الأنيميا مرض شائع ويعني فقر الدم من عنصر الحديد، وبالتالي عدم وجود عدد كافٍ من كرات الدم الحمراء السليمة والتي تحمل الأوكسجين إلى جميع أعضاء جسم الإنسان، وهذا يؤدي إلى التعب والضعف والوهن وضيق النفس وعدم القدرة على العمل أو الفكر أو الدراسة أو النشاط، وهذا بالطبع على مستوى الجسد الإنساني.
أما على المستوى الروحي الإنساني فهناك ما يمكن تسميته “أنيميا الحب” أي نقص أو غياب الحب عن قلب الإنسان وحياته، وهو ما يسبب القلق والإحباط والألم والمعاناة واليأس والقنوط والوقوع في حبائل المرض النفسي والجسدي والروحي.
ومعروف أن كلمة Love = الحب، مشتقة من كلمة Leof الموجودة في اللغات الألمانية والإنجليزية القديمة، وتعني: العزيز أو المبهج، وهي قريبة الشبه من كلمة Life = الحياة. ولذا يمكننا القول أن: الحياة هي الحب، أو أن الحب هو الحياة، ومن يعرف الحب يفهم الحياة.
ونحن على أعتاب سنة جديدة في العمر نتمنى فيها الخير للجميع، ولكن حولنا صراعات وحروب ومجاعات وفظائع ترتكب هنا وهناك، ومعاناة البشر وسط ظروف المناخ والاقتصاد والعوز والألم للأفراد والعائلات والشعوب في مواضع كثيرة من العالم.. يقف ويتساءل الإنسان عن هذه القسوة التي تدمر الإنسان.. لقد صارت القسوة اختراع بشري يعذب فيه الإنسان أخيه الإنسان بلا رحمة أو شفقة بينما الحيوانات لا تصنع ذلك!!! ويقف الإنسان متحيرًا: ما هذا الذي يحدث؟ ما هي أسباب انجراف البشر نحو هذا الألم الذي يصنعه بنفسه؟!
ورغم أن الإنسانية تقدمت زراعيًا وصناعيًا وتكنولوجيًا، وصار الإنسان مبهورًا بما يصنعه من اختراعات واكتشافات في كل المجالات، حتى صار العقل معبوده من كثرة ما صنع واخترع، ونسى أن العقل نفسه هو عطية الله الخالق للإنسان والخليقة، ونسى أن العقل زينة للحياة الإنسانية الراقية والسعيدة والمتحابة وليست المتحاربة بالأسلحة العديدة البسيطة منها والفتاكة والتي يقتل بها الآخر دون أن يفكر لحظة: ماذا يفعل؟ وتزداد حيرة الإنسان عما يحدث على مستوى العالم وأين الصواب وما هي الأسباب التي جعلت الإنسان ينحدر إلى مستويات أقل من مستوى الحيوانات التي لا تعذب بعضها البعض، ولا تحارب بعضها البعض، ولا تصنع أسلحة، ولا تقوم بحروب وقتالات؟!!..
ونعود إلى السبب الحقيقي لما صارت إليه حياة الإنسان وهو غياب الحب أو أنيميا الحب. لقد جف قلب الإنسان من الحب الحقيقي، وبسبب هذا فقد الرؤية السليمة أو الفكر السليم لوجوده وحياته وهدف خلقته. ولم يعد يحب نفسه أو الآخرين المقربين أو البعيدين، وقبل ذلك كله لم يعد يحب خالقه العظيم: الله.. لقد تناساه وهرب منه وغرق في ذاته وأنانيته ولم يعد الله الديان العادل في جدول حساباته.. وهذه هي خدعة الشيطان الكبرى والفخ الذي سقط فيه الإنسان بسبب جفاف مشاعره وقلبه من الحب الكامل لله وللآخر ولنفسه: “تُحِب الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ” (مر 12: 30؛ تث 6: 5) و”تُحِب قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ” (مر 12: 31؛ لا 19: 18).
اسمع معي الملك داود وهو يتغنى في مزاميره قائلاً: “أُحِبُّكَ يَا رَبُّ، يَا قُوَّتِي” (مز 18: 1). رغم أنه الملك وصاحب الثروة وقائد الجيش والشاعر وكاتب المزامير والراعي.. ولكن قوته هي الله أولاً، وهي الحب المستمد من الله والمنساب إلى قلبه كل يوم.
والآن صديقي القارئ هل تعاني من هذا: من أنيميا الحب؟! يمكنك أن تراجع نفسك ونحن مع نهاية العام لتعيد ترتيب أولوياتك وحياتك في ضوء الوصية الإنجيلية، وحتى تعيش في مرضاته، عالمًا أن الحب هو الصبر والمودة وليس الغيرة أو الغرور أو التكبر، وليس سوء الأدب أو الأنانية أو سرعة الانفعال، فالحب لا يحتفظ بسجلات الأخطاء، ولا يحفل بالشر، ولا يخبو إيمانه أو أمله أو صبره. الحب له القدرة على إبراء الجروح وعلى المواساة والدعم والنصرة والاهتمام.
هناك قصة تُحكى عن أحد السجون فيه عدد من المحكوم عليهم بالإعدام وسوف تنفذ الأحكام خلال شهور قليلة، وطلبت إدارة السجن منهم اختيار بعض الكتب للقراءة في هذه الفترة العصيبة، وعرضت قائمة بالكتب المتاحة تضم كتب: القانون والمغامرات والفلسفة والإباحيات والسير الذاتية والفلك والرسوم الكاريكاتورية والفكاهة وكتب الجريمة وكتب خطابات الحب والشعر وغيرها من الكتب. وكانت النتيجة المذهلة أنهم اختاروا كتب الشعر والحب!! ورغم أنهم سيعدموا خلال وقت قصير ولكنهم وضعوا الحب والشعر في بؤرة اهتماماتهم.
أود الآن وأنت تراجع مستوى الحب في قلبك وفي حياتك ومعاملاتك وفى بيتك وأسرتك وأصحابك وفي عملك وخدمتك وعلاقاتك، أود أن أضع أمامك هذه المبادئ:
1- امنح نفسك الفرصة لتحب: فهذا هو القوة الحقيقية. لا تكمن القوة في الماديات أو المناصب أو القدرات بل فى الحب الروحي والمودة عالمًا أن المحبة لا تسقط أبدًا ولا تهزم أبدًا.
2- انتبه إلى معاناة الآخرين لأن الإنسان –أي إنسان- هو في الضعف الإنساني، والكل يعاني سواء من تجارب الحياة أو تقدم السن أو المرض أو فقدان الأحباء ومكتوب: “شَجِّعُوا صِغَارَ النُّفُوسِ. أَسْنِدُوا الضُّعَفَاءَ” (1تس 5: 14).
3- كن راضيًا فأنت إذا تعلمت كيف تحب وتحترم نفسك وتكون راضيًا عن كل حياتك، وقتها سيكون بإمكانك أن تحب الآخرين وتحترم حياتهم واختلافهم عنك بل وأكثر، إذ ستشكر الله على كل النعم والعطايا مهما صغرت أو كانت قليلة ولكن يكفي أنها من يد العناية الإلهية لشخصك المحبوب.
4- تجنب القسوة بكل صورها سواء في الكلام أو الألفاظ أو الملامح أو حركات اليدين.. خذ جانب الهدوء واللين والمرونة مع كل أحد الصغار والكبار في كل مجالات حياتك، والسيد المسيح في كل معاملاته أخذ جانب الحنيَّة والشفقة والرحمة، كما نرى في مواقف كثيرة ومنها موقفه أمام المرأة التي ضبطت في ذات الفعل (يوحنا 8).
5- تأمل دومًا رحمة الله التي تحيطك والتي تصلي وتتضرع بها قائلاً: يارب ارحم، والله الذي يرحمك كل يوم يجعلك توجه مشاعرك وأفكارك نحو الخليقة كلها: البشر والحيوان والنبات والطبيعة، وتسكب حبًا وحنانًا نحوهم وتصلي من قلبك: أعطني يارب هذا الحب وهذه الرحمة ليكونا عنوان حياتي في السنة الجديدة وتشفيني من أنيميا الحب ومن قسوة القلب.
سنة جديدة سعيدة
This page is also available in: English