ونحن على أعتاب بداية فترة الصوم المقدس والتى تعتبر من أثمن أيام السنة روحياً وكنسياً وتقوياً …وفيها البرنامج الكنسى الدسم والذى وضعه الآباء بإرشاد الروح القدس بصورة متدرجة عبر الاربعين المقدسة والتى يسبقها الأسبوع الاول أو أسبوع الأستعداد, كما يلحقها الأسبوع الآخير أو أسبوع الآلام وينتهى الصوم بعيد القيامة المجيد وهى قمة الافراح التى يتمتع بها الانسان سنوياً متقدماً روحياً وجسدياً وذهنياً .
ورغم انها فترة صوم طويل تمتد الى مايقرب من شهرين فى نسك وزهد وانقطاع وصلوات وميطانيات (سجدات) مع سكون وصمت وقداسات فى آخر النهار تجعل الإنسان رويداً رويداً يترفع عن متطلبات الجسد حتى يصل الى اسبوع الآلام ويقضيه فى نسك شديد متفرغاً بالوقت والجهد والمشاعر فى مصاحبة المسيح المصلوب ساعة بساعة الى جلجثة الصليب ليقول : “مع المسيح صلبت فاحيا لا انا بل المسيح يحيا فى “
والحقيقة أن الكنيسة تذكرنا فى كل سنه من خلال الصوم المقدس بقضية الصراع الانسانى بين العناد والطاعة أو بين الاستهانة بالوصية الالهية بأى صورة, وبين قبول الوصية وأستعابها والعمل بها والالتزام الحياتى بها من أجل خير الإنسان.
ومن الملاحظات الجميلة أننا نستعد للصوم الكبير قبل ان يبدأ من خلال قصة يونان النبى وأهل نينوى وصوم الأيام الثلاثة والتى تنتهى بفصح يونان كرمز الى فصح القيامة المجيدة إذ أن يونان النبى كان مثالاً صارخاً عن عناد الانسان وكيف تعامل معه الله .
يونان النبي رغم كونه نبياً وقريباً من الله, إلا انه سقط فى معصية العناد وكسر القوانين الالهية أو عدم الإلتفات إلى نداء الله وصوته.
ونرى مثل يونان كثيراً فى المجتمعات المعاصرة كمثل الذين أباحوا العلاقات المثلية تحت مسميات كثيرة وكسروا القانون الإلهى فى شكل الأسرة كما أرادها الله رجل وامرأه. وكذلك الذين رفضوا السلام أو صنع السلام ولجئوا الى العنف والجريمة والحروب والصراعات. رغم أنه مكتوب “طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ.” (مت 5: 9) والعناد خطية عصيان الوصية الإلهية أو الأوامر البشرية سواء فى الأسرة أو المجتمع أو الكنيسة ويعتبر العناد من اضطرابات السلوك الشائعة وقد يحدث لفترة وجيزة أو مرحلة عابرة أو يصير نمط سلوكى متواصلاً أو حتى صفه ثابته فى شخصية الطفل أو الإنسان وتظهر فى صورة الاصرار على المواقف الخطأ رغم العلم والإحاطة بخطئها وغالباً العناد يطول مع الزمن ولا يتركه الشخص.
وفى حالة يونان النبى كان العناد بسبب الفهم الخاطىء لطبيعة الله المحب لكل البشر أو بسبب قلبه الضيق وإنحساره فى اُمته اليهود ونظرته الى الآمم انهم مرفوضين وليس لهم مكان فى قلب الله. وبناء على ذلك تصرف تصرفاته الحمقاء من هروب ونوم وتغافل عن صوت الله ثم القرعة وطرحه فى البحر إلى أن تلقفته العناية الإلهية فى شخص حوت كان اكثر طاعة واكثر إستجابة واكثر حفظاً لنفسه من الهلاك.
وعدم الفهم والرفض والهروب والتأجيل والتجاهل والمماطلة كلها اعراض خطية العناد المهلكة ولذلك علمنا الآباء عبارة مأثورة فى الحياة المسيحية “على ابن الطاعة تحل البركه والمخالف حاله تالف” وهذا المخالف هو المعاند والمتمرد والرافض والمستهين.
عزيزى القارىء ابحث فى حياتك وفتش قلبك فقد تكون هناك خطايا العناد والتمرد وكسر الوصية والاستهانة بها ومحاولات الهروب من صوت الله ونداءاته المتكررة فى الكتاب المقدس
ويأتى الصوم الكبير كفترة غالية تمر على الإنسان لكى يصلح داخله وأفكاره ومشاعره ويتخلى عن أخطاؤه وعناده وسقطاته وانحرافات حياته. لذا لا تدع يا عزيزى هذه الايام أن تمر مرور الكرام دون أن تستفيد وتتخلى عن كل ضعف أو عند فى مسيرتك الروحية وأستعدادك القلبى بالتوبة والنقاوة والإجتهاد واليقظة.
إننا فى قلب الصوم نتقابل مع أربعة قصص كتابية عبر اربعة أسابيع تحكى لنا قصة الإنسان والخطية وهذه القصص هى مثل ومقابلة ومعجزتين على النحو التالى :
- الأحد الثالث :يسبقه أحد الإستعداد وأحد التجربة على الجبل, وفيه مثل الابن الضال وهو يمثل:حرية الإختيار عند الإنسان يختار الصواب أو الضلال, يسمع الصوت أو يصم أذنيه عن النداء.
والابن الضال عاند فكراً وقولاً وفعلاً وسقط , ولكنه انتبه فى لحظة فارقة وعاد بالتوبة من عناده دون أن يفقد رجائه ووجد الاحضان الابويه تنتظره فى سعادة.
- الأحد الرابع : وهو أحد السامرية التى تقابل معها المسيح ودار حوار رائع بينهما حيث تواصل مع امرأه لاجل خلاصها وخلاص مدينة. وهذة المرأه هى رمز ومثال للإنسان الذى يكرر سقطاته ويعاند على مدار سنين دون أن ينتبه أو يتوقف أو يتوب, ولكن السيد المسيح شجعها على التوبة وأن تبدأ من جديد وكسر عنادها بالحب والحوار الى ان صارت كارزة تشهد له.
- الأحد الخامس : وهو أحد المخلع أو مريض بركة بيت حسدا وهو يمثل الإنسان فى خطيته المستمرة حتى الى 38 سنة وحيث كان اليهود يربطون بين الخطية والمرض, فإن كانت الخطية كبيرة كان المرض طويلاً وقاسياً وطبعاً نحن لا نؤمن بهذا المفهوم على الاطلاق. والمعنى هنا رمزياً لأن شخصية المعاند تتسم بالرفض السلبى المستمر والتشبث بالرأى والرفض والمعاند هنا يتصرف دون منطق أو عقل من أجل إظهار ذاته دون هدف أو وعى بل ودون اى تفسير ومثل هذه الشخصية تتسم بعنف احياناً وغالباً ما تكون عصبية بعض الشىء.
- الأحد السادس : وهو أحد المولود أعمى وهو يرمز الى الشخص الذى وُلد وطباعه العند والمعاندة والجدل والنقاش والسلبيه وقد يصل به الحال أن يكون مريضاً نفسياً وقد تمتد اصابته الى الاكتئاب والحزن وفقد الشهيه للنشاط ومشاكل فى النوم وغير ذلك …وحديثنا هنا من الناحية الروحية للإنسان الذى صار العند والعناد طبعه واسلوبه.. وحان الوقت اثناء جهاد الصوم والصلاه لكى يخرج من هذا الضعف وهذة الخطية.
وخلاصة الأمر أن فترة الصوم الكبير هى أقوى فترة تستطيع فيها التوبة والندم والاعتراف وتفريغ القلب من كل ضعفاته وخطاياه كما نقرأ فى إنجيل أحد الرفاع ادخل الى مخدعك (قلبك) واغلق بابك (فمك) (متى6:6)…انتبه ياعزيزى لان “ابن الطاعة تحل عليه البركة والمخالف حاله تالف “.
البابا تواضروس الثانى