليقة التي أرادها الله وكوّنها عبر حقبات زمنية يسميها الكتاب المقدس «أيام الخلقة »، ثم جاءت الذروة: آدم يوم خلق الله الإنسان. على شبه الله عمله،ذكر اً وأنثى. خلقه وباركه ودعا اسمه آدم يوم خُلق (تكوين 1:5 – )2. وآدم Adam كلمة عبرية تعني إنسان، ويقابلها في اليونانية «أنثروبوس »، وهو الإنسان الأول حيث جبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيًا (تكوين 7:2) ، ثم جاءت خلقه حواء من أحد أضلاع آدم حين قال: «هذه الآن عظم من عظمي ولحم من لحمي. هذه تُدعى امر أ ة لأنها من امرِءٍ أُخِذت » (تكوين 23:2).
وإذا كانت خلقة آدم ثم حواء هي البداية، فقط اكتملت القصة بتكوين الأسرة الأولى حين شرح لهما الله: «… يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأ ته ويكونان جسدًا واحدًا » (تكوين 24:2 ) ، وذلك تطبيقًا للبركة الإلهية حين قال لهما: «اثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها… »( تكوين 28:1) ، وهذا الأمر الإلهي صار فاعلاً وممتدًا في حياة البشر من جيل إلى جيل…
وبذلك نشأت «الأسرة » التي هي قمّة العلاقات الإنسانية الرسمية، حيث ينتج عنها ثمار وأبناء وأحفاد، وفيها علاقات النسب والمصاهرة وهي العلاقات الإنسانية «الرسمية » لأنها تُسجّل في محاضر وعقود، وتُوثَّق في سجلات رسمية، وينتقل آثارها من زمن إلى زمن، وصارت عبارة «سلسلة النسب » هامة في حياة الشعوب والأمم والأفرا د بكل ما فيها من حقوق. كما أن علوم إثبات النسب صارت ضرورية في أحوال كثيرة، وقد تقدمت تكنولوجيًا وعلميًا كما نقر أ عن أبحاث DNA وعلوم الوراثة والجينات وخريطة الجينوم وغير ذلك.
والسؤال الآن: هل توجد علاقات إنسانية غير رسمية؟ والإجابة: نعم. وهي التي نسميها «الصداقة »، لأنها لا تُسجّل في سجلات، بل هي علاقات إ را دية تتم بمحض الاختيار الحرّ للإنسان.
وأريد أن أشرح تطور علاقات الصداقة والتي تأخذ خمس مراحل، يمكن أن تتوقف عند أيّة مرحلة ولا تكتمل الصداقة.
1- مرحلة التقابل أو التواجه أو التقبُّل الاجتماعي ونسميها ،Social Acceptance وهي نقطة انطلاق أولية لبناء هرم لعلاقة قوية. ولكن إذا لم توجد هذه النقطة، فيكون الإنسان مفتقدًا الكفاءة الاجتماعية صاحب علاقة سطحية وغير مؤهل لبناء علاقة صداقة.
2- إذا تمت المرحلة السابقة بنجاح، يرتفع تقدير العلاقة إلى التعارف أو التخاطب من خلال مهارة الحديث والكلام والاستماع. ويدخل في تقوية هذه المرحلة العامل الوجداني والنفسي، وتُسمى مرحلة الاتصال .Communication
3- بالاستمرار نصل إلى مرحلة التجاذب أو القبول أو التماثل وتُسمى،Attractiveness وفيها يبدأ المكوِّن السلوكي في الظهور بصورة إيجابية نحو شخص أو أشخاص، وتبدأ هنا بذور الصداقة. ولكن قد لا توجد هذه المرحلة فيحدث التنافر ويتوقف الاتجاه نحو الصداقة.
4- بدوام المرحلة السابقة نصل إلى مرحلة التشارك أو التعاطف أو التزامل أو الزمالة Mateship ، وفيها يظهر نوع من التعاون والعمل المشترك، ربما بالدراسة أو السفر أو الهواية أو العمل أو الخدمة، وهي مرحلة إيجابية ومتقدمة يمكن أن ترتقي بعد زمن إلى مرحلة الصداقة الكاملة.
5- الصداقة Friendship ، وهي قمة العلاقة الإنسانية غير الرسمية والتي تقوم
بين شخصين أو أكثر، ولها ماضٍ ويُتوقَّع لها مستقبل، وفيها شكل من التكامل والتبادل والإفصاح عن الذات والتدعيم الاجتماعي، وهي خالية من الجنس تمامًا، كما يعبّر مصطلح الصداقة أو الصديق في أصلة اليوناني عن ذلك. وتوصف بأنها غير رسمية حيث لا تُسجّل في أيّة سجلات. ويقول سفر يشوع بن سير ا خ « 6:6 ليكن المسالمون لك كثيرين، وأصحاب سرّك من الألف واحد .»
وهذا التدرج السابق شرحه يختص بكل مراحل حياة الإنسان بدءًا من المراهقة فصاعدًا. كما أن البعد الزمني له دوره في الانتقال من مرحلة إلى المرحلة أعلى. ونلاحظ أنه كثير اً ما يشكو الطلبة بالجامعة في الشهور الأولى عن عدم وجود أصدقاء لهم، ولكن لا نسمع هذه الشكوى على الاطلاق في السنوات الأخيرة من الدر ا سة.
وإذا عدنا إلى العلاقات الإنسانية الرسمية، فنجد أنها تمرّ بنفس المراحل الخمس السابقة، مع زيادة مرحلتين يدخل فيهما العامل الجنسي. فتكون المرحلة السادسة هي رغبة في الارتباط بوجود التوافق والميل والحب، وتنمو هذه المرحلة في فترة الخطوبة حيث يتبادل الاثنان -هو وهي- الكلام والحوار والمشاعر والأحاسيس التي تبني تفاعلاً وترابطًا بينهما، يكتمل بالمرحلة السابعة التي هي الزواج والارتباط الرسمي الذي يُسجل في أوراق رسمية ومستندات، وينشأ عنه آثار متعددة وممتدة في الزمن، وبالطبع تتكامل بوجود العامل الجنسي، ويتكون الكيان الزيجي حيث يصير الاثنان واحدًا (مرقس 8:10) ، وتصير الأسرة كما أرادها الله في الأسرة الأولى (آدم وحواء) ، والتي تتميز بدوام الشركة والمسئولية، مع وحدانية الشريك، وسمة الخصوصية التي تربط بينهما كزوج وزوجة في زواج سعيد ومبارك وناجح وقوي يصمد أمام تقلبات الزمن، وتكون «المحبة الزواجية » هي الضامن لاستمرار الزواج وقدسيته، في إطار الرابطة الثلاثية التي تشكّل معالم الأسرة الحقيقية من رجل وامرأة بينهما المسيح في كيان زيجي قوي، كما نجد في قراءات وصلوات سر الزيجة المقدس: «أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها » (أفسس 25:5) ، «من يحب امرأته يحب نفسه »( أفسس 28:5 ) ،«هذا السر عظيم » (أفسس 32:5).
(وللحديث بقية)