“تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ” (مت ١١: ٢٨-٣٠).
وهذه الكلمات بمثابة نداء عام لجميعنا خاصة في أوقات التعب والضيقات والأزمات والأمراض والهموم. وهو وعد صادق وأمين يكشف طبيعة قلب مسيحنا الذي يحملنا ليس على يديه فقط بل في قلبه الوديع والمتواضع حيث راحة نفوسنا وحياتنا.
إن مدلول “قلب” في الكتاب المقدس لا يقتصر على المشاعر والعواطف والأحاسيس، بل يشمل الأفكار والذكريات والقرارات والمعارف الماضية والحاضرة مع الخواطر والأحلام والإشتياقات مما يجعل القلب هو مصدر شخصية الإنسان الواعية والعاقلة والحرة وموطن اختياراته الحاسمة فضلاً عن كونه موضع لقاء الإنسان مع خالقه في انفرادية خاصة وعميقة.
والعجيب إن إنسان الزمان الحاضر لا يلجأ إلى الله حامل أتعابنا وحمولنا وآلامنا، بل يذهب إلى آلهة أخرى!! ولا أقصد أصنام الآلهة بمعناها التقليدي والتي لا نستخدمها بالطبع، بل أقصد الأصنام الجديدة التي ظهرت في حياتنا المعاصرة مثل المال والجنس والمقتنيات والأجهزة والكمبيوتر والموبايل وغيرها وهي تفرض نفسها علينا وتكاد تنافس الله في العبادة.
والسؤال هنا: هل تبذل عزيزي القارئ الجهد الكافي وبشكل متواصل خاصة في أيام الأصوام المقدسة والتي نصلي فيها دائمًا أن هذا الجنس (الشيطان) لا يخرج إلا بالصلاة والصوم.
إن الله لا يحاسبنــــــا علــــى نتيجــة جهادنا الروحي، بل على مقدار الجهد المبذول في مسيرة نمونا وتقدمنا وتحررنا من تلك الأصنام ومن تلك العبودية سواء في مال أو جنس أو عادات أو أرضيات وتراب…. بمعنى التمسك بهذه الأشياء أو الأشخاص سواء ثمينة القيمة أو تافهة، مادة أو شخصًا. يقولون: إذا كنت مقيدًا بسلسلة حديدية أو بحبل طوله متر، لا فرق، فأنت مقيَّد ولا يهم طول القيد أو من أي مادة صُنع. هذه القيود تجعلك من المتعبين والثقيلي الأحمال وتحتاج وبشدة أن تذهب إليه سريعًا في أصوام وصلوات وجهادات ودموع صادقة بإخلاص وأمانة ورغبة حقيقية تضع ذاتك أمامه لتحصل على الراحة الحقيقية في قلبك وفي حياتك.
ولأن القلب هو العضو الغير منظور من البشر، فقط هو الله وحده الذي يعرفه ولذا فإن استجابتنا إلى النداء الإلهي: تَعَالَوْا إِلَيَّ… يعني أن نتخلى عن حجرية القلب وقساوته وشروره وخطاياه التي لا يعلمها سوى الله.. نأتي إليه لننال قلب الوداعة. لأن مسيحنا هو صاحب القلب الوديع والمتواضع، فلن يدخل إليه إلا من شابه سيده فحمل قلبًا وديعًا متواضعًا. وكثيرًا ما نقرأ هذه الكلمات: “هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا” (مت 15: 8؛ مر 7: 6). ومن هنا تأتي ضرورة البحث في نقاوة القلب كطلب المرتل داود النبي في مزمور التوبة “قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي” (مز 51: 10). يعني ذلك أن السعي نحو المسيح يسوع حسب نداه: تَعَالَوْا إِلَيَّ… يتطلب أن تكون جادًا في نقاوة قلبك وتنقيته بإخلاص وانسحاق وتوبة وندم حقيقي وليس شكلي أو مرحلي بل باستمرار ويقين بعدم العودة إلى الوراء وتحمل النير بسرور لأنه يحملك ويحمل أتعابك أيضًا.
وهنا نأتي إلى استكمال الوعد الإلهي الذي نقرأ عنه في العظة على الجبل من خلال إحدى التطويبات الثمينة: “طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ” (مت 5: 8) حيث لا نكتفي بأن نتجنب فعل الخطية بل نقتلع الخطية من جذورها حتى ننعم بمعاينة الله. بمعنى آخر إن الحياة الأبدية هي رؤية الله. وإذا كان الله هو الحياة، فمن لا يراه لا يرى الحياة أيضًا، وبالتالي فإن رؤية الله تتعلق بنقاوة قلوبنا. والقديس غريغوريوس النيصي يقول: “نحن لا نمتلك إحساسًا بجوهره لأن الله لا منظور في جوهره ولكنه يتجلى في نشاطاته التي تظهر في بعض ما يحيط به فنراه القدرة والقوة والطهارة والابتعاد عن كل شر وكل الصفات التي تحفر في قلوبنا صورة التسامي الإلهي.”
إن نقاوة القلب تقاس بمقدار الحب الذي تكنه لله من أعماقك لأن الحب هو أن يمثِّل المحبوب كل شيء بالنسبة إلى المُحب. فالله خلق الإنسان بحب وصنعه فريدًا، ولأنه أحبني أوجدني. وصار الحب طريقًا وحيدًا لنقاوة القلب لأن الحب يعطي الحياة معنى ولونًا وطعمًا وعطرًا. إنه نكهة الحياة. وكما يقولون: “أنت لا أحد، حتى يحبك أحد”. وهوذا الذي يحبك يدعوك:
“تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ
وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ”