بمناسبة عيد حلول الروح القدس أحب أن أكلمكم عن صلاة نقولها باستمرار: “قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي أحِشائي” (مز51: 10)، لأن أحد مفاعيل الروح القدس هو عمل التجديد. فالروح القدس يجدد فكر الإنسان ويعطيه الاستنارة في حياته.
الله حينما خلق الإنسان خلقه بصفات ثلاثة: عاقلاً، وعاملاً، وعابدًا. فصار للإنسان: عقل يفكر، ويد تعمل، وقلب بروحه يتصل بالله باستمرار.
شخصيات في الكتاب المقدس تميزت برجاحة العقل:
يقول الكتاب عن دانيال والفتية الثلاثة: “أَمَّا هؤُلاَءِ الْفِتْيَانُ الأَرْبَعَةُ فَأَعْطَاهُمُ اللهُ مَعْرِفَةً وَعَقْلاً فِي كُلِّ كِتَابَةٍ وَحِكْمَةٍ، وَكَانَ دَانِيالُ فَهِيمًا” (دا 1: 17). وقال داود النبي لأبيجايل زوجة نابال الكرملي التي تصرفت بحكمة: “مُبَارَكٌ عَقْلُكِ” (1صم 25: 33).
وفي العهد الجديد مدح السيد المسيح المرأة الكنعانية التي قالت: “نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا” (مت 15: 27). أما زكا العشار فحينما تقابل مع السيد المسيح وتغير حاله واكتسب رجاحة العقل وقال: “هَا أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أضْعَافٍ” (لو 19: 8)، فقد حصل خلاص له ولأهل بيته. وبولس الرسول لما استنار عقله قال: “أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا” (1تي 1: 13)، وصار كارزًا بل وعملاقًا في الكرازة.
لماذا خلق الله العقل للإنسان؟
وظيفة العقل الأولى، هي التعرف على الله والخليقة كلها. يقول المزمور “اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ” (مز 19: 1). فالنجوم والنباتات والحيوانات كلها تجعل الإنسان يعيش روح التأمل.
وظيفة العقل الثانية، هي إنه وعاء للمعرفة الواسعة في العالم.
وظيفة العقل الثالثة، هي أنه يساعد الإنسان في اتخاذ قراراته. فلو كان عقل الإنسان على مستوى الاستنارة والتجديد المستمر تكون قراراته صحيحة وتسير حياته بطريقة سليمة.
ما هي علامات العقل السليم؟
1- أن الله هو الذي يقوده وليس الهوى الشخصي.
وكنيستنا تعلمنا أن أول رشمة للميرون تكون على النافوخ، وهو موضع العقل، وذلك لتقديس العقل وتخصيصه لله ليعمل فيه.
يقول المزمور: “وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. نَامُوس الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا. خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا” (مز 19: 7-9)، وأيضًا: “سِرَاج لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي” (مز 119: 105). هناك أناس ربما يقرأون لكنهم لا يسمحون لكلمة الإنجيل أن تجدد حياتهم، لذلك تعلمنا الكنيسة قبل قراءة الإنجيل أن نطلب من الله أن يفتح ذهننا لنفهم.
2- أن يكون العقل مملوءًا بمعرفة متوازنة، ، لا يميل لليمين ولا لليسار، فالاتزان هو من علامات صحة العقل. وفي اللغة المتداولة نقول “فلان متزن.. فلان كلامه موزون”. ويقول الكتاب: “بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ” (مت 12: 37)، “وَمَن قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ” (مت 5: 22). لذلك فإن آباء البرية فضلوا الصمت كثيرًا جدًا، لأن “كَثْرَةُ الْكَلاَمِ لاَ تَخْلُو مِنْ مَعْصِيَةٍ” (أم 10: 19).
3- أن تكون للعقل مرجعية، فالذين بلا مرشد كأوراق الخريف يسقطون سريعًا. ومهما كبر الإنسان في المعرفة وفي خبرات الحياة فإنه محتاج دائمًا أن يكون له مرجع يرجع إليه كنوع من صمام الأمان. وكنيستنا تعلمنا أن يكون لنا آباء اعتراف ومرشدين حكماء طوال حياتنا.
نسمع عن القديس أثناسيوس العظيم أن مرجعيته كانت البابا ألكسندروس الـ19. والقديس أغسطينوس كانت مرجعيته القديس أمبروسيوس، وكذلك سيرة القديس أنطونيوس.
4- أن يكون العقل دائمًا متجددًا، وفي كل مرة نشعر أن الفكر بدأ في الحيدان نقول: “رُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي أحِشائي” لنعود إلى الاستقامة.
يقول المزمور عن الرجل الصالح: “يَكُون كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ” (مز 1: 3)، والمياه الجارية هي مياه متجددة وبالتالي فإنها مروية ونافعة. إن عملية تجديد العقل هي عملية روحية داخلية، فيها عمل للنعمة وعمل لإرادة الإنسان معًا.
ومن حلاوة كنيستنا أنها تعمل لنا طقسًا فرايحي، وكيهكي، وصيامي، وشعانيني، وسنوي. هذا التنوع “عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ”، هو التجديد المستمر. إن عملية التنوع والتجديد والتغيير المستمر يضفي بهجة، وتشويقًا، واستنارة.
في نهاية سفر مراثي إرميا يقول: “جَدِّد أَيَّامَنَا كَالْقَدِيمِ” (مرا 5: 21) بمعنى اجعل أيامنا الحاضرة فيها روح الجدة كما كانت في القديم. وهناك آية واضحة قالها القديس بولس الرسول: “تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ” (رو 12: 2) وتجديد الذهن هو شكل من أشكال التوبة.
بعض سمات العقل غير السليم:
1- عقل التهويل: يهول الأمور، كما يضيف إضافات وينسج روايات.
2- العقل المنحرف: هو دائمًا يعيش في الخيال والتصورات.
3- العقل المشحون باليأس:يرى أن كل شيء لا يصلح، لن ينفع، سيفشل. ليس عنده رجاء.
4- العقل المتجمد: لا يتطور بل يعيش في خبراته القديمة ويرفض كل جديد.
5- العقل الروتيني: لا يتغير عن الروتين الذي اعتاده، ولا يعرف التجديد ولا الابتكار. هنا ويجب أن نعرف الفرق بين مصطلحين: الأصالة (الجذور)، والمعاصرة (الشجرة والثمر)، وعملية الجمع بين الاثنين تحتاج إلى العقل الذي يجدده الروح القدس.
6- العقل الفضولي: يبحث عن الأخبار، ويشبع نفسيًا حينما يعرفها وينقلها. هذا عقل مريض.
7- العقل المنقاد: لا يعرف إلا شخص واحد، يكون بطلاً في نظره، يصير مسلوبًا لفكره وكأنه مسبي.
8- العقل المشوش: حينما يتكلم ينتقل من موضوع لثاني ثم ثالث ورابع وتبحث عن أصل الموضوع فلا تجده. هو تائه.
9- العقل المنفعل: يكون دائمًا متوترًا وقلقًا، وأبسط كلمة تثير انفعاله.
10- العقل الشهواني: الذي تتحكم فيه الخطية والشهوات.
مقترحات لكيفية تجديد العقل:
إن النعمة تساعد الإنسان في تجديد ذهنه وعقله، لكن يجب أن يكون لإرادة الإنسان دور، لذلك أقدم عدة مقترحات:
1- يتجدد العقل من خلال القراءة المستمرة وعلى رأسها قراءة الإنجيل، واظب على تدريب قراءة الإنجيل كل يوم، وجدد عقلك بقراءات مستمرة ومتنوعة.
2- يتجدد العقل بالجلوس إلى الكبار، في أخذ المشورة من الأمناء، فإن خبرات الماضي تستطيع أن تفيد الإنسان في الحاضر وتكون مؤثرة جدًا.
3- من الممكن أن يتجدد العقل بمعرفة التاريخ، فلحكمة بالغة نجد في كنيستنا السنكسار والدفنار.
الخلاصة:
مع احتفالنا بعيد حلول الروح القدس نرفع قلوبنا ونقول: “قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي أحِشائي”. نصلي ونطلب من خلال عمل الروح القدس، أن يمنحنا الله روح التوبة والتجديد والاستنارة في كل حياتنا.