منذ خمسينيات القرن الماضي بدأ سفر بعض الأقباط إلى دول أوروبا بقصد الزيارة أو الدراسة أو السياحة أو الشراء… إلخ.
وبدأت تجمعات صغيرة أو محدودة من الأفراد وسرعان ما ذهب إليهم بعض الآباء بقصد الافتقاد مثل الراهب القس مكاري السرياني الذي صار فيما بعد نيافة الأنبا صموئيل الأسقف العام للخدمات العامة والاجتماعية والمسكونية والذي استشهد في حادث اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981م.
ولكن حتى عام 1970م لم تكن لنا مباني كنائس قبطية في أي دولة أوروبية، وكانت أول كنيسة قبطية في لندن بإنجلترا، وأرسلت الكنيسة كاهنًا راهبًا لمجموعة الأقباط المتواجدين آنذاك هو الراهب أنطونيوس السرياني (نيافة الأنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح وبنتابوليس أطال الله حياته). وبدأ بعد ذلك إنشاء كنائس سواء بالشراء أو بالإيجار المؤقت أو الدائم.. وبدأ إرسال عدد من الكهنة سواء الرهبان أو المتزوجين… وبسبب تزايد أعداد الأقباط المقيمين لأسباب عديدة نمت الخدمة وكان من الضروري افتقادهم ورعايتهم وحفظهم من الذوبان في هذه المجتمعات الغربية، وتأكيد استمرار ارتباطهم بالوطن الأم مصر.. وبعد إنشاء الكنائس في عدة دول أوروبية بدأ إنشاء الإيبارشيات بإرسال آباء أساقفة مقيمين في هذه الدول.. كانت البداية عام 1991م بتأسيس إيبارشية برمنجهام في شمال إنجلترا، وإرسال نيافة الأنبا ميصائيل أطال الله حياته. وتوالى بعد ذلك إنشاء الإيبارشيات حتى وصل عددها حاليًا 15 إيبارشية برعاية مطران و14 أسقفًا في عدة دول بعضها فيها أسقف واحد أو إثنين أو ثلاثة.. وذلك بعد تزايد أعداد الأقباط حيث كانوا بالمئات أو الألوف والآن مئات الألوف.. وبدأ أيضًا إنشاء أديرة قبطية كان أولها دير الأنبا أنطونيوس في فرانكفورت بألمانيا.
وسعيًا وراء تنظيم الخدمة بعد اتساعها تم اختيار المتنيح الأنبا كيرلس مطران ميلانو ليكون نائبًا بابويًا في أوروبا وذلك للمرة الأولى عام 2013م.. ومن ذلك العام بدأنا ما يسمى مؤتمر خدمة أوروبا يجمع الآباء الأساقفة والآباء الكهنة والشمامسة وممثلين عن الكنائس. وكان المؤتمر الأول في دير الأنبا أنطونيوس بالنمسا، وتقرر أن يكون ذلك المؤتمر كل عامين. واستمر هكذا لتدبير العمل الرعوي في الكنائس والإيبارشيات. وقد اهتم بهذا المؤتمر المتنيح الأنبا كيرلس مطران ميلانو حتى نياحته في أغسطس 2017م.
وبالطبع توجد عدة دول في أوروبا بها كنائس ستكون مستقبلاً إيبارشيات، وبذلك ربما يصل عدد الإيبارشيات إلى 20 إيبارشية تقريبًا.. ولذلك فكرنا أن يكون هناك مقر متوسط بين هذه الإيبارشيات يصلح أن يكون امتدادًا لبطريركية الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة.. والحقيقة أن صاحب هذه الفكرة هو المتنيح الأنبا كيرلس، الذي عرضها على المتنيح البابا شنوده منذ حوالي عشرين عامًا، وقدَّم أرضًا ورسمًا هندسيًا استغرق حوالي عشر سنوات للحصول على تراخيص البناء. وبدأ فعلاً عام 2010م واستمر حتى عام 2015م حيث اكتمل البناء المعماري دون أي تشطيبات. وقد زاره مؤتمر خدمة أوروبا الثاني (عام 2015م)، وحضرنا جميعًا وصلينا قداسًا واحتفلنا بهذا المكان بحضور الأنبا كيرلس، ويوجد فيديو يسجل هذه اللحظات الجميلة…
وبعد نياحته في عام 2017م، اختار الله اثنين من تلاميذه ليكونوا أساقفة، واحد في ميلانو هو نيافة الأنبا أنطونيو، والآخر في إيبارشية جديدة سميت إيبارشية دول وسط أوروبا وتشمل المجر – رومانيا – بولندا – التشيك – سولفنيا، وهو الأنبا چيوڨاني، وقد أُسند إليه الإشراف على فنيسيا التي بها هذه الكنيسة المركزية، حيث اجتهد في تشطيبها وتجهيزها بكل التفاصيل المعمارية والفنية والكنسية، وكان افتتاحها وتدشينها حدثًا هامًا جدًا في مشوار خدمة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في قارة أوروبا..
ويسرني أن أسرد هذا الحدث بالتفصيل: بدأنا يوم السبت 14/10/2023م بالوصول إلى الكاتدرائية ظهًرا، واستقبال بعض الآباء والشعب مع عدد كبير من الأطفال حاملي الورود، وقد أخذنا صورًا عديدة معهم باعتبارهم كنيسة المستقبل. ثم افتتحنا الكاتدرائية بالألحان والتماجيد، وشرح لنا الأنبا چيوڨاني تاريخ هذا الإنشاء العظيم، كما تحدث المهندس المعماري دكتور منير عبده فام عن التصميم القبطي للكاتدرائية. وفي المساء صلينا العشية بحضور بطريرك فنيسيا للكاثوليك (وبعض ممثلي الكنائس الأخرى) الذي قدَّم لنا جزءً من رفات القديس البابا أنيانوس البطريك القبطي الثاني بعد مار مرقس.
وفي فجر الأحد 15 أكتوبر 2023م، بدأنا صلوات التدشين للمذابح والمعمودية والأيقونات وسط فرحة عارمة وتهليل كل الحضور من المطارنة والأساقفة والكهنة والشمامسة والأراخنة وكل الشعب، وهذا منطوق التدشين: ندشن هذا المذبح بهذا الميرون المقدس في كاتدرائية بطريركية الأقباط الأرثوذكس في مدينة فينسيا بإيطاليا على اسم القديس مارمرقس الرسول كاروز بلادنا مصر. المذبح الأوسط على اسم مارمرقس الرسول، والبحري على اسم الأنبا شنوده رئيس المتوحدين، والقبلي على اسم الأنبا أبرآم قديس الفيوم. ثم القداس الإلهي الذي كان الأحد الأول من شهر بابه. وتوزيع البركة على كل الحضور وهدايا تذكارية.
وفي مساء نفس اليوم بدأنا لقاء أساقفة أوروبا مع أعضاء السكرتارية العامة للمجمع المقدس، والذي تحدث فيه كل الآباء بصورة عملية وتبادل خبرات العمل الرعوي واحتياجاته وأهم مشكلاته وتحدياته، مع بعض الاقتراحات المفيدة من أجل الخدمة وعمل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وقضينا وقتًا بهيًا للصلاة وللدراسة والبحث وعرض خدمة كل إيبارشية وكيفية تأكيد التعاون المشترك بشتى الصور الممكنة.. وكان لقاءً مكثفًا مفرحًا عندما طالعنا عمل يد الله القوي في شتى المجالات الرعوية، وانتهى اللقاء ظهر يوم الإثنين 16/10/2023م.
إن حدث افتتاح الكاتدرائية وتدشينها ولقاء أساقفة أوروبا معًا في عدة جلسات، مع المناقشات المثمرة والفعالة، لهو حدث هام في تاريخ الخدمة في أوروبا، ويعتبر نقطة هامة للانطلاق نحو اشتياقات وأحلام يسعى الجميع في تحقيقها بروح الله القدوس.