المحبة هي السمة الواضحة في كل أسفار الكتاب المقدس، والمحبة سواء الإلهية أو الإنسانية أي محبة الله للإنسان أو محبة الإنسان لله هما وجهي العملة، ويتجلى ذلك على خشبة الصليب حيث الله المشتاق لخلاص الإنسان والذي تجسد وتأنس حبًا وحنانًا في صنعة يديه، مُقدمًا فداءً لكل البشر في كل الأجيال وفي كل العصور. وهناك من قَبِلَ ذلك الفداء الثمين وصار محور حياته وزمانه، وهناك بشر آخرون لم يقبلوا أو لم يأت زمان قبولهم، ومازال المسيح منتظرًا فاتحًا ذراعيه على الصليب، داعيًا كل إنسان قائلاً: “أَنَا عَطْشَانُ” (يو 19: 28) ليس للماء وإنما لخلاص النفوس.
ويرتفع سفر نشيد الأناشيد ليكون قمة التعبير بهذا الموضوع الأسمى أي “المحبة”. ومن الملاحظات المدهشة أن تعبير “يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي” (نش 1: 7) يتكرر خمس مرات معبرًا عن صرخة الإنسان صاحب الحواس الخمسة وهو ينادي المسيح عريس النفس بقوله: “يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي..”.
وقديمًا قال داود النبي في مزمور 18: “أُحِبُّكَ يَا رَبُّ، يَا قُوَّتِي”. وبالمثل عبَّر الآباء والأنبياء عن محبتهم نحو الله وفي المقابل كانت استجابة الله نحو الإنسان في مواقف عديدة مثل:
موقف العماد: “هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ” (مت 3: 17).
أو موقف التجلي: “هذا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا” (مر 9: 7).
أو قيلت النبوة: “هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي” (مت 12: 18).
أما تعبير “يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي” فهو مشاعر وإحساس ويقين النفس الداخلية عن الالتصاق الدائم والمستمر بالرب يسوع طول الحياة..
ويمكن أن نتدرج في الخمس مرات التي ذكر فيها هذا التعبير في خمس مراحل تمر في حياة الإنسان السائر نحو الملكوت:
1- اشتياق: “أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، أَيْنَ تَرْعَى، أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ” (نش 1: 7). ومعلوم أن وقت الظهيرة هو ساعة الصليب.. وهنا تعبِّر النفس عن اشتياقها البالغ لملاقاة الحبيب والاستمتاع بالوجود في حضرته وتحت ظلاله.
2- توبة: “فِي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي” (نش 3: 1). وهي النفس التي سقطت في ظلمة الخطية وصار الكسل والتواني عنوان حياتها.. ولكنها الآن تطلب المسيح حبيب النفس لكي يمد يده ويقيمها من عثرتها.
3- تسامح: “إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ، فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ، أَطْلُبُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي” (نش 3: 2). وقد بدأت النفس تتحرك نحو الآخرين لكي تسامح كل من أخطأ في حقها وكأنها تصلي: “…وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا” (مت 6: 12). إنها تريد أن تتصالح مع كل أحد وهذه بداية جيدة لحالة توبة الإنسان…
4- ترك: “وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي” (نش 3: 3). بدأت النفس تترك روابط الأرضيات والترابيات وترتفع نحو ذلك الحبيب تبحث عنه في كل مكان وتراه في دقائق الحياة ولا تنشغل بالآخرين.. فقط تريده وتشتاق إليه وهو محور حياتها وكل أيام عمرها.
5- تمتع: “فَمَا جَاوَزْتُهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي فَأَمْسَكْتُه وَلَمْ أرْخِهِ” (نش 3: 4) وهناك كمال مراحل ذلك الحب النامي نحو الحبيب، حيث تمتع النفس بالارتباط القوي والتعلق الشديد به والسكنى في أحضانه ويصير تعبير “يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي” تعبيرًا حقيقيًا ملموسًا ومحسوسًا في قلب الإنسان، فيعيش في حالة من العشق الإلهي المفرح، وهذه الحالة تساعده في فهم حياته ووجوده، كما تسنده في خدمته وكرازته لكل أحد، وأيضًا تعطيه التمتع بملكوت الله داخله استعدادًا للنصيب الصالح في ملكوت السموات.
إننا نصلي في الصلاة الربانية عبارة: “كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ” (مت 6: 10) أي إننا نريد أن تكون حياتنا سماءً على الأرض، وهو ما يتحقق في الكنيسة وعملها ودورها في الحياة.
ويمكن أن أضع أمامك عزيزي القارئ 4 علامات سماوية في حياتك وطريقك نحو الملكوت:
1- الكتاب المقدس هو مرشد الطريق وهو روح وحياة لكل من يقرأ ويحفظ ويتأمل ويعيش.
2- الكهنوت (أو الأبوة) هو رفيق الطريق فالأب الكاهن وأب الاعتراف هو رفيق في رحلة نحو الملكوت.
3- القداس الإلهي: هو فرح الطريق. فالصلوات على تنوعها، وفي قمتها ليتورجيا القداس هي فرح وبهجة وتعزية الطريق..
4- الخدمة بكل صورها هي سلامة الطريق لأنها التعبير الحقيقي عن محبة الإنسان لله.
وبهذا تكون صلاة: “يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي..” صلاة النفس، وتعبير دائم عن هذه العلاقة السامية مع الله..
اجعلها عزيزي القارئ في فمك وفي مشاعرك وهي نداؤك كل حين: يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي…
This page is also available in: English