التدبير الكنسي والعمل المؤسسي: رؤية مقترحة
التدبير الكنسي والعمل المؤسسي: رؤية مقترحة
"يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَنًا" (1 تي 3: 4)
تقديم/ د. مجدي لطيف السندي
العناصر:
– مقدمة
– المنظور المؤسسي للكنيسة
– ما المقصود بالتدبير الكنسي
– المجالات الأساسية الثلاثة للتدبير في الكنيسة
– كيف تخدم الكنيسة كمؤسسة روحية مهدفة ومثمرة ونامية ؟
– محاور تطوير العمل المؤسسي في الكنيسة
– الخلاصة
بحسب العقيدة الأرثوذكسية، للكنيسة مكانة جوهرية في حياة كل مسيحي”لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ، إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي” ( مز 137: 6 )؛ إذ بدونها لا خلاص للإنسان “مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلهِنَا يُزْهِرُونَ” (مز 92: 13 ).
وحسنا قال عنها القديس الشهيد كبريانوس:
وهناك عدة أوجه أو مناظير (perspectives) تساعدنا علي فهم الأبعاد العميقة للكنيسة؛ فهي كنيسة واحدة ولكن لثراء معاني الكنيسة هناك المنظور اللاهوتي والعقيدي، وهناك المنظور الروحي، والمنظور التاريخي، والمنظور الإجتماعي إلخ. هذه المناظيرالمتنوعة تساعدنا علي فهم عمق الكنيسة علي سبيل التفصيل لا الفصل، وإن كان هناك بعض التداخل بين هذه المناظير. ولا شك ان كتابات الآباء الرسوليين وآباء الكنيسة المعاصرين تقدم ثراءا هائلاً لشرح هذه الأوجه، حتي أن هناك علم خاص إسمه علم الكنيسة أو الكنسيات (Ecclesiology ).
ولكن هناك منظور آخر يساعدنا علي فهم نشأة وحياة الكنيسة وعناصر نموها منذ العصر الرسولي وحتي اليوم، وهو ما يمكن أن نسميه المنظور المؤسسي للكنيسة. وهذا هو موضوع هذا المحاضرة و كل موضوعات السيمنار.
فما المقصود بالمنظور المؤسسي للكنيسة؟ وما معني ان الكنيسة “منظومة متكاملة تعمل بشكل مؤسسي”؟ وما المقصود بالتدبير في الكنيسة، وما هي مجالات التدبير الكنسي؟ وهل وصف الكنيسة “بمؤسسة روحية ذات طبيعة خاصة” وصف صحيح أم فيه إجتراء؟
هذه الأسئلة هي ما سنحاول الإجابة عليها في هذه المحاضرة التمهيدية.
أولاً: المنظور المؤسسي للكنيسة
بدأت كنيسة العهد الجديد بنواة جماعة أو عائلة صغيرة من “نحو مائة وعشرين (120) نفس” (أع 1: 15) بقيادة التلاميذ الإثني عشر والرسل السبعين ومجموعة النسوة وعلي رأسهم السيدة العذراء مريم، وكانوا جميعاً شهوداً علي حياته وموته وقيامته، وإجتمعوا معا في إنتظار حلول الروح القدس ” وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ،” ” (أع 2: 1).
وفي مساء يوم الخمسين إنضم الي الكنيسة ثلاثة آلاف نفس (أع 2: 41) ولم تمضِ أيام قليلة إلا وكانت الكنيسة تنمو بشكل متسارع جداً ” وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ ” (أع 2: 47).
وأصبح تكرار تعبير “ينمو”، “ينضم”، و”يتكاثر عدد التلاميذ” من السمات المميزة لسفر الأعمال، حتي أنه بنهاية القرن الأول (العصر الرسولي) كانت الكنيسة قد ضمت مئات آلاف من المؤمنين، وإمتدت تقريباً الي معظم مناطق العالم المعروف في ذلك الزمان، بحسب وصية السيد المسيح ” ” وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ” (أع 1: 8). وتوالي تأسيس كنائس جديدة صغيرة في المناطق التي بشر بها بولس الرسول وباقي الرسل (مثل كنائس تسالونيكي، كورنثوس، أفسس، فيلبي، إلخ).
ومع نمو وامتداد الكنيسة تزايد عدد المؤمنين، وبدأت الكنيسة في التعامل مع إحتياجات رعوية وإدارية غير معتادة (مثل مشكلة خدمة الموائد – أع 6: 1-8) أو قضايا لاهوتية شائكة (مثل قضية التهود – أع 15) ، أو مشكلات عامة في بعض الكنائس (مثل إنشقاقات أو إنحرافات سلوكية في كورنثوس 1كو 1: 11؛ 3: 1؛ 5: 1)، مما إستلزم من الآباء الرسل وضع منهج وأسس لسياسات (policies) ، ونظم systems) ) ، وإجراءات (procedures) تساعد علي تنظيم الخدمة بشكل مرجعي للكنيسة الجامعة، وفي نفس الوقت يمكن إستخدامها في الكنائس الوليدة المحلية، بشكل منظم وبقدر عالي من اللامركزية في التعامل مع إحتياجات كل كنيسة (مثال: 2 تي 2: 2) تحت قيادة الآباء الرسل وتلاميذهم.
ويشرح سفر أعمال الرسل، بالإضافة الي كتابات القديس بولس الرسول في رسائله الأربعة عشر وكتابات باقي الرسل (رسائل الكاثوليكون للكنيسة الجامعة)، المباديء المرجعية العامة التي وَضَعتْ – بالإضافة للتعاليم اللاهوتية والعقيدية – الأسس التنظيمة لتدبير الكنيسة وكيفية إدارة نموها، كما وصفت هذه الكتابات المناخ الذي تم فيه هذا التدبير. كما سجلت تعاليم الرسل (المعروفة بالدسقولية) وصايا تفصيلية في تدبير الكنيسة وصفات ومسؤليات مُدبريها. لمزيد من التفاصيل أنظر ” الدسقولية – تعليم الأباء الرسل في الرعاية والقانون الكنسي – إعداد وتعليق د. وليم سليمان قلادة 1979
هذه الأسس التنظيمية شملت كافة أشكال “إدارة النمو“، من تنظيم وتشريع وإدارة الكنائس الوليدة وتدبير شئون الرعاية وتلبية إحتياجات الكرازة، وعلاج المشاكل، ووضعت الأساس للعمل المؤسسي في الكنيسة.
ملامح ” نمو” الكنيسة في العصر الرسولي:
– من كنيسة “اليهود” الي كنيسة “كل الأمم”؛
– من كنيسة “العصر الرسولي” الي كنيسة “كل العصور” ؛
– من إحتياجات “روحية” فقط الي إحتياجات “رعوية” و”تنظيمية”؛
– من التركيز علي “العضو/الشخص” (مثل الخصي الحبشي أو كرنيليوس القائد الروماني) الي “الجماعات/الكنائس الوليدة” (مثل كنائس أفسس وغلاطية وكورنثوس .. إلخ)؛
– من الكنيسة “كحركة روحية لتجديد الإنسان” (renewal movement ) الي الكنيسة ككيان مهدف ومنظم يعمل بشكل مؤسسي “أي كمؤسسة روحية” (well-established institution )
وجدير بالذكر أن إدارة نمو الكنيسة (أو ما يمكن أن نسميه التطور التنظيمي للكنيسة organizational evolution) إستمر منذ كنيسة عصر الرسل عبر العصور، ويمتد الي كنيسة اليوم والغد، وهو في حالة حركة مستمرة تتواكب مع تغيرات العصر وإحتياجات الشعب المتعددة، من خلال وعي وإستنارة آباء وقادة الكنيسة، الذين يحافظون علي العقيدة والإيمان المُسَّلم من القديسين، وفي نفس الوقت يتجاوبون مع إحتياجات التطوير والنمو في الظروف المختلفة.
هذا التطور التنظيمي في الكنيسة هو ما يمكن أن نطلق عليه “العمل المؤسسيinstitutionalization” “، والمقصود به تدبير منظومة الخدمة المتكاملة (الروحية – الرعوية – الإدارية) بشكل مؤسسي يستند الي سياسات ونظم وإجراءات ذات مرجعية كتابية وكنسية جماعية، بحيث لا يتمركز العمل في يد شخص واحد مهما كان موهوباً، ولا تُختزل الكنيسة في وظيفة واحدة مهما كانت مهمة، بل يعتمد العمل علي إجتهاد كل الكنيسة في بناء قدرات الآباء والقادة والخدام للخدمة في إطار هذه المرجعية المؤسسية، وتحت مظلة عمل الروح القدس وقيادة الآباء الرسل وخلفائهم.
وتشكل هذه المباديء “المرجعية والجماعية والمجمعية وعضوية الجسد الواحد والتنوع وتكوين الصف الثاني” المنظور المؤسسي للكنيسة.
كيف أدار الآباء الرسل نمو الكنيسة بشكل مؤسسي ؟ ما هي الملامح التفصيلية للتدبير الكنسي والعمل المؤسسي في كنيسة العهد الجديد؟ هذا ما سنناقشه في الجزء التالي.
ثانياً: ما القصود بالتدبير الكنسي ؟
معني وأهمية “التدبير” في الكنيسة (Oἰκονομία, Oikonomia)
كلمة ” إيكونوميا” كلمة يونانية οικονομία )) تنتمي إلى الأصل: Οίκος (إيكوس) الذي يعني “البيت”؛ وقديما إستخدمت للتعبير عن “إدارة أو تدبير شئون البيت” ثم اتسع إستخدام الكلمة للتعبير عن “إدارة الدولة”، وحديثا نُحتت منها كلمات تشير الي بعض العلوم الحديثة مثل (economy) وهو علم الإقتصاد، و (ecology) وهو علم البيئة.
وقد إستخدمت الايكونوميا ، في العهد الجديد للتعبير عن إدارة بيت الله “الكنيسة” كوكيل عن صاحب البيت (السيد المسيح)، كإستخدام الرسول بولس ، في ” هَكَذَا فَلْيَحْسِبْنَا الإِنْسَانُ كَخُدَّامِ الْمَسِيحِ وَوُكَلاَءِ سَرَائِرِ اللهِ . ثُمَّ يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ أَمِيناً. (1كو 4 : 1 و 2 )؛ ” لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ كَوَكِيلِ اللهِ،…لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ الْمُنَاقِضِينَ ” (تي 1: 7 – 9).
ولذلك خصصت الكنيسة رتبة المُدبر (الإيغومانىس ἡγούμενος أو القمص Hegumen علي مستوي الكنيسة المحلية، والأب الأسقف (الإيبيسكوبوس Επίσκοπος أو الناظر من أعلي Overseer) علي مستوي الإيبارشية، والأب البطريرك πατριάρξ( (Archbishopعلي مستوي الكنيسة الجامعة) لقيادة التدبير في الكنيسة.
* لمزيد من شرح رتب لكنيسة ومعانيها أنظر “كتاب قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض شخصيات كنسية – القمص تادرس يعقوب ملطي” كنيسة مارجرجس سبورتنج. 1985
أيضاً وردت الكلمة اليونانية في (1 كو 9: 17) بمعني “وكالة” ” فَقَدِ اسْتُؤْمِنْتُ عَلَى وَكَالَةٍ”. فالكلمة تعني “وكالة” – تدبير – إدارة –ترتيب مسؤولية –والكلمة بوجه عام تعني “تدبير أهل البيت (Management of a household or family)
التدبير الكنسي هو أحد مواهب الروح القدس لمعاونة الكنيسة علي الإستفادة من كل عطاياه لها “”وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَاداً. فَوَضَعَ اللهُ أُنَاساً فِي الْكَنِيسَةِ: أَوَّلاً رُسُلاً ثَانِياً أَنْبِيَاءَ ثَالِثاً مُعَلِّمِينَ ثُمَّ قُوَّاتٍ وَبَعْدَ ذَلِكَ مَوَاهِبَ شِفَاءٍ، أَعْوَاناً ومدبرين “(1 كو 12: 27 – 28). وجدير بالذكر أن “التدبير” هنا يأتي بعد ذكر المواهب الأخري ليس علي سبيل عدم الأهمية، بل علي العكس، لأنه يفترض أن المواهب المتنوعة تحتاج الي قيادة وتنظيم وتنسسق وضبط، وهذا بالتحديد دور المدبر من أجل تحقيق الغرض الأسمي للكنيسة.
وهذه الموهبة – بالرغم من أنها عطية سماوية، إلا أنها تحتاج الي إجتهاد وتعلم مستمر وإتقان، ولذلك هي محل إلتقاء عمل النعمة مع إجتهاد الإنسان “هَكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ. وَلَكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا: أَنُبُوَّةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيمَانِ .أَمْ خِدْمَةٌ فَفِي الْخِدْمَةِ أَمِ الْمُعَلِّمُ فَفِي التَّعْلِيمِ .أَمِ الْوَاعِظُ فَفِي الْوَعْظِ الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ الْمُدَبِّرُ فَبِاجْتِهَادٍ«(رو 12: 5 – 8).
التدبير إذاً هو قيادة الخدمة orchestration ، والمدبر كقائد الأوركسترا دوره الاساسي هو قيادة العازفين وضبط سرعة الأداء وتناغم كل الألات بحسب النوتة الموسيقية الموضوعة (في إنسجام – تنسيق – هارمونية)، دون الإحتياج أن يعزف هو بنفسه علي كل الآلات.
التدبير أيضاً يشير الي معني الإستفادة من المشيرين والحكماء ” حَيْثُ لاَ تَدْبِيرٌ يَسْقُطُ الشَّعْبُ أَمَّا الْخَلاَصُ فَبِكَثْرَةِ الْمُشِيرِينَ” (أم 11: 14) أنظر أيضاً النص الإنجليزي (NKJ) Where there is no counsel, the people fall: but in the multitude of counsellors there is safety، وفي ترجمة أخري ” يسقط الشعب حيث تنعدم الهداية، وبكثرة المشيرين يتحقق الخلاص” الترجمة التفسيرية كتاب الحياة. وقصة موسي الذي إستفاد من مشورة حميه يثرون تؤكد هذه المعاني (خروج 18: 13- 27 ).
ورسائل العهد الجديد أكدت علي أهمية التدبير الكنسي في مواضع كثيرة: “أَمَّا الشُّيُوخُ الْمُدَبِّرُونَ حَسَناً فَلْيُحْسَبُوا أَهْلاً لِكَرَامَةٍ مُضَاعَفَةٍ، وَلاَ سِيَّمَا الَّذِينَ يَتْعَبُونَ فِي الْكَلِمَةِ وَالتَّعْلِيمِ (ا تي 5: 17) ؛ “وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟” (1تي 3: 5
بإختصار: لأن الإيكونوميا تعني الترتيب والتنظيم والتنسيق لكل أمور الخدمة والخدام وشعب الكنيسة، لذلك فإن دورها جوهري في إنجاح رسالة الكنيسة الروحية والرعوية.
1. ركائز الكنيسة في العصر الرسولي : أين يقع التدبير؟
من أبلغ المشاهد التي أعطت لمحة عميقة عن نشأة الكنيسة وحياتها الأولي ما سجله القديس لوقا في سفر الأعمال “وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ” (أع 2: 42)؛ “وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مُحْتَاجاً لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُولٍ أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ فَكَانَ يُوزَّعُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَكُونُ لَهُ احْتِيَاجٌ (أع 4: 33 – 35)
وبهذا قامت الكنيسة روحياً علي عدد من الركائز الأساسية: الليتورجية (العبادة)– الكينونية (الشركة)- الدياكونية (الخدمة) – الكريجما (الكلمة) – المارتيرية (الشهادة) – الإكونومية (التدبير)؛ وصارت هذه الركائز الرسولية هي مرجعية الكنيسة لتنظيم حياتها وخدمتها في كل زمان ومكان.
و”للتدبير (الإيكونوميا)” موضع محوري في هذه الركائز، إذ يقوم بالتنسيق والترابط بينها من أجل تحقيق أقصي قدر من التناغم والتكامل بين كل مواهب (وزنات) الجسد الواحد، الذي هو الكنيسة.
ولكن كيف إستلم التلاميذ منهج التدبير من السيد المسيح نفسه، وكيف طبقوه في تأسيس وقيادة الكنيسة الأولي؟ هذا ما سنناقشه في الجزء التالي.
2. منهج “التدبير” في خدمة السيد المسيح (تأسيس المنهج المؤسسي)
بالرغم من أن المهمة الخلاصية التي جاء من أجلها السيد المسيح لم يكن ممكناً أن يقوم بها أحد سواه، إلا أنه إستثمر جزء كبير من وقته وخدمته في وضع أسس وقواعد لمنهج بناء وتدبير كنيسته “عَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي” (مت 16: 18)، فكيف دبر السيد المسيح هذ الأمر؟
نتصور أن السيد المسيح إستخدم أربع أدوات أساسية في منهج تدبيره للكنيسة بشكل مؤسسي: إعداد قادة مستقبليين للكنيسة (الرسل الإثني عشر والتلاميذ السبعين) (القيادة)؛ بناء نظم للخدمة (المرجعية)؛ بناء مناخ داعم للنمو الشخصي والجماعي (الإنفتاحية)؛ والعمل كجسد واحد (الوحدانية).
ويُلاحظ أن السيد بدأ بإعداد الخدام القادة، ومن خلالهم ومعهم إستخدم الأدوات الأخري، أي أنه بدأ “بالإنسان” الذي لأجله وُضع “النظام ” (مر 2: 27). وسوف نستعرض كل من هذه الأدوات بإختصار.
بناء قادة الخدام Servant leaders
– دعوة وإختيار التلاميذ الإثني عشر من خلفيات مختلفة (مت 4: 18 -22؛ مت 10 : 1 – 4؛ مر 3: 13 – 19 ؛ ؛ لو 6: 12 – 16).
– توسيع دوائر الخدمة بضم الرسل السبعين (لو 10: 1 – 24) (انظر عدد 11: 16 – 29).
– إستخدام منهج التلمذة والتسليم والتأهيل للتلاميذ والرسل (لو 9: 1 -6؛ ؛ مت 10 : 5 – 42؛)
– تنمية مهارات التفويض وإعطاء الصلاحيات ” وَدَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانً” (لو 9: 1).
– إرساء مبدأ المسؤلية والمساءلة (من أجل المتابعة والتقويم) “وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِدًا إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ” (لو 9: 10)
– تأكيد روح التواضع وإنكار الذات وحمل الصليب كأساس للتلمذة “فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ» “(مر 9: 35).
بناء نظم الخدمة (Systems)
– ما قبل الصعود: ركز السيد المسيح مع التلاميذ في فترة الأربعين يوم من بعد قيامته وحتي صعوده في تأسيس نظم كنيسة العهد الجديد (الكرازة والرعاية) “اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ” (أع 1: 3).
– يوم الخمسين وما بعده: بعد صعوده، أرسل السيد الروح القدس لتوجيه التلاميذ والرسل في إدارة نمو الكنيسة “”وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ” (يو 14: 26)، ووعدهم بأن يبقي معهم ” وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.” (يو 14: 17))
وقد ظهرت بالفعل ثمار هذه النظم بشكل واضح (علي سبيل المثال المنهج الذي إتبعه التلاميذ لحل مشكلة التهود من خلال عقد مجمع أورشليم لمناقشة الأمر “لأَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ …. ” (أع 15: 28).
بناء مناخ داعم للنمو (Supporting environment)
– شجع السيد المسيح تلاميذه علي الحوار البناء “…سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلًا: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالُوا: «قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟….» (مت 16: 13-19)؛
– كما شجع تلاميذه علي وضع حلول لتحديات الخدمة ” “فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا»…. «اجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ». (يو 6: 5-10).
– بل وعدهم السيد المسيح أيضاً بقدرات وإمكانيات عظيمة “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي.” (يو 14:12)
– دعاهم أصدقاء وأحباء ولم يخف عنهم شيئا “لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي” (يو 15: 15)؛ “وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أصدقائي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ.” (لو 12: 4)،
– شجعهم علي عدم الإنغلاق ” فَقَالَ يُوحَنَّا: «يَا مُعَلِّمُ رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ تَمْنَعُوهُ لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا». (لو 9: 49 – 50)
العمل كجسد واحد (Synergy)
“سينرجيا” (συνεργία) كلمة يونانية الأصل معناها “وحدة العمل” أو “التناغم أوالتعاضد أوالمؤآزرة أوتعظيم الأثر” وقد صارت إصطلاحاً لاهوتياً عميقاً يشرح التعليم الأرثوذكسي في كيفية إتفاق النعمة مع الإجتهاد البشري في كل عمل صالح، كذلك تشير الي تعظيم الأثر من تكامل مواهب وجهود الأعضاء في إطار الجسد الواحد. فالمصطلح يتجه الي معنيين: شخصي (إلتقاء العمل الإلهي للنعمة مع الإجتهاد الإنساني) وجماعي (تجانس وتآزر العمل داخل الجماعة). وهذا المعني تجلي بوضوح في أسلوب قيادة السيد المسيح للتلاميذ:
“وَدَعَا الاثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ،” (مر 6: 7).
“يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالًا، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا. (يو 13: 12 – 15).
3. منهج التدبير في خدمة الأباء الرسل (العمل المؤسسي في الكنيسة الأولي)
تتبع التلاميذ نفس منهج معلمهم السيد المسيح في تدبير الكنيسة، فطبقوا نفس المباديء الأربعة في إدارة نمو الكنيسة الأولي (القيادة – المرجعية – الإنفتاحية – الوحدانية).
بناء قادة الخدام (Servant leaders)
أمثلة:
– إختيار وإنتخاب قسوس في كل كنيسة «وَانْتَخَبَا (بولس وبرنابا) لَهُمْ قُسُوساً فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَاسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ الَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ» (أع 14: 23)، .
– تحديد مهام ودرجات الرعاة والخدام الجدد (أساقفة وقسوس وشمامسة وشيوخ وإخوة وأخوات) (أنظر (1 تي 3: 1 – 15 ؛ 1 كو 16: 3؛ 2 كو 8 : 3 – 6 ؛ في 2 : 25 – 30)؛
– إحترام الشيوخ المدبرين ( 1 تي 5: 17 – 22)؛
– دعم الصف الثاني من الخدام (التلمذة والتسليم) (وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاساً أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضاً) 2 تي 2: 2)
– متابعة الرعاة الجدد في كل كنيسة (1 تي 3: 1 – 15 ؛ 1 تي 5: 17 – 22)؛ 2 تي 1 – 3 ، تي 1 : 5 – 9 )؛ 1 بط 5: 1 – 4 ؛ 3 يو 1 – 8 ).
– تشجيع الجميع للخدمة، ويسجل الآباء الرسل أسماء عدد ضخم من الخدام والخادمات الذين كانت لهم أدوار مهمة في دعم الكرازة والرعاية (علي سبيل المثال الزوجان أكيلا وبريسكلا والشماسة فيبي، والأسماء الأخري الكثيرة التي ذكرها القديس بولس في رسالته لأهل رومية (رو 16: 1 – 16).
بناء نظم الخدمة (Service systems)
أمثلة:
– تأسيس خدمات جديدة تلبي إحتياجات طارئة، مثل تأسيس خدمة الشمامسة للرعاية الإجتماعية (أع 6: 1- 8)؛
– وضع منهج لكيفية تعامل الكنيسة مع قضايا لاهوتية خطيرة (مثل مشكلة التهود في مجمع أورشليم في أع 15)؛
– تنظيم العبادة والشركة (مثل تنظيم الأفخارستيا في 1 كو 11: 20 – 34 )؛
– تنظيم خدمة الكهنوت (أع 15: 6 – 12 – أع 15: 22 – 29)
– تنظيم خدمة العطاء (1 كو 16: 1-3 ؛ 2 كو 8: 1 -6)
– وضع قواعد للعقوبات الكنسية (1 كو 5: 4 – 5؛ 2 كو 2: 6 – 8).
بناء مناخ داعم للنمو (supporting environment)
أعطي سفر أعمال الرسل بعض اللمحات التي أوضحت المناخ الذي كان تعيش فيه الكنيسة الأولي، مثل:
في قصة القديس بطرس الرسول وهو يشرح قصة دخول كرنيليوس القائد الروماني في الإيمان، إشارة لقبول كل الأمم في الإيمان؛ “فَإِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَعْطَاهُمُ الْمَوْهِبَةَ كَمَا لَنَا أَيْضًا بِالسَّوِيَّةِ مُؤْمِنِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، فَمَنْ أَنَا؟ أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ اللهَ؟».فَلَمَّا سَمِعُوا ذلِكَ سَكَتُوا، وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ قَائِلِينَ: «إِذًا أَعْطَى اللهُ الأُمَمَ أَيْضًا التَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ!» (أع 11: 17 – 18).
في قصة القديس بولس الرسول وهو يشرح كيف قبلته الكنيسة بعد إيمانه؛ “غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ: « أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلًا، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلًا يُتْلِفُهُ فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ فِيَّ ” (غل 1: 23- 24)
العمل كجسد واحد (Synergy)
” فَمَنْ هُوَ بُولُسُ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ: أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى لَكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ السَّاقِي بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي” (اكو 3: 5 -7 ).
” إِذاً لاَ يَفْتَخِرَنَّ أَحَدٌ بِالنَّاسِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ: أَبُولُسُ أَمْ أَبُلُّوسُ أَمْ صَفَا أَمِ الْعَالَمُ أَمِ الْحَيَاةُ أَمِ الْمَوْتُ أَمِ الأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ أَمِ الْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ وَالْمَسِيحُ لِله” ( 1 كو 3: 21 -23).
“وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ” (2 بط 3: 15).
“وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا” (أع 2: 42).
ثالثاً: المجالات الأساسية للتدبير في الكنيسة
1) ما هي المجالات الثلاثة للتدبير الكنسي ؟
يقدم الكتاب المقدس ثلاثة مجالات أساسية متكاملة للتدبير الكنسي:
أ- التدبير الروحي (Spiritual) (ويركز علي خدمة خلاص نفس كل عضو في الكنيسة وهي الرسالة الأساسية للكنيسة) “ثُمَّ نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَعْرِفُوا الَّذِينَ يَتْعَبُونَ بَيْنَكُمْ وَيُدَبِّرُونَكُمْ فِي الرَّبِّ وَيُنْذِرُونَكُمْ، (1 تس 5: 12)؛
ب- التدبير الرعوي (Pastoral) (ويركز علي خدمة الرعاية الروحية والإجتماعية لكل المجموعات العمرية أو الفئوية المتنوعة في الكنيسة “أَمَّا الشُّيُوخُ الْمُدَبِّرُونَ حَسَناً فَلْيُحْسَبُوا أَهْلاً لِكَرَامَةٍ مُضَاعَفَةٍ، وَلاَ سِيَّمَا الَّذِينَ يَتْعَبُونَ فِي الْكَلِمَةِ وَالتَّعْلِيمِ“، ( (ا تي 5: 17)”)؛ ” مُدَبِّرِينَ أَوْلاَدَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ حَسَنًا، (1 تي 3: 12)”؛
ج- التدبير الإداري (المؤسسي) (Institutional) ويركز علي العمل الإداري والتظيمي في الكنيسة (إستخدام كل وزنات الكنيسة (مواردها المتنوعة) بأسلوب إداري رشيد لتحقيق رسالة الكنيسة الروحية والرعوية). “وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟” (1تي 3: 5).
2) مشهد من سفر الأعمال يوضح تكامل الجوانب الثلاثة للتدبير في الكنيسة الأولي
في قصة تأسيس خدمة الشموسية (أع 6: 1 -8) تظهر الثلاثة مجالات للتدبير بشكل متكامل. فالإحتياج الرعوي لأرامل اليونانيين إستدعي تدخل الرسل الإثنا عشر لتأسيس وتنظيم خدمة جديدة هي خدمة الموائد (تدبير إداري)، حتي ما يتفرغ الرسل لأولوياتهم في الصلاة وخدمة الكلمة (تدبير روحي). وقد اشرك الأباء الرسل جمهور التلاميذ (الشعب) في إنتخاب الشمامسة (مشاركة)، ووضعوا معايير محددة للإختيار (نظام)، وأعلنوا نتيجة الإنتخاب (شفافية)، ثم وضعوا اليد علي الشمامسة السبعة لأعطائهم الشرعية والصلاحية للخدمة (تفويض)، في منظومة متكاملة روحيا ورعويا وإداريا. ولذلك كانت نتيجة هذا التدبير المتكامل هو نمو للكنيسة كما ونوعا، فأثمرت قديسين جدد وشهداء (إسطفانوس).
مغزي دراسة الحالة: في الكنيسة اليوم أيضاً الدوائر الثلاث يجب أن تكون منظومة واحدة متداخلة ومتكاملة – ولا يمكن أن ينجح التدبير الروحي أوالرعوي بدون الإداري – والعكس صحيح.
كما توضح القصة أن الدور الرئيسي للأب المدبر في الكنيسة (الأب الأسقف علي مستوي الإيبارشية، أو الأب الإيغومانوس علي مستوي الكنيسة المحلية) هو تحقيق التوازن والتكامل بين مجالات التدبير المتنوعة داخل الكنيسة مع مراعاة ترتيب الأولويات (قيادة الإكليروس للعمل الروحي والرعوي – وتفويض العمل الإداري للخدام والموظفين) بحيث يضمن إشراك الكل في الخدمة ، بروح «الناظر من أعلي».
3) ما هي الملامح المُمَيزَّة لكل مجال من مجالات التدبير الثلاثة؟
المقصود به: البناء الروحي الداخلي للنفس الواحدة (أساس خدمة الكنيسة إذ تبدأ بالولادة الجديدة للعضو الجديد (المعمودية) ثم التنشأة الروحية المستمرة لهذا العضو (الأسرار الكنسية والحياة الروحية الشخصية) ثم الخدمة الفردية المستمرة.
بؤرة الإهتمام: التدبير الروحي يهتم بالنفس الواحدة؛ أبوة وإرشاد وشركة في الجهاد الروحي، ولذلك هو الشغل الشاغل للأب الكاهن وهو يشغل النصيب الأكبر من وقته وجهده لأنه من خلاله يمارس دور الأبوة الفريد والذي يميز الكهنوت – كذلك هو أولوية كل خدمة روحية تقدم في الكنيسة، وهو غرض كل خادم روحي في الكنيسة. التدبير الروحي إذاً هو الدور الكرازي الخلاصي للكنيسة.
شعاره: مُنْذِرِينَ كُلَّ انْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ انْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ انْسَانٍ كَامِلاً فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (كو1: 28).
دعائمه (في المنهج الأرثوذكسي):
– العبادة (العلاقة الشخصية مع الله – حياة التوبة المستمرة – الحياة الباطنية – الحياة الكنسية/السرائرية الأرثوذكسية)
– النهل من منابع النعمة (الإفخارستيا – الكلمة – الصلاة – الصوم – العطاء – إلخ)
– التلمذة الروحية (البنوة لأب الإعتراف، والإسترشاد الروحي علي فكر الآباء)
– الخضوع للقانون الروحي (في العبادة والخدمة)
– الإستقامة الداخلية (التدقيق والإنضباط الروحي للنمو والثمر وتجنب العثرات)
– المثابرة لأجل جعالة الدعوة العليا – النمو المستمرفي النعمة
مردوده يظهر في حياة التقوي الداخلية (للعضو) والتي تنعكس علي سلوكه وشهادته للمسيح في الأسرة والكنيسة والمجتمع؛ كذلك تنعكس علي مصداقيته كنور حقيقي في العالم. ثمر التدبير الروحي إذاً هو” فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ ” (في 2: 15)
لذلك هذا المردود هو مؤشر حساس لمدي نجاح الكنيسة في تدبيرها الروحي. بمعني أنه إذا إفتقدت الكنيسة لسلوكيات المحبة وإنكار الذات والنقاوة وسط أعضائها، وإستشرت أنماط السلوكيات المنحرفة والمعوجة والملتوية فيهم كأهل العالم، وجب عليها أن تراجع مدي جديتها وإخلاصها في التدبير الروحي لأعضائها.
“الأبوة”
هي جوهر خدمة الكهنوت؛
لذلك لا عجب أن تكون أكبر حرب تواجه الكنيسة
هي إما أن “ينشغل الأب عن إبنه”
أو أن “يتشككك الإبن في أبيه”.
وهذان الحربان مرتبطان ببعضهما!
المقصود به: رعاية مجموعات الشعب العمرية والفئوية المتنوعة داخل الكنيسة (الخدمات الروحية والإجتماعية والتنموية)؛ كذلك هو يمتد الي المجتمع (الدور المجتمعي للكنيسة) من خلال خدمات التعليم والصحة التي قد تقدمها الكنيسة لخدمة كل المجتمع – التدبير الرعوي هو الدور الأسري والمجتمعي للكنيسة (إذ من خلاله تخدم كل إنسان وكل الإنسان في الكنيسة).
بؤرة الإهتمام: المجموعات النوعية داخل الكنيسة لتلبية الإحتياجات المتنوعة للشعب كمجموعات عمرية (أطفال – فتيان – شباب – مسنين) أو فئوية (الأسرة – الأسر حديثة التكوين – السيدات – العمال والحرفيين – ذوي الإحتياجات الخاصة – إخوة الرب الأصاغر – الأرامل – الأيتام – إلخ). التدبير الرعوي هو إذاً الحقل الواسع والمتجدد للدور القيادي للأب الكاهن… ويشغل النصيب الثاني في وقته وأولوياته (بعد التدبير الروحي). وهو عمل كتائب الخدام في كافة أنواع الخدمة بالكنيسة. التدبير الروحي والرعوي وجهان لعمله واحدة: فرعاية الجماعة تنصب في النهاية علي العضو، والعكس صحيح.
شعاره: ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّاراً، لاَ عَنِ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاِخْتِيَارِ ” (1 بط 5: 2)؛ “لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً، يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ.” (” (1 بط 4: 10)
دعائمه: : خدمة الرعاية الجماعية المتكاملة holistic ministry : التي تشمل علي سبيل المثال لا الحصر:
– خدمات الليتورجيا والعبادة الجمهورية (القداسات والعشيات والتسبحة، إلخ)
– التعليم الديني: خدمة المنبر في القداسات والعشيات والنهضات لتسليم وشرح الإيمان والعقيدة الأرثوذكسية والحياة الكنسية والسهر علي سلامة التعليم في الكنيسة؛
– التكوين الكنسي : التربية الكنسية ومدارس الأحد – إجتماعات الشباب – إجتماعات درس الكتاب – إلخ؛
– إعداد الخدام الكنسيين وتشجيع التكريس بأشكاله المتنوعة؛
– الرعاية الروحية لمجموعات الشعب: الإفتقاد الروحي للأسر– زيارات البيوت – النهضات الروحية – المؤتمرات الروحية – العبادة والشركة – الخدمات الطقسية والأسرار – إلخ
– الأنشطة التكوينية للأطفال و للشباب (مثل الكشافة المسيحية – نادي الكنيسة – الأنشطة الصيفية)؛
– برامج رعاية الأسرة والمشورة الأسرية (وخدمة الأحوال الشخصية )؛
– الأنشطة الترفيهية والرحلات الروحية والإجتماعية الجماعية (لإنماء روح الشركة بين الشعب)
– الخدمات الإجتماعية للفئات النوعية المختلفة داخل الكنيسة (ذوي الإحتياجات الخاصة – المسنين – الأيتام – أسر المسجونين إلخ)
– الخدمات والمشروعات الكنسية التنموية وتطوير خدمة إخوة الرب من الإحسان الي التنمية البشرية والمجتمعية ولكل شعب الكنيسة و المجتمع بالتعاون مع الجمعيات الأهلية (مثل: مستوصف – مستشفي – حضانة – مدرسة – مشغل – تأهيل الشباب لسوق العمل – توظيف المتعطلين، إلخ)
مردوده: إرتباط الشعب بالكنيسة وعضويته الفعالة، مما ينعكس علي نمو العضوية الكنسية والنمو الكمي في شعب الكنيسة ونمو موارد الكنيسة البشرية والمالية والمادية، وبالتالي نمو أنشطتها (في تأثير متبادل). ثمر التدبير الرعوي «فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ»(أف 2: 19)
لذلك هذا المردود هو مؤشر حساس لمدي نجاح الكنيسة في تدبيرها الرعوي. بمعني أنه إذا شعرت بعض المجموعات أنها غريبة داخل كنيستها ولم تشعر بإهتمام وإحتضان الكنيسة، وبالتالي تسربت من الكنيسة، وجب علي الكنيسة أن تراجع مدي جديتها وإخلاصها في التدبير الرعوي لأعضائها.
الكنيسة المثمرة والنامية
هي الكنيسة التي تنجح في إنخراط كل شعبها كخدام بعضهم لبعض وللمجتمع.
لذلك أجمل شعار ممكن أن تتبناه كنيسة ما هو
(كل شعب كنيستي خادم)
المقصود به: تنظيم وإدارة الموارد اللازمة للخدمة (بشرية – مالية – مادية – معلوماتية) في إطار منظومة متكاملة (نظم – لوائح – إجراءات وسياسات للعمل). التدبير الإداري هو العمل التنظيمي المؤسسي في الكنيسة.
بؤرة الإهتمام: الكنيسة كمؤسسة روحية، تنظيماً وتطويراً وإنماءً. وهذا هو مجال عمل مجلس الكنيسة واللجان النوعية والمتخصصين من خدام وشعب الكنيسة بتشجيع ومباركة الأباء الكهنة، دون أن ينزلق الكاهن في الأعمال الإدارية التي تشتت جهده وتهدر وقته وطاقته علي حساب التدبير الروحي والرعوي اللذان يمثلان الأولوية القصوي بالنسبه له.
شعاره: «هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَاراً» (نح 2: 17) ففيه شحذ لطاقات كل الشعب (كلٌ بحسب وزنته وموهبته) في خدمة الجسد الواحد (الكنيسة).
دعائمه: تطبيق منهج الإدارة (تخطيط – تنفيذ – متابعة وتقويم) للأنشطة والموارد المتنوعة في الكنيسة، وإعمال مباديء الإدارة الرشيدة أو الحوكمة (governance). وتشمل مجالات الإدارة ما يلي:
– إدارة الموارد البشرية (تعيين الإداريين والموظفين والعمال بالكنيسة – إدارة المتطوعين والإستشاريين من القانونيين والمهندسين والمحاسبين إلخ). ونظام إدارة الموارد البشرية يجب أن يشمل أيضاً الإشراف – تقييم الأداء – التدريب الأولي والتدريب المستمر – تنظيم المكافآت والـتأمينات – التحفيز – التفويض – إلخ
– إدارة الموارد المالية (إدارة الأصول السائلة والتدفق النقدي وميزانيات الكنيسة لتغطية المصروفات الثابته والموسمية – وجمع التبرعات لمشروعات الكنيسة الخدمية والتنموية وخدمة إخوة الرب– إدارة وتنمية موارد الكنيسة المالية وإعداد التقارير المالية – إلخ)
– إدارة الموارد المادية (إدارة وصيانة مبني ومرافق الكنيسة – العقارات وبيوت خدمات الكنيسة – بيوت ومراكز المؤتمرات – دور المسنين – دور الحضانة – إدارة أصول الكنيسة – إدارة مشروعات البنية التحتية في الكنيسة من تجديد وتوسيع المباني وشراء أراضي جديدة للخدمات – إلخ)
– إدارة المعلومات (إدارة العضوية الكنسية – سجلات الكنيسة – وثائق الكنيسة)
– إدارة المشروعات الإنتاجية والتنموية والخدمية في الكنيسة والتي تدر عائد يسند الخدمة
– إدارة علاقات الكنيسة مع جيرانها في الحي أو المجتمع المحيط وتمثيل الكنيسة أمام الجهات الإدارية
– تخطيط وتهديف الخدمات الإدارية ومتابعتها وتقييمها بإستخدام النظم واللوائح والسياسات والإجراءات المتنوعة التي وضعتها.
ولاشك أن تطوير أداء الكنيسة في هذه المجالات الهامة يتطلب كوادر متخصصة من شعب الكنيسة من الأعضاء الأتقياء الأكفاء الذين يختارهم الأباء الكهنة وأمناء الخدمة ويشجعونهم علي التطوع ويفوضوهم ويمكِّنوهم من القيام بأدوارهم الفنية المتخصصة لحساب مجد المسيح ونمو الكنيسة (1 بط 4: 10). ودور “المعهد القبطي للتدبير الكنسي والتنمية” هو تقديم التدريب والدعم الفني لمساعدة الكنيسة في بناء هذه الكوادر.
مردوده: الإستفادة من الخبراء والمهنيين من أعضاء الكنيسة – توفير وقت وطاقة الآباء الكهنة للعمل الروحي والرعوي – حسن إستخدام موارد الكنيسة بشكل علمي محترف، وتنمية هذه الموارد بشكل مستمر. الثمر هو أن تصبح الكنيسة نامية ومثمرة «الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ” (أف 2: 20)
لذلك هذا المردود (نمو موارد الكنيسة البشرية والمالية والمادية) هو مؤشر حساس لمدي نجاح الكنيسة في تدبيرها الاداري. وإذا عانت الكنيسة من تدهور في الخدمات المقدمة وحسن إدارة للموارد والمشروعات، وغياب دور حقيقي وفاعل لمجلس الكنيسة في هذه الأمور، وجب علي الكنيسة أن تراجع مدي نجاحها في تدبيرها الإداري.
أكبر خطر يهدد خدمة الأب الكاهن
هو أن يتشتت وقته وجهده وأولوياته في أعمال إدارية أو مالية أو في إدارة مشروعات الكنيسة الإنشائية أو الخدمية أو الإنتاجية
(والتي تكون عادة علي حساب خدمته الروحية والرعوية الأساسية)؛
لكن بالأحري يجب أن تكون هذه الأعمال مسؤلية مجلس الكنيسة واللجان المتخصصة من الخدام الأمناء الأكفاء في مجالاتهم.
4) ما العلاقة بين مجالات التدبير الثلاثة؟
لا يمكن أن ينجح أحد مجالات التدبير بدون الآخر؛ فالتدبير الرعوي مثلاً يجب أن يتم لهدف روحي وبتنظيم إداري جيد؛ كذلك التدبير الإداري يجب أن يحقق الهدف الرعوي لخدمات الكنيسة المتنوعة من أجل تحقيق رسالتها الروحية، وهكذا. فالثلاث دوائر متداخلة ومتكاملة.
التدبير الكنسي الثلاثي المجالات يساعد علي تحقيق رسالة الكنيسة تجاه كل إنسان: فالكنيسة تجدد طبيعته بوسائط النعمة (من خلال التدبير الروحي)، وترعاه وتنميه بالعضوية والشركة العاملة (من خلال التدبير الرعوي)، وتمكنه من إستخدام وزناته وإشراكه في الخدمة (من خلال التدبير الإداري).
وهذه العلاقة المتوازنة بين الدوائر الثلاث هي ما يسبغ خصوصية الكنيسة ككيان روحي يعمل بشكل مؤسسي. ودور المدبر الرئيسي هو تحقيق التوازن والتكامل بين مجالات التدبير المتنوعة بروح «الناظر من أعلي» .
“التدبير الكنسي” إذاً هو إجتهاد قيادة الكنيسة (المدبر) لتحقيق أعلي قدر من التكامل والترابط والتجانس (السينرجي) بين مجالات التدبير الثلاثة داخل كنيسته.
التدبير الكنسي فيما يهتم بالعمل المؤسسي هو يحمي الكنيسة من “الفردية” (عرض الرجل الأوحد one man show ) ومن “الإنفرادية” بكل السلطات والمسؤليات والأدوار؛ الأمر الذي يتنافي مع جوهر الكنيسة في الفكر الإرثوذكسي كجسد واحد متنوع الأعضاء والمواهب وبالتالي متعدد المسؤليات والأدوار.
5) ما هو الترتيب الأمثل للجوانب الثلاثة في التدبير؟
رأس الكنيسة وغايتها هو السيد المسيح “وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ (أف 1:22).
وغاية الكنيسة هو “إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ (أف 4: 13). ولذلك يأتي التدبير الروحي علي قمة أولويات وإهتمامات الكنيسة، لإربتاطه بالهدف الأسمي للكنيسة “نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ النُّفُوسِ” (1 بط 1: 9).
ولذلك التركيز علي التدبير الرعوي والإداري (دون الروحي) يحول الكنيسة من مؤسسة روحية الي مؤسسة إجتماعية، ويؤدي الي ضعف الكنيسة؛ كما أن التركيز علي الروحي فقط وإغفال الرعوي والإداري يحرم الشعب من الرعاية المُنظمة التي يحتاجها.
6) كيف يتم توزيع الأدوار في تدبير الكنيسة ؟
الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة شعبية؛ فهي تتكون أساسا من شعب (أو عائلة كبيرة بالمعني الروحي) كلهم من المؤمنين المولودين من بطن المعمودية، يرشحون شخصاً (أو أكثر) للتكريس الكهنوتي ليكون أباً لهم، والذي بعد نواله نعمة الكهنوت، ومن خلال أبوته يشجع خداما وخادمات جُدد للمشاركة في مواقع خدمات متنوعة في الكنيسة، روحية ورعوية وإدارية، مثل الشموسية – التربية الكنسية – شباب – إخوة الرب – أنشطة – مجلس الكنيسة – لجان نوعية متخصصة (في الهندسة والعمارة – لجنة طبية – لجنة قانونية – إلخ)، ويسعي علي المدي المنظور أن يُرشِّح – مع الشعب – كهنة جدد يشاركونه الخدمة.
وبقدر ما تنمو الخدمة ويتزايد عدد الآباء والخدام في هذه الكنيسة بقدر ما تتسع هياكل المشاركة فيها: فالأباء الكهنة يشكلون معا مجمع الأباء الكهنة، والخدام الذين يشاركون في قطاعات الخدمة المتنوعة يشكلون معا أمانة قطاعات الخدمة، أما خدام المشروعات الخدمية والأمور الإدارية والمالية في الكنسية فيشكلون معا مجلس الكنيسة الذي يشرف أيضاً علي الموظفين. ويمد الشعب هذه الهياكل بأعضاء جدد بإستمرار.
وتصبح هذه الهياكل الثلاثة الرئيسية – والتي تخدم الشعب وتتغذي منه – هي الكنيسة في صورتها الكاملة الحية: ويتولي الإكليروس القيادة والأبوة الروحية في الكنيسة من خلال مجمع الآباء الكهنة تحت رئاسة أقدمهم في الكهنوت، الذي عادة ما يكون الأب الإيغومانوس (القمص)، ويخضع الجميع للأب الأسقف، وتحت رئاسة الأب البطريرك.
* تشرح الدسقولية ترتيب أدوار ومسئوليات الإكليروس بالتفصيل
وهذا الشكل المؤسسي للكنيسة (هياكل مشاركة في تدبير الكنسية) يحقق للكنيسة توزيع واضح للأدوار، تعظيم الإستفادة من كل الطاقات، إستثمار لوزنات الكنيسة ومواهب أعضائها – كلٌ في مجاله – ويثمر عن كنيسة مهدفة ومثمرة ونامية . فما هي هذه الأدوار؟
دور مجمع الأباء الكهنة: التدبير الروحي (خدمة خلاص نفس كل عضو في الكنيسة)؛ هذه الخدمة التي هي أساس ورأس خدمة الكنيسة وسبب وغاية وجودها. والتدبير الروحي يشكل 60% علي الأقل من وقت الأب الكاهن لكي يمارس دوره الجوهري في الليتورجيا وخدمة الأسرار الكنسية والأبوة والإفتقاد والتلمذة والإرشاد الروحي وقبول الإعترافات والمتابعة الروحية لأولاده وتشجيع التكريس. هذا الدور هو المسؤلية الأولي لمجمع الآباء الكهنة.
* أنظر لائحة الأب الكاهن – المجمع المقدس 2013
دور أمانة قطاعات الخدمة: التدبير الرعوي (خدمة الإحتياجات الرعوية المتعددة للشعب كمجموعات نوعية: عمرية وفئوية) يقوم به جيش من الخدام والخادمات في الكنيسة تحت الإشراف والقيادة الروحية للأباء الكهنة. ودور الأب الكاهن هنا هو القيادة الروحية والتوجيه الإستراتيجي للخدام وحراسة الإيمان والتعليم، وتكوين كوادر من أمناء الخدمة الذين يتولون إدارة الخدمة بشكل يومي، دون أن يستغرقوا الآباء معهم في إدارة التفاصيل اليومية للخدمة. وبالتالي التدبير الرعوي لا يجب أن يشكل أكثر من 30% من وقت الكاهن.
دور مجلس الكنيسة: التدبير الإداري (التركيز علي إدارة مرافق ومشروعات الكنيسة الخدمية الحالية والمستقبلية، مالياً وإدارياً وتكنولوجياً وقانونياً). ومن الضروري أن يتم إختيار أعضاء المجلس بمعرفة الأباء الكهنة بحيث يحقق مزيج من الأراخنة الأتقياء ذوي الخبرة، والخدام المتخصصين في هذ الأمور والمستعدين لبذل الوقت والجهد والخبرة في هذه الخدمة، مع تمثيل للشباب والخدام والمرأة، في تعاون وإحترام كامل للآباء وقطاعات الخدام . كذلك من الضروري أن يتم تفويض وتمكين المجلس ليقوم بدوره علي أكمل وجه في ضوء خطة عمل يضعها المجلس ويعتمدها أباء الكنيسة، علي أن يقدم المجلس كشف حساب وكالته لمجمع الأباء الكهنة ولكل الكنيسة بشكل دوري. ويستعين المجلس بلجان فنية متخصصة من شعب الكنيسة. وفي ضوء هذا الترتيب، لا ينبغي أن تشغل الأعمال الإدارية والمالية أكثر من 10% من وقت الكاهن،
* أنظر لائحة مجالس الكنائس التي أصدرها المجمع المقدس في 2014 والتي تشرح بالتفصيل المهام المطلوبة من المجلس في التدبير الإداري للكنيسة
ومن المهم في الكنيسة بناء كوادر الخدام القادرين علي المشاركة الإيجابية في هذا التدبير الثلاثي (كلٌ في مجاله). وهذا الأمر (تشجيع الجميع علي المشاركة في الخدمة) هو أحد المسئوليات الأساسية للاباء الكهنة.
7) من المسؤول عن نجاح التدبير في الكنيسة؟
تقع مسؤلية قيادة التدبير في الكنيسة أساسا علي الأب الأسقف أو الاب الإيغومانوس، إلا أن نجاح التدبير هو مسؤلية كل أعضاء الكنيسة، من خلال العضوية الحية والشركة الحقيقية لكل عضو في كل مناحي الحياة والخدمة الكنسية، كلً بحسب وزنته وطاقته. ومن المهم جداً إدارك جميع أعضاء الكنيسة (من الإكليروس والخدام والشعب) هذه الحقيقة.
ومن الأمور التي تساعد علي إنجاح التدبير الكنسي في الكنيسة هو تشجيع “التكريس الخادم” بأشكال وصور جديدة وغير تقليدية، بما يوسع دوائر الخدمة ويجتذب أعداد ونوعيات متميزة من الخدام والخادمات الجدد. ويمكن تغطية الإحتياجات المعيشية للمكرسين من خلال صندوق خاص علي مستوي الإيبارشية.
* من الضروري عمل دراسة خاصة لفكرة “التكريس الخادم” ومنهجه وأشكاله ومجالات خدمته واساليب تمويله.
كذلك نجاح التدبير الكنسي يحتاج وجود مناخ داعم يساعد علي إكتشاف وتشجيع وتشغيل كل طاقات شعب الكنيسة من خلال هياكل المشاركة المتنوعة بحيث يكون “كل شعب الكنيسة خادم”، وهو شعار صحيح وجليل. وبذلك تصبح كل الكنيسة جسد حي فعال، وخلية عمل متنامي لحساب الملكوت.
وهذا “المناخ الداعم” هو أحد المسئوليات الأساسية للأب الروحي الذي يقود التدبير في الكنيسة، ويستلهم فيه نموذج السيد المسيح والأباء الرسل في التدبير (الذي سبق شرحه في الجزء السابق).
8) ما هي تحديات التدبير الكنسي وكيف تتعامل معها الكنيسة ؟
بتحليل الوضع الراهن في عدد من الكنائس التي شاركت في البرامج التدريبية التي يقدمها المعهد القبطي للتدبير الكنسي تبين أن كثير من الكنائس تعاني من الآتي:
– زخم هائل من الأنشطة الرعوية، لكن علي حساب العمق الروحي، مع ضعف الجوانب الإدارية والتنظيمية في تدبير الكنسية، وغياب البُعد المؤسسي في تدبير الخدمة.
– إنفصال التدبير الروحي عن الرعوي عن الإداري، نتيجة لضعف التواصل بين قطاعات الخدمة وبين هياكل المشاركة، مما يؤدي الي تكرارية في الأنشطة وضعف تأثيرها، وبالتالي قلة الثمر.
– نقص عدد ونوعية الخدام الذين يمكن الإعتماد عليهم في الخدمات الرعوية والإدارية، مما يثقل الآباء الكهنة للقيام بكل الأدوار (التدبير الروحي والرعوي والإداري) ويشتت جهودهم علي حساب التدبير الروحي.
الوضع المنشود:
التوازن بين المجالات الثلاثة علي مستوي الكنيسة الواحدة؛ مع الترتيب الصحيح للأولويات لدي الأب الكاهن، الخدام، ومجلس الكنيسة، بحيث كلُ يركز في دوره الأساسي، من أجل تحقيق رسالة الكنيسة في كل عضو فيها (كنيسة مهدفة مثمرة نامية)
الوضع المثالي:
في الكنيسة: كل عمل روحي يكتمل بنشاط رعوي فعال، وتنظيم إداري مهدف؛ وكل نشاط رعوي يكتمل بعمل روحي قوي، وتنظيم إداري مهدف، وكل تنظيم إداري له هدف روحي ورعوي، لتحقيق رسالة الكنيسة الخلاصية لكل إنسان.
ولاشك أن الوصول الي الوضع المنشود والمثالي هو رحلة طويلة في كل إيبارشية وكل كنيسة محلية يقودها الآباء المدبرون، وتتطلب الآتي:
– رؤية واعية من الأب المدبر يشاركه فيها كل الآباء وكل قيادات الخدمة.
– الإستثمار في الشبيبة والشباب، في جميع مراحله وأنواعه، من أجل دعوة وإختيار أكبر عدد منهم في صبر ومثابرة و لتشمل التنوع والإستيعاب.
– إعداد وتدريب مستمر لكوادر الخدام كقادة للمستقبل، وتشجيع التكريس الخادم.
– توسيع دوائر ومجالات الخدمة في الكنيسة لتحتضن الجميع (من كل المراحل العمرية والفئوية)، كلٌ بحسب دعوته ووزنته.
وقبل هذا كله وبعده العمل الفردي المستمر الممسوح بالنعمة، تحت مظلة الصلاة وبقوة المذبح.
رابعاً: كيف تخدم الكنيسة “كمؤسسة روحية مهدفة ومثمرة ونامية “؟
للإجابة علي هذا السؤال، سوف نبدأ اولاً بتوضيح معني مصطلح “المؤسسة” من الناحية العلمية ، ثم نحاول أن نتبين خصوصية العمل المؤسسي في الكنيسة كمنظومة خدمة روحية ذات طبيعة خاصة.
ما المقصود “بالمؤسسة” ؟
من الناحية العلمية، يمكن تعريف “المؤسسة“، في أبسط صورها، أنها “مجموعة من الأشخاص لهم رؤية وأهداف مشتركة ويعملون معاً بشكل منظم لتحقيق هذه الرؤية”. “Performance Enquiry of non-governmental organizations in primary health care “
فوحدة المؤسسة إذاً (unit) هي الأشخاص الذين ينتمون اليها، ويجمعهم حلم (رؤية) مشتركة، وتربطهم علاقات عمل في تناغم وتكامل من خلال نظم وقواعد وقوانين مرجعية تنظم عملهم، من أجل تحقيق أهداف المؤسسة.
وأي مؤسسة تقوم علي بناء داخلي (أو بيئة داخلية)، كما تتأثر بالواقع الذي تتواجد فيه (أو البيئة الخارجية).
* أنظر شرح تفصيلي للإطار النظري للعمل المؤسسي في المنظمات غير الهادفة للربح في كتابنا
البيئة الداخلية هي الأعمدة الأربعة التي يقوم عليها البناء الداخلي للمؤسسة. وهذه الأعمدة الأربعة تجيب علي أربعة أسئلة جوهرية تقدم بها المؤسسة نفسها للعالم:
1- من أنا ؟ (اي الهوية التي تميزها)
2- ماذا أملك ؟ (اي الموارد والإمكانيات التي تملكها)
3- ماذا أفعل ؟ (الخدمات التي تقدمها)
4- كيف أفعله ؟ (الأدوات التي تعمل بها، أي أسلوب القيادة والإدارة الذي تتبعه).
وغياب أي عمود من هذه الأعمدة يُعطِل المؤسسة عن تحقيق غايتها، وقد يؤدي علي المدي البعيد إلي ضعفها ومن ثَمَّ تفككها وإنحلالها.
وفي نفس الوقت تتأثر المؤسسة بالبيئة الخارجية المحيطة بها، والتي تتشكل من الواقع الإجتماعي والثقافي والتكنولوجي والإقتصادي والقانوني والسياسي الذي يحيط بهذه المؤسسة.
وجدير بالذكر أن أي مؤسسة هي كيان حي متفاعل، بمعني أنه يتطور بإستمرار عبر الزمن، وقدرته علي التطوير المستمر هي علامة علي حيويته وشرط لبقائه وإزدهاره؛ فعبر الزمن:
– “الهوية” إما تتعمق أو تذوب؛
– “الموارد” إما أن تنمو أو تنضب؛
– “الخدمات” إما أن تتطور أو تتدهور؛
– “الأدوات” إما أن تكون ممنهجة أو عشوائية.
ولا يمكن فصل عناصر البيئة الداخلية عن بعضهم البعض: فمثلاً: كلما تعمقت هوية المؤسسة في نفوس أعضائها، كلما زادت رغبتهم وقدرتهم علي جذب وتعبئة موارد إضافية للمؤسسة؛ وكلما زادت موارد المؤسسة، زادت قدرتها علي التوسع في تقديم خدماتها وتطويرها؛ وهذا التوسع بدوره سيستدعي المؤسسة أن تستخدم أساليب علمية ممنهجة في القيادة والإدارة حتي ما تستطيع أن تواكب الإنتشار المطلوب.
وهذا التفاعل الحي والإيجابي يساعد المؤسسة علي الإستمرار رغم كل التغيرات أو التحديات أو الصعاب التي تواجه المؤسسة عبر حياتها الممتدة.
دورة حياة المؤسسة
من الناحية العلمية في أدبيات التطوير المؤسسي، لكل مؤسسة دورة حياة (life cycle). بعض الدارسين يشبهونها بمنحني النمو (علي شكل حرف S). فهي تبدأ بمرحلة النشأة والتأسيس بطيئة وهادئة وعميقة، ثم تدخل الي مرحلة النمو والنضوج المتسارع حيث تكتسب خبرات كثيرة في مجال عملها وتؤتي بثمار كثيرة، ثم تدخل الي مرحلة الإستقرار والإستمرار إذ تتأصل قيمها وتترسخ وتتمنهج أساليبها وأدواتها وتنضج برامجها وأنشطتها.
إلا أن هذه المرحلة الثالثة في عمر المؤسسات تواجه خطر التوقف عن النمو ومن ثم التدهور والإنحدار، الذي قد يؤدي الي مرحلة الأفول والإنهيار إذا لم تستطع المؤسسة أن تقوم بعملية تطوير مؤسسي لتجديد رسالتها وتطوير برامجها وتحديث أساليبها لتواكب الإحتياجات الجديدة وتحديات العصر. فالمؤسسة “كالكائن الحي” في حالة حركة دائمة، إن لم تكن للأمام ولأعلي حتماً ستكون الي الخلف ولأسفل، إذ أن الركود والسكون يعني الموت.
ولكن هل الأوصاف عاليه تنطبق علي الكنيسة أيضاً كمؤسسة؟ وهل تواجه الكنيسة أخطار الركود والسكون ؟ هل تحتاج الكنيسة الي تطوير مستمر في برامجها وأدواتها؟ هذا ما سنناقشه في الجزء التالي.
خصوصية الكنيسة كمؤسسة روحية (منظومة جسد واحد يعمل بشكل مؤسسي)
المنظور المؤسسي للكنيسة يساعدنا علي فهم منظومة العمل داخل جسد الكنيسة الواحد بشكل علمي وعملي أعمق. فالكنيسة هي كيان روحي (جسد المسيح الممتد عبر الزمن وعبر السماء والأرض) ولكن يعمل بشكل مؤسسي (مركب الأعضاء في تآزر وتكامل وتنظيم بديع)؛ هي جسد حي بالروح ومركب الأعضاء ومتعدد الوظائف وفي حالة حركة ونمو مستمر رغم كل التحديات الداخلية والخارجية – وهذان البعدان: الروح القدس (العامل فيها بالنعمة) والعمل المؤسسي المنظم (لمؤسسة) يعطيان للكنيسة خصوصيتها.
وقد عبر بولس الرسول عن طبيعة الكنيسة “جسد المسيح” في رسالته الي أهل أفسس والتي تمثل أجمل وأعمق ما كتبه الرسول عن الكنيسة.
“الَّذِي مِنْهُ (من المسيح) كُلُّ الْجَسَدِ (الكنيسة) مُرَكَّباً مَعاً (التنظيم الداخلي)،
وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ (هياكل المشاركة)،
حَسَبَ عَمَلٍ (قيمة ودور كل عضو)، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ (النمو الشخصي لكل عضو)،
يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ (النمو الجماعي للكنيسة ككل)
لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ (الغاية الروحية للكنيسة كجسد واحد”
(أف 4: 16)
فالكنيسة في حقيقة الأمر هي كائن حي (organism) قبل أن تكون كيان منظم (organization)، وصفه القديس بولس في وصف رائع:
” الَّذِي فِيهِ (في المسيح) كُلُّ الْبِنَاءِ (الكنيسة أو جسد المسيح)
مُرَكَّباً مَعاً (التنظيم والترتيب المؤسسي)
يَنْمُو (التطور المستمر في الكنيسة) هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ”
(أف 2: 21).
وهذا “البِنَاء المُركَّبْ مَعاً” (الكنيسة كمؤسسة روحية) يقوم أيضاً علي أربعة أعمدة:
هوية الكنيسة: وتتأسس علي:
نشأتها وجذورها الرسولية (الإيمان المسيحي والعقيدة الأرثوذكسية)؛
رؤيتها ورسالتها وأهدافها (المستمدة من فكر المسيح)؛
القيم الجوهرية والمبادئ المرجعية (الكتاب المقدس – التسليم الرسولي – تعليم الآباء)؛
التراث القبطي والحياة الكنسية الأرثوذكسية: الليتورجة – اللغة –اللحن – الفن – العمارة – إلخ)؛
الثقافة القبطية والإنتماء الوطني (الكنيسة القبطية أقدم مؤسسة مصرية وطنية عبر الأجيال).
وزنات (الموارد) الكنيسة (الإمكانيات التي أعطيت للجسد الواحد): وهي تشمل:
موارد بشرية (إكليروس – خدام – موظفين – شعب)
مالية (عشور- بكور- نذور- منح – ودائع – إلخ)
مادية (مرافق – مباني –أصول ثابتة – إلخ)
معلوماتية (مثل قواعد البيانات عن العضوية الكنسية أو كشوف لإخوة الرب (تحليل وتحديث البيانات)
تقنية (التخصصات الفنية المتنوعة الموجودة في الكنيسة)
خدمات الكنيسة التي تقدمها لشعبها: وهي تشمل:
الخدمات الروحية والرعوية (مثل الليتورجية وخدمة الأسرار – الإجتماعات والمؤتمرات والتربية الكنسية إلخ..)؛
الخدمات الإجتماعية لفئات شعب الكنيسة
المشروعات الكنسية ذات الطبيعة المجتعية (مثل مستوصف – مستشفي – حضانة – دور مسنين – دور إيواء – مراكز مؤتمرات ورياضة روحية – مباني الخدمات – إلخ)
برامج التنمية البشرية والمجتمعية (مثل برامج التعليم والصحة وتنمية الدخل )
الأدوات التي تستخدمها الكنيسة في القيادة والإدارة الرشيدة: وتشمل:
أسلوب القيادة والإدارة والترتيب الكنسي،
الهياكل التنظيمية (هياكل المشاركة في الخدمة علي كافة المستويات)،
صناعة وإتخاذ القرارات التنظيمية للخدمة (التدبير الحكيم أو الإدارة الرشيدة)،
أساليب وأدوات التواصل الداخلي في الكنائس،
إدارة العلاقات الخارجية والتعاون والشراكة مع المؤسسات غير الكنسية،
– كيفية إدارة الأزمات التي قد تواجه الكنيسة (داخليا أو خارجياً)،
– النظم واللوائح والإجراءات (مثل اللوائح التنظيمية للخدمة التي أصدرها المجمع المقدس).
ولا شك أن تغيرات البيئة الخارجية التي تحيط بالكنيسة (إجتماعيا وثقافيا وتكنولوجياً وإقتصاديا وسياسياً) تشكل تحديات (مثل تيارات العولمة والإلحاد واللادينية واللاطائفية والعنصرية والتطرف والإرهاب والإباحية والمثلية والهوية الجنسية والأزمات الإقتصادية الطاحنة وأخطار الحروب والقلاقل، إلخ)، ولكن أيضاً هي فرص للشهادة والنمو لكنيسة “قامت بذارها علي دماء الشهداء” من كل نوع.
والتدبير الكنسي القائم علي العمل المؤسسي هو المؤهل – بنعمة المسيح – علي تعامل الكنيسة مع هذه التحديات بأسلوب عصري وعلمي تحت مظلة النعمة وبإرشاد الروح القدس.
ولاشك أن قدرة أي مؤسسة علي إستمرارية التواجد والتأثير مرهون بقدرتها علي الإستجابة لإحتياجات أعضائها، والتي تتغير مع معطيات وتحديات العصر (وتاريخ الكنيسة في العالم يوضح كيف تزحزحت منارات كنائس لم تنجح في مواجهة التحديات التي واجهتها (أنظر تحذير سفر الرؤيا 2: 1-7)
خامساً: محاور تطوير العمل المؤسسي في الكنيسة
السعي المستمر نحو النمو هو وصية كتابية “لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلَكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً الْمَسِيحُ يَسُوعُ. أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ. أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (في 3: 12 – 14).
وهذه الوصية موجهة للعضو كما هي موجهة للجسد كله (الكنيسة). وللكنيسة القبطية ميراث مُشرِّف في تاريخ التطوير المؤسسي الذي قام به قديسو الكنيسة عبر العصور، ويذكر سنكسار الكنيسة منهم امثلة، علي سبيل المثال لا الحصر، القديس البابا كيرلس الرابع (ابو الإصلاح)، والقديس البابا كيرلس السادس (مؤسس الأسقفيات العامة ومؤسس خدمة المهجر) والقديس حبيب جرجس (باعث نهضة التعليم ومؤسس مدارس الأحد).
التطوير الكنسي بين الثوابت والمتغيرات:
في أي عملية تطوير كنسي ينبغي مراعاة:
– الحفاظ علي الثوابت : (الإيمان المسيحي– العقيدة الأرثوذكسية– التسليم الرسولي – التعليم الأبائي الأرثوذكسي)
– الإستجابة لمتغيرات العصر وأحتياجات الشعب من أجل توصيل رسالة الكنيسة الخلاصية (أمثلة: أسلوب وأدوات التعليم –تطوير برامج الخدمة – إستحداث برامج رعاية جديدة تناسب إحتياجات الفئات المختلفة من الشعب – تطوير النظم الإدارية في الكنيسة – تطوير برامج الرعاية الإجتماعية و المشروعات التنموية – إلخ).
محاور التطوير المؤسسي في الكنيسة:
التدبير الكنسي من خلال العمل المؤسسي يساعد الكنيسة علي تحقيق أربعة أهداف رئيسية: تعميق الهوية، تنمية وزنات وموارد الكنيسة، تطوير الخدمات، وتحديث أدوات القيادة والإدارة. وهذه الأهداف الأربعة هي نفسها محاور تطوير العمل الكنسي.
فما المقصود بهده الأهداف، وما هي وسائل تحقيقها؟
1- تعميق الهوية: من خلال تطوير أساليب التعليم المسيحي والتكوين الكنسي الأرثوذكسي، والـتاصيل الكتابي والآبائي والتلمذة والتسليم والحياة الروحية الكنسية (ببعديها الشخصي والجماعي) بما يساعد علي تكوين شخصية مسيحية ناضجة وشبعانة، تفخر بإنتمائتها المتعددة (للمسيح – للكنيسة – للأسرة – للمجتمع – للوطن – للإنسانية) فتستطيع أن تواجه بعمق وإنفتاح واعي كل تحديات العصر. كذلك ترويج ثقافة العمل المؤسسي المنظم، وتدريب كوادر القادة والخدام في الكنيسة علي ذلك.
2- تنمية وزنات وموارد الكنيسة: من خلال إكتشاف وتشغيل كل وزنات الكنيسة (البشرية والفنية والمالية والمادية والمعلوماتية) وحسن إستثمارها لمجد المسيح ولعضوية حية وفاعلة في الكنيسة.
3- تطوير خدمات الكنيسة، من خلال التخطيط والتهديف الجيد لكل نشاط تقوم به الكنيسة، والحرص علي جودة الخدمات من خلال المتابعة والتقويم المستمر بهدف تحقيق رسالة الكنيسة الروحية الخلاصية في المقام الأول ونمو أعضاء الكنيسة في المسيح، وتقديم شهادة حية.
4- تحديث أساليب القيادة والإدارة الرشيدة في صناعة وإتخاذ القرارات، تفعيل هياكل المشاركة المتنوعة، التواصل الداخلي والخارجي الفعال، تكوين علاقات شراكة، الشافية والمساءلة المتعددة
وفي هذا السيمينار سوف يتم عرض ومناقشة مجموعة من النظم والأدوات العلمية والعملية والتي يقترحها المعهد لمساعدة الأب الأسقف في تدبير الإيبارشية أو الدير بشكل مؤسسي، والتي توضح كيف يمكن تطوير الخدمة بشكل تطبيقي وعلمي. وهي تشمل ثلاث جوانب:
– تدبير وتنمية الموارد البشرية (ورشة العمل الأولي)
– تدبير وتنمية الموارد المادية (ورشة العمل الثانية)
– الإتجاه من خدمة الإحسان الي خدمة التنمية وخاصة للأسر والمجتمعات الفقيرة (ورشة العمل الثالثة).
وقد تم إختيار هذه الحزمة من الأدوات في ضوء توصيات الأباء الأساقفة في إستطلاع الأراء الذي تم قبل السيمينار ، كذلك نتائج الدراسة التي قام بها المعهد مع مجموعة من قيادات وخدام الكنائس التي شاركت في تدريبات المعهد (والذي سيأتي تفصيلهما في المحاضرة التالية).
الخلاصة:
للكنيسة دور محوري في خلاص الإنسان، ولذلك فإن حياة الكنيسة ونموها وصحتها وتدبيرها وتطويرأساليب خدمتها تشكل جزء أساسي من وجدان وإهتمام كل مسيحي خادم.
التدبير الكنسي هو إمتداد للتدبير الإلهي للخلاص، وهو أساس لكل خدمتها
المنظور المؤسسي للكنيسة مقصود به تدبير منظومة الخدمة المتكاملة (الروحية – الرعوية – الإدارية) بشكل يستند الي مباديء الجماعية والمرجعية والعضوية في الجسد الواحد والتلمذة وتكوين الصف الثاني.
الركائز الرسولية التي تقوم عليها الكنيسة هي: الليتورجية (العبادة)– الكينونية (الشركة)- الدياكونية (الخدمة) – المارتيرية (الشهادة) – الإكونومية (التدبير)؛ و”للتدبير” موضع محوري في هذه الركائز، إذ يقوم بالتنسيق والترابط بينها من أجل تحقيق أقصي قدر من التناغم والتكامل بين كل المواهب والوزنات.
منهج السيد المسيح في تدبير الكنيسة: بناء قادة الخدام، بناء نظم للخدمة، بناء مناخ داعم للنمو، والعمل كجسد واحد (السينرجي). وقد تتبع التلاميذ نفس المنهج في تدبير الكنيسة في العصر الرسولي. والكنيسة المعاصرة تستلهم نفس المنهج في تدبير وتطوير خدمتها.
التدبير الكنسي يشمل كل نواحي الحياة الكنسية والخدمة: روحياً (خلاص نفس كل عضو في الكنيسة وهي الرسالة الأساسية للكنيسة)؛ ورعويا (الرعاية الروحية والإجتماعية لكل المجموعات المتنوعة في شعب الكنيسة)؛ وإداريا (إستخدام كل وزنات الكنيسة بأسلوب إداري رشيد لتحقيق رسالة الكنيسة). وهذه هي الثلاث مجالات الأساسية للتدبير الكنسي.
هياكل المشاركة في تدبير الكنسية (مجمع الآباء الكهنة – أمانة قطاعات الخدمة – مجلس الكنيسة) تساعد علي توزيع واضح للأدوار، تعظيم الإستفادة من كل الطاقات، إستثمار لوزنات الكنيسة ومواهب أعضائها – كلٌ في مجاله – ويثمر عن كنيسة مهدفة ومثمرة ونامية.
تقع مسؤلية قيادة التدبير في الكنيسة أساسا علي الأب الأسقف أو الأب الإيغومانوس ومن ينوبه، إلا أن نجاح التدبير هو مسؤلية كل أعضاء الكنيسة، من خلال العضوية الحية والشركة الحقيقية لكل عضو.
التدبير الكنسي من خلال العمل المؤسسي يساعد الكنيسة علي تحقيق أربعة أهداف رئيسية: تعميق الهوية، تنمية وزنات وموارد الكنيسة، تطوير الخدمات، وتحديث أدوات القيادة والإدارة. وهذه الأهداف الأربعة هي نفسها محاور تطوير العمل الكنسي.
قائمة المراجع الأساسية (للإستزادة)
الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد)
الدسقولية – تعليم الأباء الرسل في الرعاية والقانون الكنسي – إعداد وتعليق د. وليم سليمان قلادة 1979
الكهنوت المسيحي – القديس يوحنا ذهبي الفم
الكنيسة المسيحية في عصر الرسل (المتنيح الأنبا يؤانس أسقف الغربية)
أرثوذكسية التدبير الإداري في الكنيسة القبطية، نيافة الأنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية 2006، دمنهور كلية القديس اثناسيوس الإكليريكية
الكهنوت – البابا شنوده الثالث – الكلية الإكليريكة بالقاهرة
الخدمة الروحية والخادم الروحي – البابا شنوده الثالث– الكلية الإكليريكة بالقاهرة
درس من عظة. (الجزء 3 )– قداسة البابا تواضروس الثاني – بطريركية الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة
ركائز الحياة الأرثوذكسية. نيافة الأنبا موسي أسقف الشباب – اسقفية الشباب
الكنيسة في فكر الآباء (علم الإكليسولوجي) – القمص أثناسيوس فهمي جورج 2019
الشهادة المسيحية في عصر جديد (القيادة – الإدارة – التنمية – المواطنة) – د. مجدي لطيف السندي – اسقفية الشباب 2013
التدبير الإلهي في تأسيس الكنيسة وترتيب نظام الكهنوت – أحد رهبان برية القديس مقاريوس
التدبير الإلهي في بنيان الكنيسة – – أحد رهبان برية القديس مقاريوس
الوجود شركة – المطران يوحنا زيزيولاس – مؤسسة القديس أنطونيوس – المركز لالأرثوذكسي لدراسات الآباء
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية – القمص تادرس يعقوب ملطي – كنيسة مارجرجس سبورتنج
كتاب قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض شخصيات كنسية – القمص تادرس يعقوب ملطي” كنيسة مارجرجس سبورتنج. 1985
الحب الجامع أو دور الشعب كنسياَ – القمص تادرس يعقوب ملطي – كنيسة مارجرجس سبورتنج
دائرة المعارف الكتابية – دار الثقافة
الكنيسة المنطلقة نحو الهدف – ريك وارين – معهد تدريب القادة بالشرق الأوسط 2005
سر الحوكمة الناجحة – د. رياض قسيس و د. نبيل قسطة – دار منهل الحياة 2012
الإدارة الكنسية – القس د صموئيل حبيب دار الثقافة 1988
كن قائداً – جون إدموند هاجاي – معهد هاجاي 2003
لوائح المجمع المقدس للكنيسة القبطية الارثوذكسية
مراجع مزيدة باللغة الانجليزية
The Orthodox Study Bible; St. Athanasius Academy of Orthodox Theology, Elk Grove California, Thomas Nelson publisher, 2008
The Maxwell Leadership Bible, Lessons in Leadership from the Word of God; 2007
Empowering Leadership, Dr Anthony De Souza, Haggai Institute
Lead on, John Edmond Haggai, Haggai Institute
The blessed church. Robert Morris, Water Brook Pres, 2012
“Performance enquiry of NGOs: a proposed analytical framework in the primary health care setting”, Magdy El-Sanady, published by Lambert Academic Publishing, (2009)